د. عبدالله العودة
في كل تلك السنوات الفائتة، بلعت كثير من الأنظمة الاستبدادية كرامتها وعملت المستحيل وعقدت تحالفات مختلفة وشاذة لأجل مقاومة الحراك الشعبي، وقمع الشعوب، وإذكاء نار التفرقة بين تيارات العمل الشعبي وبين كل شعب وآخر.
عملت هذه الأنظمة المستبدة كل ذلك عبر تحالفات استبدادية تجتمع فيها العناصر الفاسدة التي تدير دفّة العالم العربي والإسلامي.
في خضمّ هذا التحالف الشيطاني الشاذّ، استخدمت الأنظمة المستبدة معلوماتها وتبادلتها بينها، وطوّرت وسائل القمع عبر تدريب بعضها البعض على عمليات الاضطهاد والتجسس والإرهاب والتهديد والابتزاز والملاحقة، وابتعثت ديكتاتورييها، وأرسلت أجهزتها الأمنية للتدريب عند بعضها،
وفي عملية تبادل للخبرات الاستبدادية، تبادلت ملفات كل الأشخاص المؤثرين، ورصدت نقاط التأثير الشعبية، والكلمات المفتاحية والمفاهيم النوعية التي تصنع الفرق، كل ذلك لأجل ضرب نقاط التأثير الشعبية.
وعملت تلك الأنظمة الاستبدادية على أصعدة عدة: صعيد تقني تتبادل فيه المعلومات عن الشخصيات المؤثرة ودوائرها، ومحاولات التجسس وتبادل التقنيات، وعقد صفقات مع شركات التجسس الإسرائيلية البغيضة.
وصعيد وسائل التواصل الاجتماعي عبر التنسيق في حملات التشويه والتشويش، والعمليات الممنهجة في وسائل التواصل الاجتماعي لاغتيال الشخصيات ثقافيا، وتشويه صورتها وتاريخها، وعزلها عن محيطها ونقاط تأثيرها.
وأيضا حملات الترهيب والتخويف والتهديد، واستعمال الكلمات الجارحة والشاذة والمستفزة، لإشغال العاملين والمثقفين والمناضلين في معارك شخصية وردود أفعال مستفزّة.
وصعيد ثقافي بعيد المدى في إشغال الناس ببنيات الطريق وبفروع القضايا عوضا عن أصولها، وبالمحطات الصغيرة عوضا عن نقاط الوصول الرئيسية.
وفي كل ذلك تتنافس هذه الأنظمة المستبدة المتوحشة على التنسيق بينها وتبادل الخبرات والمضارّ إلكترونيا وعمليا وسياسيا، وتعقد اللقاءات الدورية والطارئة وتفتح خطوط الإمداد المتوحشة بينها، ثم تتنافس في مدى القمع والاضطهاد.
الآن: في هذه الأجواء البئيسة وجد الكثير من الذين عانوا من هذا الاضطهاد من هذه الأنظمة المختلفة أنفسهم في أماكن مختلفة من الأرض أنهم (شركاء شعبيون) كرهوا أو رغبوا، وأنهم نتيجة حتمية لهذا القمع الممنهج من أنظمة مختلفة تتعاون فيما بينها لمشاركة آليات الاضطهاد والقمع، وكل غريب للغريب نسيب-كما تقول العرب-، وحينما تمددت شبكة المقموعين والمهمشين تبيّن أنها تشمل قطاعات متعددة، مختلفة ومن خلفيات ثقافية متنوعة، يجمع بينها الرغبة بإصلاح البلدان والدعوة للحقوق الأساسية والحريات، والعمل السلمي المدني في كل هذه البلدان التي تعاني صروف القمع والاضطهاد.
وأظن أنه بالفعل بدأت إشارات تأسيس علاقات اجتماعية جيدة، وجسور التعرّف والتعارف بين الأطراف المقموعة المختلفة، وبدأت مستويات جديدة لفهم التيارات المختلفة والمذاهب المتعددة، وهذا بحدّ ذاته منجز مهم جدا ينبغي الاستثمار فيه والاستفادة منه وتطويره وتقوية جوانبه، لأنها فرص ذهبية لم تحدث أبدا من قبل بهذه الصورة وهذا الحجم والتنوع، فهو منجز يجب المحافظة عليه، لكن لا ينبغي التوقف عنده.
لأجل ذلك، لدينا فرصة ذهبية لصناعة إستراتيجية على المدى البعيد للعمل الشعبي المشترك، الذي لا يستثني أحدا، لصناعة حوارات وطنية لا تستثني أحدا ولا تبعد أي مجموعة ولا مذهب ولا تيار، لصناعة وطن حقيقي فشل المستبد في جمع عناصره وتأليف مذاهبه، ويكون عملا لا يتوقف على وطن واحد بل يشمل تلك الأوطان المقموعة لتبادل التجارب المدنية والخبرات والاستفادة من تاريخ العمل الحقوقي والمدني بين مختلف المناضلين والعاملين والمؤثرين، لمدّ خطوط الإمداد النضالي والتعاون الشعبي المشترك في أعمال مدنية مقابل ذلك التعاون المشترك للمستبدين في أعمال القمع والمناورة والاضطهاد، ففي كل بلد مجالات للعمل وهوامش لا توجد في آخر، وفي كل تجربة نضالية مجالات إلهام لا توجد في أخرى.
لأجل كل ذلك، أظن أنه حان أوان التفكير بإستراتيجيات أعمال شعبية مشتركة وقنوات اتصال دائمة لتبادل الخبرات والتأثير والمعلومات المدنية والنضالية للتعامل مع أنظمة القمع وتأثيرها وفضح شبكاتها وسبل التنسيق بينها، ولكن هذه المرّة ليس فقط لتنسيق ردود الأفعال، ولكن بالدرجة الأولى لصناعة الأفعال وتأسيس المبادرات الشعبية، وتقديم الحلول والمشاريع لخدمة الشعوب وحمايتها من القمع، والدفاع عن حرياتها وحقوقها.
لا يمكن التعامل مع هذا الاستبداد والقمع المنسّق، إلا بعمل مدني ونضال منسّق، وهنا أكرر: حان أوان العمل الشعبي المشترك.