لطالما استخدمت السعودية الدين في خدمة أهدافها السياسية؛ منذ نشأتها على أساس ديني قام بالتحالف ما بين سلطة سياسية يقودها “آل سعود”، وسلطة دينية يقودها “آل الشيخ”، ولم ينفك هذا الترابط حتى اليوم.

وسعت السعودية إلى تمويل تيارات دينية في العالم العربي بغية تحقيق أهدافها في المنطقة، ونشرت “مذهب محمد بن عبد الوهاب” الذي تتبناه قدر المستطاع في العالم الإسلامي.

وكان من أبرز التيارات التي صعدت في المملكة خلال العقود الماضية هو تيار “المداخلة” الذي ينحدر من “السلفية”، إلا أنه يبالغ في مبدأ طاعة ولي الأمر مهما كان الحدث جللاً، ومهما عم الاستبداد أو الطغيان السياسي في البلاد.

ما هو التيار المدخلي؟

تعود تسمية تيار “المداخلة” أو المدخليين إلى إمامهم الشيخ ربيع المدخلي المدعوم من قبل السلطات السعودية.

وهو شيخ سعودي من مواليد 1932، بمدينة جازان جنوبي المملكة، وهو من تلامذة مفتي السعودية البارز الشيخ الراحل عبد العزيز بن باز.

ويطلق على تياره اسم “غلاة الطاعة” نسبة إلى إفراطهم في مسألة طاعة السلطان أو نظام الحكم في البلد الذي يوجدون فيه.

كما يطلق على التيار اسم “التيار الجامي” نسبة إلى شيخ آخر شهير هو محمد أمان الجامي، حيث يتشابه التياران بشكل كبير، خصوصاً أن المدخلي من أبرز تلامذة الجامي.

والتيار المدخلي تيار سياسي يقوم أساسه المنهجي على رفض الطائفية والفرقة والتحزب، وهو بالتحديد تصنف ضمن التيارات السلفية، حيث كانوا لا يدخلون في الشأن السياسي قبل الربيع العربي أبداً، لكن بعده دخلوا في الشأن السياسي كما حصل في مصر وليبيا بتمويل من السعودية.

ومن أدبيات المداخلة الأساسية ومذهبهم عدم جواز معارضة الحاكم مطلقاً، وعدم إبداء النصيحة له في العلن، ومخالفة هذا الأصل تعتبر خروجاً على الحاكم المسلم، وهو غير جائز في اعتقادهم.

ويتمايز التيار المدخلي عن غيره من التيارات في اعتباره أن الجماعة المسلمة هي الدولة والسلطان، ومن هذا الأصل والمنطلق تشن هجومها الحاد على الجماعات الإسلامية والحزبية (خصوصاً الإخوان المسلمين)؛ لأنها ضد مفهوم الجماعة -بحسب رأيهم- ومن ثم فهم خوارج ومبتدعة في الدين تجب معاداتهم ومحاربتهم ويجوز قتلهم.

وانتشر لتلامذة المدخلي وأتباع تياره مقاطع مصورة مثيرة للجدل حول طاعة ولي الأمر في السعودية، لدرجة قولهم: “لو خرج الحاكم على التلفزيون مباشرة يزني ويشرب الخمر لنصف ساعة إن كنت أمامه فأنكر عليه ولو بصوت مرتفع، أما إن كنت خلفه فلا تذكر اسمه ولا تنكر عليه بطريقة تحرض عليه”.

واستفادت السعودية من هذا الخطاب بعد ثورات الربيع العربي واستغلته لصالحها في سعيها لإفشال نجاح الشعوب بالتخلص من الأنظمة المستبدة، فأحيت هذه التيارات من جديد أو أسست لها وجوداً في العديد من الدول بهدف تقويتها.

مداخلة ليبيا

ورغم أن التيار المدخلي لم يكن يتدخل في الشأن السياسي، إلى درجة تحريم الديمقراطية والانتخابات ودخول البرلمان، فإن ذلك تغير بعد الربيع العربي.

وفي عام 2017 برز التيار المدخلي في ليبيا بعد أن دعمت كتائب تابعة له مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، والذي يلقى دعماً هائلاً من الإمارات ومصر والسعودية وروسيا وفرنسا بغية السيطرة على الحكم عبر قوة السلاح.

وكان أتباع التيار منذ العقد الماضي يركزون جل اهتماماتهم على مظاهر التدين من لباس وإطالة لحى مع تأكيدها في فترة انتشار القنوات الدينية الممولة من الرياض.

ومع وصول الثورة إلى ليبيا استغل الساعدي القذافي المحسوب على التيار السلفي (نجل الرئيس المخلوع معمر القذافي) فتاوى المداخلة وغيرهم من التيارات السلفية التي “تحرم الخروج على الحاكم وتعتبرها فتنة” لصالح والده، إلا أن مساعيه فشلت وسقط نظام والده وفر هو إلى النيجر.

ورغم عدم مشاركة “المداخلة” في أول انتخابات تشريعية في البلاد باعتبارها “بدعة” فإنهم دخلوا سباق الانتخابات البرلمانية الثانية التي أفرزت برلمان “طبرق” الذي يدعم حفتر حالياً، إثر فتاوى من شيوخه في المملكة ودول أخرى.

وفي عام 2014، انتشر مقطع صوتي لشيخ التيار، ربيع المدخلي، يحث أتباعه على دعم حفتر في معركته التي أطلق عليها اسم “عملية الكرامة”، معتبراً أنه القائد الشرعي المخول من ولي الأمر، في إشارة إلى البرلمان الذي عين حفتر قائداً عاماً للجيش.

وأيّد المدخلي أكثر من مرة تحركات حفتر العسكرية التي تسببت بتأخير انتهاء المرحلة الانتقالية في ليبيا والتأسيس لحياة دستورية وديمقراطية في البلاد.

ودعا المدخلي في تسجيلاته إلى “اعتقال رؤوس الإخوان المسلمين الكبار، حتى يسير الشعب وراءه (حفتر)، كما فعل (الرئيس عبد الفتاح) السيسي في مصر”.

وفي ديسمبر الماضي، قال ربيع المدخلي إنه لا يذكر إصداره فتوى بمشروعية حرب حفتر على العاصمة طرابلس والوقوف معه والالتفاف حوله.

واستنكر المدخلي في لقائه مع رئيس الهيئة العامة للأوقاف والشؤون الإسلامية بحكومة الوفاق محمد العباني، استعانة حفتر بالمرتزقة الروس للقتال معه في عدوانه على طرابلس.

ونشر العباني سؤاله للمدخلي قائلاً: “هل أنت حقاً أفتيت بدخول حفتر إلى طرابلس؟”، مشيراً إلى أن أتباعه يقاتلون ويدعون للقتال مستندين على فتواه، ناقلاً جوابه بقوله: “والله ما أذكر، ما أدري”، داعياً إلى توجيه الأسئلة لهيئة كبار العلماء، وفق وسائل إعلام ليبية.

وفي أبريل 2019، أطلق حفتر معركة هي الأعنف ضد العاصمة طرابلس، قبل انعقاد مؤتمر جامع للحل السياسي بين الليبيين بهدف السيطرة عليها وإنهاء دور حكومة الوفاق المعترف بها.

وتضم مليشيات حفتر قوات تتبع للتيار المدخلي؛ ومن أبرزها كتيبة مجموعة “الخمسين” بقيادة المطلوب دولياً محمود الورفلي، وكتيبتا “التوحيد 210″ و”طارق بن زياد” وتضم متشددين من التيار.

كما تحوي مليشيات حفتر “كتيبة العاديات” من مدينة الزنتان، و”مباحث صرمان”، و”سبل السلام” من مدينة الكفرة التابعتين للتيار نفسه، فضلاً عن “قوة الردع أجدابيا” و”كتيبة الوادي” من صبراتة.

وينتشر المداخلة اليوم في عموم الشرق الليبي (تقع تحت سيطرة حفتر)، وأصبحوا داخل مفاصل الدولة بعد أن كانوا معتزلين لها لأكثر من نصف قرن، وصارت إليهم إدارة وزارة الأوقاف.

كما أنهم أسسوا دور إفتاء توزعت في المناطق الشرقية من البلاد، وعينوا أئمة يأتمرون بأمرهم ويدعون لحفتر في الصلوات وخطب الجمعة.

استخدام سعودي

ورغم أن التمويل الأساسي لحفتر هو من الإمارات التي تمده بكل أنواع السلاح إلى درجة استجلاب المليشيات وتمويلها، فإن أذرع السعودية موجودة أيضاً؛ بهدف كسر الوجود التركي وإنهاء سيطرة الحكومة الشرعية على البلاد.

ويعد دعم التيار المدخلي الليبي المسلح مصلحة جيوسياسية للرياض، حيث إن قياداته تربت على يد مشايخها وأبرز رموزها، والذين يفتون وفق هواها.

وذكر الصحفي صامويل رماني، في مقال له بموقع “ميدل إيست آي”، يوم الأربعاء (26 فبراير 2020)، أن السعودية والإمارات قلقتان من تزايد نشاط تركيا في ليبيا لصالح حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً.

ويبدو انخراط السعودية المتعاظم في ليبيا واضحاً –وفقاً لرماني- في المجالين الدبلوماسي والعسكري.

ومع أن مقال  الكاتب عزا مضاعفة السعودية دعمها لحفتر إلى تدخل أنقرة العسكري في ليبيا، فإن بعض المحللين الأتراك والليبيين أبدوا قلقهم إزاء محاولات السعودية إقامة مجال نفوذ لها في ليبيا.

ويرى رماني أن هذا القلق مرده إلى انحياز السعودية إلى التيار المدخلي السلفي، الذي شكل مليشيات موالية لحفتر تتبنى رؤية متطرفة للإسلام.

ويزعم تانزو أوزتاس، خبير الشؤون الأمنية بمركز “تي آر تي وورلد” للأبحاث، أن السعودية تسعى لتأسيس تحالف بين أنصار التيار المدخلي والجماعات السلفية في مدينة مصراتة، وهو ما من شأنه أن يُعزز مكانة السعودية كصاحبة مصلحة جيوسياسية رئيسية في ليبيا.

ورغم أن السعودية نهضت بدور أقل وضوحاً في ليبيا من ذلك الذي ظلت تؤديه الإمارات، فإنها تكفلت –حسب تقارير- بتقديم مساعدات مالية بعشرات ملايين الدولارات قُبيل شن حفتر هجومه على طرابلس، وفق “الجزيرة نت”.