بقلم/ عمر الشهابي
قابلت آلاء الصديق لأول مرة عام 2014، في إحدى اللقاءات التي كانت تجمع الشباب المهموم بمآلات الخليج والوطن العربي الأوسع خلال تلك الفترة الحرجة. أخذ التواصل بيننا شكلا أكثر دورياً عندما قَبِلت بكتابة ورقة مستجدات الإمارات في سلسلة “الخليج بين الثابت والمتحول” الصادرة من مركز الخليج لسياسات التنمية ابتداءً من إصدار عام 2016. والحقيقة أن آلاء قد حملت عنا عبئاً كبيراً كمحررين، فقد كنا نصر أن يتولى باحث من الخليج كتابة ورقة مستجدات كل دولة، وكان البحث عن شخص لديه الجرأة والاستعداد والكفاءة والقدرة لكتابة ورقة مستجدات الإمارات دائماً المهمة الأكثر صعوبة والهاجس الأكبر لنا، لأسباب لا تخفى على المتتبع للأوضاع في الخليج على مدى آخر عقد من الزمن.
انخرطت آلاء في كتابة الورقة كل عام بلا كلل، بل كانت تتواصل معنا بنفسها لتستفسر عن موضوع الاصدار القادم وموعد تسليم الورقة، إذ كانت ترى أن أوراق مستجدات الدول تمثل محاولة مصيرية من أبناء المنطقة لتوثيق وتحليل أحداث خليجهم بأنفسهم للأجيال الحالية والمستقبلية، حتى يتكون على مر السنوات مستودعاً يوثق مسار كل من دول الخليج العربية ضمن إطار أوجه الخلل المزمنة التي تواجهها. وبذلك حوّلت آلاء هاجسنا عمن سيكتب الورقة الأصعب إلى شعور بالاطمئنان بأنها أول ورقة نعرف من سيعمل عليها، إذ أصبح لدينا آلاء. وستتكرر هذه المقولة – “لدينا آلاء” – بشكل دوري منا ومن الكثير ممن تفاعلوا معها.
وكنا كمحررين للإصدار نطلب من المؤلفين تبنى لغة ومنهج توثيقي-تحليلي عند كتابة ورقة المستجدات، حيث نصر على الابتعاد عن الطرح السائد في التقارير الحقوقية، في مقابل تقديم أوجه النظر والخطابات المختلفة، بما فيها وجهة النظر الرسمية. فلنا أن نتخيل كم كان ذلك صعباً لشخص في موضع آلاء حين تكتب عن محاكمات واعتقالات طالت أهلها ومعارفها. إلا أنها لم تبد امتعاضاً أو اعتراضاً ولا مرة واحدة، بل واصلت العمل مستجيبة لمتطلباتنا ونمط كتابتنا سنة بعد سنة، لتصبح المؤلف الأكثر مشاركة في سلسلة “الخليج بين الثابت والمتحول” منذ انطلاقها. وسيكون العدد القادم من الثابت والمتحول 2021 هو آخر إصدار نحظى بمساهماتها فيه، فلم يعد لدينا آلاء. ومع ذلك ستبقى كتاباتها عبر السنين نبراساً نحو مقاربة أوجه الخلل المزمنة التي تواجه المنطقة، والتطلع إلى مستقبل أفضل مبني على الديمقراطية والوحدة والتنمية.
وبعد انتشار خبر وفاتها، بينت الردود والتفاعل سعة رقعة اهتماماتها ومعارفها وأنشطتها، التي طالت حقول الشعر والكتابة البحثية والعمل الحقوقي على مستوى الخليج وفلسطين والوطن العربي الأوسع. وهنا يجدر بي الاعتراف أنه كلما نظمنا فعالية عن الخليج وكنا نحتاج الى صوت مستقل من الإمارات، كانت آلاء هي الوجهة الأولى. فعند توقيع اتفاقية “السلام” مع الكيان الصهيوني في أغسطس عام 2020، قرر ائتلاف الخليج ضد التطبيع تنظيم ندوة طارئة يشارك فيها ممثل من كل من دول مجلس التعاون الستة، وخصوصاً من الإمارات الدولة المعنية بالحدث. تواصلت معها بناءً على مبدأ “لدينا آلاء”، ولم تتردد في المشاركة على الرغم من ضيق الوقت وحالة الصدمة والإحباط والخوف السائدة، وقدمت مداخلة استثنائية سيتم تخليدها كصوت الخليج الحي الذي يقول “نحن هنا حتى في أحلك الأوقات”.
عبر السنين السبعة التي عرفتها فيها، كانت آلاء تتواصل معي كل بضعة أشهر بمشروع وموضوع جديد قد استولى على شغفها وطاقتها، فتارة تسأل عن مقالة لي حول العلاقة بين البيئة والمدينة في الخليج بغية تحويله إلى فيلم رسوم متحركة قصير، وحيناً آخر ترغب بمناقشة تاريخ الطائفية في الخليج وإمكانية تناوله في فيلم وثائقي، وتعود بعد فترة لتستفسر عن أفضل المراجع عن قضية البدون في كل من دول المجلس. ودائماً ما كان اهتمامها مرتكزاً على مواجهة الظلم والتهميش في سبيل التغيير نحو مستقبل أفضل.
آخر مرة قدر لي لقائها كان في منفاها الأخير في لندن بعد محاضرة ألقيتها عن تاريخ العلاقات بين الخليج وفلسطين في فبراير عام 2020. كانت دقائق معدودة، لكن سيبقى لها معزة خاصة بالنسبة لي، خصوصاً وأنها أصرت على الحضور في خضم تأقلمها مع غربتها الجديدة. وكعادتها كان في جعبتها الكثير من المشاريع والآمال والأحلام، بما فيها نيتها الالتحاق ببرنامج دكتوراه، وكان هذا موضوع آخر تواصل دار بيننا خارج إطار “الخليج بين الثابت والمتحول”، حيث ناقشنا الجامعات والمشرفين والمواضيع المحتملة التي بودها التعمق فيها. وكانت جامعة أوكسفورد في أعلى قائمتها، وكان قدرها أن يوافيها أجلها المحتوم في شوارع المدينة التي تحتضن هذه الجامعة.
صحيح أنه لم يكن مكتوباً لها أن تنخرط في برنامج دكتوراه، وصحيح أنه لم يعد لدينا آلاء، لكن بقيت أنشطتها وأعمالها وكتاباتها وذكرياتها التي ستعيش معنا لوقت طويل، وهي أغلى وأثمن من أية شهادة ورقية.
رحم الله آلاء، والخلود والرحمة لروحها، وأعان الله أحبائها وذويها وألهمهم الصبر والسلوان.