ما بين التحريف والتكذيب، أثار حوار ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، مع مجلة “ذا أتلانتك” الأميركية، جدلا واسعا، لا سيما بعد اتهام الصحفي المحاور، غريمي وود، وسائل الإعلام السعودية بالتلاعب وتحريف محتوى الحوار وتسريبه لتمرير روايتها.

أما الحقيقة فكانت عكس ذلك حسب “وود”، الذي كشف أنه أُخبر من قبل مسؤولين في الديوان السعودية بعدم دخوله المملكة مجددا، ولن يلتقي بولي العهد أبدا.

وتعلقت أكثر نقاط الحوار إثارة بمقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول عام 2018، بطريقة بشعة، في جريمة أثارت الرأي العام العالمي وتسببت في انهيار سمعة ابن سلمان دوليا.

ومنذ ذلك الوقت يحاول ولي العهد السعودي جاهدا عبر مختلف الوسائل والأدوات الممكنة لتغيير تلك الصورة، وأقدم على تكتيكات متعددة من إنفاق أموال واستخدام شركات دعاية عالمية، لتحسين موقفه المتأزم، لكن دون جدوى ملحوظة.

 

نسيان الجريمة

في 3 مارس/ آذار 2022، نشرت “ذا أتلانتك”، حوارها التفصيلي مع ابن سلمان (36 عاما)، الذي تضمن تفاصيل كثيرة عن حياة الأمير الشاب، الحاكم الفعلي للسعودية.

وفي كواليس اللقاء الذي تم بعد منتصف الليل، كان ولي العهد “ساحرا وودودا وذكيا وغير رسمي”. حسب رواية وود، الذي قال “لكن النظم الملكية المطلقة لا يمكنها الهروب من الغرابة”.

وما بين سياسة ابن سلمان وخططه للتغيير وحياته الشخصية، كانت هناك نقاط تماس رئيسة في مسيرته لم يستطع الصحفي الأمريكي إغفالها.

وعلى رأسها اغتيال خاشقجي، تلك الحادثة التي قال عنها ابن سلمان، إنها “أسوأ” شيء حدث معه على الإطلاق، “لأنها كادت أن تفسد كل خطط إصلاح البلاد”.

بينما علقت المجلة الأمريكية على ذلك بالقول: “اختبأ محمد بن سلمان عن المشهد العام، كما لو كان يأمل نسيان مقتل خاشقجي، لم يحدث ذلك مطلقا، لكن ولي العهد لا يزال يريد إقناع العالم بأنه ينقذ بلاده، ولا يتخذها رهينة”.

 

متناقضات الأمير

أورد الصحفي الأميركي وود، أنه ضغط بشدة على ابن سلمان بشأن مقتل خاشقجي، وعلى حد تعبيره “قدم ولي العهد عددا من المزاعم الغريبة والمزعجة، بما في ذلك فكرة أنه لم يأمر بقتل خاشقجي، ولكن إذا كان سيرسل فرقة اغتيال، فسيرسل مجموعة على أعلى مستوى، وليس الخرقاء في إسطنبول”.

ووصف ابن سلمان في حديثه المسترسل أن “الاتهامات بأنه أمر بقتل الصحفي المعارض جمال خاشقجي جرحت مشاعره”.

وأضاف: “إذا كنت ستجرى عملية أخرى من هذا القبيل، بالنسبة لشخص آخر، يجب أن تكون احترافية”.

وأعلن وود في مقال نشره لاحقا أنه خلال المقابلة، ادعى ابن سلمان أنه لم يقرأ مقالا لخاشقجي “أبدا”، رغم أن الأخير كان معارضا بارزا للغاية، وذكر أن رواية الإعلام السعودي حرفت تلك الجزئية في نقلها عن (ذا أتلانتك) قائلة إن الأمير لم يقرأ “مقالا كاملا”.

وأضاف أنه بعد نشر اللقاء، بدأت ماكينة الدعاية السعودية في العمل، لمحاولة إخفاء الأجزاء المزعجة في الحوار، وتضخيم الأجزاء التي أعجبت الحكومة، متهما الإعلام السعودي بالكذب بشكل مباشر.

وحمل حديث ابن سلمان في استنكاره الكامل لمقتل خاشقجي، متناقضات واضحة، واختلافا لما جاءت به التقارير الدولية.

لا سيما تقرير الاستخبارات المركزية الأمريكية في 19 فبراير/ شباط 2021، الذي خلص إلى قتل الصحفي السعودي وتقطيع أوصاله على يد فرقة اغتيال حكومية سعودية، داخل قنصلية المملكة في إسطنبول في ديسمبر/ كانون الأول 2018.

وقال التقرير إن “العملية كانت على الأرجح بأمر من الأمير محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للمملكة العربية السعودية”.

ورغم تهوين ابن سلمان من أمر خاشقجي، وأنه ليس ذا أهمية بالنسبة له، حتى يتبرأ من مقتله، لكن الواقع وما أقرته تقارير وشهادات سياسيين وحقوقيين، كان معاكسا.

فمثلا في 22 أكتوبر/ تشرين 2019، كتب مدير تحرير موقع “ميدل إيست آي” البريطاني ديفيد هيرست، أن “خاشقجي كان لديه العديد من المشاريع الهادفة، الأمر الذي أدى إلى مقتله في قنصلية بلاده بمدينة إسطنبول”.

وذكر هيرست أن “خاشقجي، كان يسعى إلى إنشاء معهد للتدريب، وإطلاق صحيفة نيويورك تايمز بالعربية”.

وأضاف أن “السبب الأساسي وراء كل هذه الأفكار، هو توفير مزيد من المعلومات للعالم العربي، كان لديه شغف بالتدريب، لم يكن يفكر فقط في أصدقائه القابعين بالسجن، بل كان يشعر بالمسؤولية تجاههم، لقد أسكتوا جمال بسبب نشاطه الزائد”.

وهي الحقائق التي حاول الأمير تجاهلها معتمدا على نسيان الجماهير للتفاصيل الدقيقة المتعلقة بالجريمة.

 

الجريمة والعقاب

وتعليقا على الحوار، قال المعارض السعودي عبدالله العودة: عندما سأله وود عما إذا كان قد أمر بقتل خاشقجي، كان آخر إنكار غير مقنع لولي العهد هو أنه إذا أرسلت الحكومة السعودية فرق قتل في جميع أنحاء العالم، لما كان خاشقجي قد وصل إلى قائمة أفضل 1000 هدف، وأنه كان سيختار المزيد من القتلة “المحترفين”.

وأضاف العودة، وهو مدير أبحاث الخليج لدى “منظمة الديمقراطية الآن للعالم العربي”، في 10 مارس/ آذار 2022: “إذا وضعنا جانبا مدى لا مبالاة هذا الرد، فإن ما تعلمه محمد بن سلمان حقا هو أنه يستطيع الإفلات من العقاب على جريمة القتل”.

“لأن القادة الغربيين لم يفعلوا أكثر من رفض مقابلته. وفي حين أن هذه الإهانة قد تجرح كبرياء محمد بن سلمان، إلا أنه يعزي نفسه بالتدفق المستمر للأسلحة الغربية إلى المملكة، إلى جانب تجديد العلاقات التجارية” يشرح العودة في مقال نشره على موقع المنظمة.

يذكر أنه في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، كشف موقع “ميدل إيست آي” البريطاني نقلا عن “مصدر سعودي مقرب من الاستخبارات السعودية” عن وجود فرقة اغتيالات تعمل بتوجيه مباشر من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.

وقال الموقع، إن “الفرقة تسمى النمر، وهي معروفة جيدا لدى أجهزة استخبارات الولايات المتحدة، وتشكلت قبل أكثر من عام مضى، وتتألف من 50 عنصرا من أمهر العملاء الاستخباراتيين والعسكريين في المملكة”.

وتعد عملية قتل وتقطيع الصحفي جمال خاشقجي في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018، داخل قنصلية بلاده بإسطنبول، من أشهر عمليات الاغتيال التي نفذتها هذه الفرقة، وهزت الرأي العام العالمي.

ومنذ ذلك الحين استخدم محمد بن سلمان كل الوسائل الممكنة، في محاولة لإعادة صورته الإصلاحية التي رسمها طويلا، لكنها تحطمت على صخرة مقتل الصحفي السعودي.

 

شركات دعائية

وفي 3 أبريل/ نيسان 2020، نشرت صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية تقريرا بعنوان “الديكتاتوريون يقمعون المعارضة والشركات الأمريكية تبيض صورهم”، قالت فيه إن “السعودية تستحق المرتبة الأولى من ناحية ضخامة النفقات المالية والجرائم المرتكبة”.

وذكرت أنه “في الوقت الذي قررت عدة شركات لوبي التوقف عن تقديم الخدمات للمملكة بعد جريمة قتل خاشقجي، إلا أن البعض الآخر اتخذ قرارات مختلفة. ومنذ مقتله، حصلت عدة شركات ضغط أميركية على أكثر من 73 مليون دولار لتمثيل المصالح السعودية، بحسب التقارير التي قدمتها لوزارة العدل”.

ومن تلك الشركات “كيو اورفيس”، التي قالت وقت الجريمة: “نتعامل مع الوضع بجدية وننتظر لحين ظهور كل المعلومات”، وحين ظهرت الحقيقة، واعترفت المملكة بأن الصحفي قتل في القنصلية، وتمت محاكمة عدد من المتورطين فيها، أصدرت الحكومة الأمريكية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب حظرا على عدد من المسؤولين المتورطين، إلا أن الشركة لم تتحرك.

وكذلك واصلت شركات العلاقات العامة إصدار البيانات التي تصور ولي العهد بصاحب الرؤية والزعيم العالمي، مثل الذي أعدته شركة “إيدلمان” وفيه مدح لمدينة المستقبل، التي أمر الأمير ببنائها على البحر الأحمر. وحصلت الشركة على 6.7 ملايين دولار كخدمات من السعودية، منذ مقتل خاشقجي، بحسب واشنطن بوست.

وفي 10 يونيو/ حزيران 2021، نشرت وكالة “بلومبرغ” الأميركية، تقريرا عن مساعي السلطات السعودية وكبار الدبلوماسيين، لتبييض وجه ابن سلمان مرة أخرى.

وذكرت أن الرياض استأجرت مجموعة “لارسون شاناهان سليفكا”، وهي جماعة ضغط بارزة في الولايات المتحدة.

ووضعت الرياض مع مجموعة “لارسون” خطة للعمل تستهدف قادة الدولة والمسؤولين المحليين في أميركا، عبر تنظيم فعاليات ولقاءات للأميرة ريما بنت بندر، سفيرة السعودية بواشنطن ومسؤولين آخرين رفيعي المستوى من المملكة، لتحسين صورة ولي العهد أمام الرأي العام العالمي.

وقالت بلومبرغ إن “شركات علاقات أميركية تتولى مهمة تبييض صورة ابن سلمان في العالم، وذلك يقوض جهود الرئيس الأميركي جو بايدن للضغط على الدول لفتح حرية التعبير”.