في آخر حوار موسع، تطرق فيه إلى مواضيع عديدة تشهدها منطقة الشرق الأوسط، بيَّن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان سعي بلاده لبناء سلام شامل بالمنطقة، وإنهاء الخلافات والنزاعات والصراعات التي تشتعل في عدد من البلدان منذ سنوات.

لكن ما ذهب إليه بن سلمان، وتوصيفه حكومة بلاده -التي يُعتبر “القائد الفعلي” لها، بحسب ما أكده في مرات عديدة، لوسائل الإعلام، أمراء من العائلة الحاكمة يعارضون الحكومة الحالية، ومقربون من دائرة الحكم بالرياض- يخالف ما تمارسه، لا سيما أن الإدانات حول “جرائم” عديدة متهمة بها الرياض، تصدر من جهات دولية وشخصيات سياسية عالمية.

فجريمة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، التي وقعت داخل قنصلية الرياض في مدينة إسطنبول التركية، في 2 أكتوبر الماضي، اعتُبرت أحد أبشع الاغتيالات لإسكات المعترضين وإرهاب الصحفيين وأصحاب الرأي.

إذ اعترفت السعودية، بعد أكثر من أسبوعين من النفي، بوقوع الجريمة داخل قنصليتها، لكنها لم تكشف حتى اليوم عن مكان الجثة التي تطالب بها أُسرة خاشقجي، وتقول الرياض إنها تحقق مع المتهمين الذين قتلوه داخل القنصلية، في حين أن أدلة كشفت عنها تحقيقات أمنية تركية، تفيد بأن الجريمة وقعت بتحريض من محمد بن سلمان نفسه.

بن سلمان في حوار أجرته معه صحيفة “الشرق الأوسط”، نشر الأحد (16 يونيو الجاري)، وصف مقتل جمال خاشقجي بأنه “جريمة مؤلمة جداً”، وقال إن المملكة تسعى “لتحقيق العدالة والمحاسبة بشكل كامل” في القضية، “من دون التفات إلى ما يصدر من البعض لأسبابهم الداخلية التي لا تخفى على أحد”.

وعلى الرغم من الأدلة العديدة التي نشرتها تركيا بعد تحقيقات موسعة وشاملة، تفيد بوجود خطة مبيَّتة لقتل خاشقجي، بتوجيه من شخصيات ذات نفوذ داخل دائرة الحكم بالسعودية ومقربة من ولي العهد محمد بن سلمان، فإنه وصف في حواره مع “الشرق الأوسط” هذه الأدلة بأنها “سياسية”!

 

بين السلام والحصار

بلدان الخليج العربي التي شهدت نجاحات طالما تمنَّاها العرب؛ إذ أصبحت كياناً شبه موحَّد ضمن منظومة “مجلس التعاون الخليجي” الذي تأسس في 25 مايو 1981، شهدت خلافات واسعة منذ أن فرضت السعودية والإمارات والبحرين ومصر حصاراً على قطر في يونيو 2017؛ إذ يتهم الرباعي دولة قطر بدعم الإرهاب في حين تقول الأخيرة إن غاية هذه الدول هو التأثير على قرارها السيادي.

مساعٍ كثيرة قادتها دول وشخصيات عربية ودولية لإزالة الخلاف وإعادة اللُّحمة الخليجية مرة أخرى، لا سيما بعد أن تسبب الحصار في أذى لشعب قطر، بشكل خاص، والشعوب الخليجية بشكل أعم؛ إذ ترتبط هذه الشعوب بعلاقات مصاهرة، فضلاً عن المصالح الاقتصادية والوظائف، لكن دول الحصار، خاصةً السعودية والإمارات، كانت تُجهز على أي مبادرة لإنهاء الحصار.

وأبرز مَن تولى مهمة إزالة الخلاف الخليجي أميرُ دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح، الذي حذَّر في عدة مرات، من عواقب بقاء الخلاف، بعد أن تأكَّد له إصرار دول الحصار على موقفها.

وعلى الرغم من الأضرار التي سببها الحصار للقطريين، وتعريضه الوحدة الخليجية للتفكك، فإن بن سلمان جعل بلاده في الحوار عرّابة سلام ليس فقط بالخليج، بل في المنطقة والعالم العربي.

 

زيف الرخاء

بن سلمان أكد أن بلاده تسعى ليس فقط لازدهار داخلي، بل إنها تدعم نشر الازدهار بالمنطقة، وقال: “يجب ألا نكون أسرى لأوضاع راهنة مؤقتة تمنعنا من العمل على تحقيق واجبنا الأول بصفتنا قادة في المنطقة، وهو النهوض بدولنا. ويجب ألا تشغلنا تحديات اليوم عن العمل بشكل حثيث لتحقيق مستقبل أفضل للأجيال القادمة”.

 

وأضاف: “يوجد إجماع بين الغالبية العظمى لدولنا على أولوية العيش الكريم للمواطن، وتحقيق أمن واستقرار أوطاننا. لا تريد شعوبنا أن تكون أسيرة لنزاعات آيديولوجية تهدر فيها مقدراتها. واليوم وبشكل غير مسبوق، أصبح هدف الجميع واحداً، وبات التنافس بين معظم دولنا على تحقيق أفضل معايير الحياة للمواطن، وجذب الاستثمارات وتحقيق التنمية في المجالات كافة”.

وفي حين أكد تحقُّق “الأمن والاستقرار والرخاء” بالسعودية، وأن الهدف جعل بلاده في موقع الصدارة، شدد بالقول: “لن يهدأ لنا بال حتى نحقق هذا الهدف لوطننا أولاً ثم لأشقائنا في المنطقة”.

لكن الطموح الذي تحدث عنه ولي العهد السعودي، ووجود خطط لجعل البلدان العربية في الصدارة بجميع المجالات الحياتية، يتعاكسان مع الواقع الذي تعيشه الرياض.

فاتهامها بارتكاب الجرائم لم يتوقف فقط على “اغتيال خاشقجي” أو حملة الاعتقالات التي طالت دعاة ونشطاء وأمراء، لمجرد اعتراضهم أو إبدائهم آراء مخالفة لتوجهات الحكومة، بل وصلت إلى اعتقال شخصيات لمجرد نشرها تغريدة في “تويتر” تحمل دعاءً بالألفة والإصلاح، وهو ما جرى مع الداعية المعروف الشيخ سلمان العودة، الذي دعا بالألفة في إشارة إلى “الأزمة الخليجية”، بل إن جريمة بشعة ترتكبها السعودية بحق الشعب اليمني تثير استياءً عالمياً.

 

إجهاض تطلعات الشعوب

وبحسب منظمات حقوقية دولية، فإن السعودية تسببت في مقتل آلاف اليمنيين وتشريد الملايين منهم، بمواصلتها قيادة الحرب في اليمن منذ خمس سنوات؛ دعماً لحكومة عبد ربه منصور هادي ضد مليشيا الحوثي.

وخلال هذه السنوات انتشرت في اليمن أمراض فتَّاكة، فضلاً عن الفقر والفاقة والجوع، في حين تصرُّ السعودية على إدامة الحرب.

وعن ذلك قال محمد بن سلمان: “سنواصل عملياتنا (…) مهما كانت التضحيات”، مستطرداً بالقول: “هدفنا ليس فقط تحرير اليمن من المليشيات الإيرانية، وإنما تحقيق الرخاء والاستقرار والازدهار لكل أبناء اليمن”!

من بين أروع الصور كانت تلك التي تجسدت في السودان، حيث نجح الشعب في الإطاحة بحكومة البشير، من خلال تظاهرات سلمية اشترك فيها مختلف اطياف الشعب.

لكن سرعان ما تحوَّل الحال بعد تدخُّل السعودية والإمارات، إذ اتخذت الدولتان مواقف داعمة للمجلس العسكري المؤقت، ليشهد السودان في 3 يونيو الجاري، فض اعتصام مدني بقوة السلاح، قُتل فيه أكثر من 100 شخص.

وفي ليبيا وقفت السعودية إلى جانب اللواء المتقاعد خليفة حفتر، لتنتهي المفاوضات بينه وبين حكومة الوفاق المعترف بها دولياً، ويشن هجوماً على العاصمة الليبية طرابلس في 4 أبريل الماضي، وما تزال قواته تحاول تحقيق تقدُّم بالمحاور الجنوبية للمدينة، في حين تقصف طائراته مواقع عدة لقوات حكومة “الوفاق”.

وزار حفتر الرياض يوم 27 مارس الماضي، وأجرى مباحثات مع ملك السعودية وولي عهده محمد بن سلمان وعدد من المسؤولين السعوديين، بينهم رئيس الاستخبارات العامة.

وفي سوريا سبق أن استبعد بن سلمان إزاحة بشار الأسد من السلطة، وقال إنه “باق”، في تجاهُل لمعاناة ملايين السوريين من جراء الجرائم التي ارتكبها بحقهم.

كما تعلو الأصوات الكاشفة عن دعمه لما يُعرف بـ”صفقة القرن” التي تنتقص من حقوق الشعب الفلسطيني وتُنهي قضيتهم المحقة، فقد حاول رشوة السلطة الفلسطينية بـ10 مليارات دولار مقابل قبولهم للصفقة، كما تدعم بلاده ورشة البحرين الاقتصادية التي تسوّق لها.

 

انفصال عن الواقع

ويواصل بن سلمان الترويج لـ”رؤية 2030″ التي أثارت جدلاً وسخرية وانتقاداً، فيما يشبه انفصالاً واضحاً عن الواقع.

وقال في هذا الصدد: “ما يحدث في المملكة ليس فقط مجموعة إصلاحات مالية واقتصادية لتحقيق أرقام محددة، وإنما هو تغيير هيكلي شامل للاقتصاد الكلي للمملكة، هدفه إحداث نقلة في الأداء الاقتصادي والتنموي على المديَين المتوسط والطويل”.

وتابع: “لقد قمنا بإصلاحات اقتصادية وهيكلية كبيرة تسهم في تحقيق التوازن المالي، وضبط المالية العامة، وتنويع مصادر الدخل، مع المحافظة على استمرارية نمو الاقتصاد الكلي، واستدامة المالية العامة، ودعم الإنفاق الاجتماعي، ورفع كفاءة الإنفاق الحكومي، وتحفيز القطاع الخاص الذي يمثل الشريك الرئيس في النمو والتنمية وتحقيق مستهدفات الرؤية”.

زيف كلام بن سلمان تكشفه التقارير الدولية الرصينة، ففي يونيو الماضي، أكد تقرير نشره موقع “ستراتفور” الأمريكي، أن العقد الاجتماعي بين الحكام السعوديين والمواطنين بات أكثر تفككاً، مع تنامي خيبة أمل الشعب في خطط التحول الاقتصادي الذي يقوده ولي العهد محمد بن سلمان ضمن ما يُعرف بـ”رؤية 2030″، التي لم ير المواطن منها سوى الوعود والأحلام.

وبحسب التقرير، فإنَّ تزايد السخط الشعبي أدى إلى دفع صُناع السياسة السعوديين إلى البحث عن استراتيجيات جديدة تُمكنهم من توفير مزيد من الفرص لشعبهم.

ووفق التقرير، قدَّم التحول الاقتصادي الذي تعيش على وقعه السعودية أحلاماً كبيرة للمواطن، لكن بالنسبة لعديد من السعوديين أضحى حلم العيش وفقاً لأسلوب حياة الطبقة الوسطى صعب المنال بشكل متزايد.

التقرير اعتبر أن برنامج “حساب المواطن”، الذي يقدم دعماً مادياً مباشراً للمواطنين، لا يُعالج القضايا الرئيسة المتمثلة في ارتفاع الإيجارات ونقص المساكن، وأيضاً لا يضمن توفير أسواق العمل لجميع أنواع الوظائف لحاملي الشهادات العليا.

أما بالنسبة للمقاطعات النائية، فلا يوفر هذا البرنامج -كما يقول التقرير- ما يكفي من الدعم للاستثمار المجدي في تنمية المجتمع.

وأضاف الموقع أن برنامجاً “سكنياً” يهدف إلى تمكين 70% من السعوديين من امتلاك منازل بحلول 2030، لكن البنية التحتية تزيد من مخاطر عدم توافق المشروع مع الاحتياجات والمتطلبات المحلية.

ويرى القائمون على التقرير أن هذا البرنامج لا يوفر أي ضمانات حول المسكن الذي سيتم توفيره أو إن كان موجوداً بمناطق قريبة من مكان عمل المواطن. بالإضافة إلى ذلك، لا توجد آلية تضمن أن المشتري سيتمكن من تسديد المدفوعات على المدى الطويل، وهو الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى تباطؤ القطاع العقاري بالمستقبل.