لم يكن إعلان عملاق المقاولات السعودي، مجموعة “بن لادن”، الأسبوع الجاري، عن اختيار بنك أمريكي؛ لإعادة هيكلة ديون بقيمة 15 مليار دولار، مفاجئا لأوساط المال والأعمال حول العالم.

وعلى مدار عقود طويلة، كانت مجموعة “بن لادن” من كبريات شركات الإنشاءات في الشرق الأوسط، والعالم، باستثمارات تبلغ 200 مليار دولار سنويا، وعمالة بشرية تقارب الـ200 ألف عامل، و537 شركة فرعية تعمل في جميع المجالات من البناء إلى الطاقة.

ولكن خلال السنوات الخمس الأخيرة، تعرضت المجموعة لعواصف سياسية، ومالية، وصارت مهددة بالانهيار والتفكك.

وسيعمل بنك الاستثمار الأمريكي “HoulihanLokey” على مراجعة وإعادة هيكلة رأس مال الشركة التي ترزخ تحت وطأة ديون ضخمة، وكذلك إعادة تنظيم أصول الشركة المملوكة للقطاع الخاص.

 

حادث الرافعة

بدأت رحلة الانهيار مع واقعة سقوط رافعة ضخمة داخل الحرم المكي في سبتمبر/ أيلول عام 2015، ما أسفر عن مقتل 107 من الحجاج وجرح 230 على الأقل.

ويبدو أن الحادث الذي وقع قبيل بدء موسم الحج، إثر هبوب رياح شديدة، كان فرصة وذريعة سانحة لفرض عقوبات قاسية بحق مجموعة المقاولات العملاقة التي أسستها عائلة زعيم تنظيم “القاعدة” السابق “أسامة بن لادن”.

وشملت العقوبات الحكومية، حرمان المجموعة من الحصول على عقود جديدة من الدولة، ومنع أعضاء مجلس إدارتها وكبار المسؤولين التنفيذيين فيها من السفر إلى الخارج، ومراجعة المشروعات الجارية التي تنفذها المجموعة.

وتسببت العقوبات الحكومية، إلى جانب تأخر سداد مستحقات الشركة (نحو 30 مليار دولار)، في تدهور الأوضاع المالية للمجموعة، ما جعلها عاجزة عن دفع مستحقات عشرات الآلاف من العمال.

وسجلت عدد تأشيرات الخروج النهائي التي أصدرتها الشركة للعمال رقما قياسيا بلغ 77 ألف تأشيرة خروج منتصف عام 2016، مع خطط مستقبلية آنذاك للاستغناء عن 12 ألف عامل سعودي، وفق وسائل إعلام محلية.

وعلى الرغم من تبرئة الشركة لاحقا من قبل محكمة سعودية، في أكتوبر/تشرين الأول 2017، وإثبات أن الرياح الشديدة كانت هي السبب الرئيسي في سقوط الرافعة، فإن رحلة الانهيار لم تتوقف، بل أخذت منحى آخر أكثر درامية.

 

صعود “بن سلمان”

كان تولي ولي العهد السعودي، الأمير “محمد بن سلمان” منصبه، في يوليو/تموز 2017، نقطة فاصلة في مسيرة المجموعة العملاقة التي تأسست العام 1931.

وفيما يبدو، كان ولي العهد الشاب طمح في تطويع المجموعة لخدمة أجندته السياسية والاقتصادية، بل إنه كان يود أن يكون شريكا بها، تمهيدا لوضع يده، وفقا لما نقلته وكالة “رويترز” في وقت سابق.

ويبدو أن خلافا ما وقع بين “بن سلمان” ورئيس المجموعة السابق “بكر بن لادن” (الأخ غير الشقيق لزعيم تنظيم القاعدة الراحل)، دفع الأخير ثمنه، باعتقاله في فندق “ريتز كارلتون، نوفمبر/تشرين الثاني 2017، إلى جانب اثنين من أشقائه، وهما “صالح” و”سعد”، ضمن ما عرف إعلاميا بـ”حملة مكافحة الفساد”، التي طالت أمراء ورجال أعمال بارزين.

وشملت الحملة تجميد الحسابات المصرفية للعشرات من أفراد عائلة “بن لادن”، ومنعهم من السفر إلى الخارج، بخلاف قيام السلطات بوضع يدها على منازل الأسرة، وطائراتها الخاصة، وسياراتها ومجوهراتها.

وتقدر ثرورة “بكر بن لادن” وأشقائه، بنحو 7 مليارات دولار، بحسب بيانات نشرتها صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية عام 2017.

ويتعلق جانب من خلافات “بن لادن” و”بن سلمان” برفض “بكر” وإخوته، ضغوطا لإدراج الشركة في البورصة، كذلك رفضوا نقل أصول مملوكة للمجموعة إلى الدولة، ما وضعهم في مسار تصادمي مع الحكومة، وفق “رويترز”.

لاحقا وضمن تسوية جرت تحت ضغوط، جراء احتجاز “بكر بن لادن” نحو 15 شهرا، جرى الإعلان عن نية المجموعة تغيير اسمها، في محاولة للنأي بنفسها عن إرث أسرة “بن لادن”، إضافة إلى تقليص حجمها، وذلك في 2018.

 

حصة حكومية

بدأت ملامح صفقة التسوية التي جرت للإفراج عن مسؤولي المجموعة، تتضح شيئا فشيئا، مع تنازل ثلاثة من عائلة “بن لادن” وهم (بكر، صالح، سعد) عن حصة لا تقل عن 36% من رأسمال الشركة بقيمة 3.19 مليار ريال.

وجرى التنازل تحديدا لشركة “الاستدامة القابضة” التابعة لوزارة المالية المالية السعودية، التي حازت 36.22% من أسهم الشركة، بينما حازت شركة “بن لادن” للتطوير والاستثمار التجاري على نسبة 63.78%.

ولم تتوقف الأمور عند هذا الحد، بل تقرر تقليص نفوذ العائلة ذات الأصول الحضرمية (حضر موت)، والتي تصنف أنها يمنية رغم حصول أفرادها على الجنسية السعودية.

ففي ديسمبر/كانون الأول 2018، أعلن وزير المالية السعودي “محمد الجدعان”، أن مجموعة “بن لادن” سيصبح لها “مجلس إدارة طبيعي” مكون من أعضاء من العائلة وممثلين عن الحكومة، بعدما قامت لجنة من خمسة أعضاء بإعادة هيكلتها إداريا.

وفي مارس/آذار 2019، ظهرت معالم خطة “بن سلمان” للسيطرة على المجموعة، بتعيين رجل الأعمال السعودي “خالد نحاس” رئيسا لمجلس الإدارة، وتمثيل أخوين فقط من العائلة، هما “سعد” و”عبد الله” في مجلس الإدارة الجديد، المكون من تسعة أعضاء، بحسب وثيقة صادرة عن وزارة التجارة والاستثمار السعودية.

وضم مجلس إدارة الكيان الجديد، رجال أعمال سعوديين كبار من ذوي الخبرة في بعض أنجح شركات المملكة، مثل عملاق النفط “أرامكو”، والشركة السعودية للصناعات الأساسية “سابك”، وشركة جبل عمر للتطوير العقاري.

 

واجهة ملكية

يجمع مراقبون، على أن مجلس الإدارة الجديد للشركة ليس إلا واجهة لولي العهد السعودي، الطامح إلى السيطرة على أصول الشركة التي تحقق إيرادات بنحو 5 مليارات دولار من جانب، والراغب في إدراج أسهمها في البورصة من جانب آخر.

ويأمل “بن سلمان” في تطويع المجموعة التي تتولى تنفيذ 93 مشروعا، وتربطها صلات بمقاولين من الباطن يصل عددهم إلى 1400 مقاول، في إنجاز مشروعه الطموح لبناء مدينة “نيوم” على ساحل البحر الأحمر، باستثمارات تقدر بقيمة 500 مليار دولار.

ومع الغموض الذي يكتنف مستقبل عائلة “بن لادن” واستثماراتها داخل وخارج المملكة، يمكن القول إن المجموعة العملاقة التي عينت بنكا أمريكا لإعادة جدولة ديونها، قد ودعت عصرها الذهبي، باتجاه التفكك، ونقل أصولها العملاقة إلى الدولة، ضمن عملية تأميم حكومي، ربما تمهد لعملية إدراج كبرى لأسهم الشركة وبيع حصة كبيرة منها في البورصات العالمية.