شهدت العلاقة بين السعودية ومصر في الأيام الماضية تباينات متعددة، ظهرت آثارها في عدد من الملفات السياسية والاقتصادية، لكن مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات حذر من أن عدم التوصل إلى حلول مقبولة على المدى المتوسط، قد يؤدي لتصاعد الخلاف والدخول في حالة متقدمة من تأزم العلاقة.
جاء ذلك في تقرير للمركز، يقول إنه “على الرغم من عدم التأكيد الرسمي لوجود هذا التباين، فإن المؤشرات تبدو بارزة”، مشيرا إلى أن العلاقات السعودية المصرية تعد “حالة فريدة، نظراً لأهمية المنطقة ثم لكون كلٍّ من الرياض والقاهرة تمثلان مراكز قوى تؤديان دوراً محورياً في تشكيل التوازنات الإقليمية، وتنسحب تداعياتها سلباً وإيجاباً على كثير من الملفات السياسية والاقتصادية والأمنية”.
وقسم التقرير أسباب التباين بين البلدين إلى سياسية وأخرى اقتصادية، مقدما سيناريوهين اثنين لما هو قادم في العلاقات بين البلدين.
وعن أبرز مشاهد هذا التباين، يقول التقرير: “تتجلى في غياب السعودية عن القمة العربية المصغرة التي استضافتها أبوظبي في 18 يناير/كانون الثاني الماضي، وتوقف بعض الاستثمارات السعودية الجديدة في مصر”.
كما يستند التقرير إلى توقف مفاوضات نقل ملكية المصرف المتحد المصري إلى صندوق الاستثمارات العامة السعودي، إضافة إلى ردود متبادلة بين كُتّاب وأكاديميين مقربين من الحكومتين في صحف كبيرة، وإن كان حذف بعضها لاحقاً.
أسباب سياسية
وعن أهم الأسباب السياسية للتباين بين البلدين، هو الحراك الأخير في الأداء السياسي الخارجي لحكومة المملكة، الذي يقوم على تغليب مقتضيات المصالح السعودية أولاً، حتى بدا أن الطرفين يتحركان في الملفات السياسية الخارجية بدوافع مختلفة، في حين كانت السعودية تأمل أن يكون الموقفان في حالة من التضامن المتبادل، خشية أن يتجرد الموقف الخليجي من أوراق الضغط المهمة خصوصاً في مواجهة التحديات الإيرانية.
ولعل التغير الجديد يعود لانخفاض الأوراق المصرية في النفوذ الإقليمي، وتعزز الأوراق السعودية الإقليمية.
أما السبب الثاني فهو تأخر تسليم جزيرتي تيران وصنافير، إذ كانت القاهرة قد تنازلت عنهما وفق اتفاقية ترسيم الحدود البحرية الموقعة بين البلدين في العام 2018، لكنه حتى الآن لم يتم تسليمهما إلى المملكة، على الرغم من استيفاء الإجراءات القانونية.
ويعود السبب الثالث إلى الموقف من الملف اليمني، إذ يبدو أن مصر لا ترى أهمية لتوسيع حضورها السياسي والعسكري في الملف اليمني، في حين ترى السعودية أن دعمها للنظام الحاكم في مصر يتطلب مشاطرة السعودية تلك المخاوف بنفس المستوى، والانخراط المباشر في مقاومة التحديات الأمنية.
كما يتباين المواقف بين البلدين تجاه الملف السوري، وهو ما يمثل السبب الرابع، حيث يعارض النظام المصري إسقاط رأس النظام السوري بشار الأسد، ويعمل على عودته للجامعة العربية، في حين لا تزال السعودية تتحفظ إلى الآن فيما يتعلق بعلاقتها بالنظام السوري، أو عودته لجامعة الدول العربية.
السبب الخامس، يعود إلى الملف الإيراني، فبينما يمثل التمدد الإيراني في المنطقة تهديداً مباشراً للمملكة، وتشكل مواجهة تداعياته أولوية بالنسبة لها، لا يمثل هذا التمدد تهديداً مباشراً لمصر، ولهذا تختلف أدوات التعامل مع النظام الإيراني بين الطرفين السعودي والمصري.
أما السبب السادس، فيعود إلى الموقف من إسرائيل، إذ لطالما كانت مصر وسيطاً في الخلاف العربي مع إسرائيل، وهي ربما النظام العربي الأول المعهود به أمريكياً أداء دور الوسيط فيما يتعلق بفلسطين، ولوجود القنوات الخليجية المباشرة للتفاهم، ربما لم يعد الدور المصري فعالاً بالنسبة للخليج.
وفي الملف الدولي، وهو السبب السابع، فيظهر أن مصر غير مستعدة إلى الآن لموازنة علاقتها بالمحاور الدولية، وما تزال متمسكة بعلاقتها بالمحور الأمريكي الأوروبي، فيما تسعى السعودية لموازنة العلاقة بالمحاور الدولية.
أسباب اقتصادية
وحول الأسباب الاقتصادية في هذا التباين، يشير التقرير إلى أن الأزمة الاقتصادية في مصر غير مسبوقة، تتمثل في ارتفاع نسبة التضخم، وشح النقد الأجنبي، وانهيار العملة المحلية، وتراجع مستوى المعيشة، وقد حلت مصر في المرتبة الثانية ضمن أكثر الدول اقتراضاً من صندوق النقد الدولي.
وفي هذا الإطار، وحسب التقرير، تضطلع السعودية بدور أساسي في برامج صندوق النقد، ولدى الصندوق برامج خاصة بعدد من دول المنطقة لتوفير التمويل المطلوب مقابل إصلاحات معينة، بناء على ذلك دعا الصندوق الدولي، في أوائل شهر يناير/كانون الثاني، دول الخليج إلى الوفاء بتعهداتها الاستثمارية في مصر، كما يشجع الصندوق بيع الأصول المصرية لدول الخليج مقابل قرضها 14 مليار دولار، للتخفف من الأزمة الاقتصادية، ويشترط صندوق النقد مقابل ذلك إبعاد المؤسسة العسكرية عن الاقتصاد.
ويبدو أن الموقف السعودي يتناغم مع سياسة صندوق النقد الدولي، حيث كشف وزير المالية السعودي محمد الجدعان، في 18 يناير/كانون الثاني الماضي، عن تغير السياسة السعودية فيما يتعلق بالمنح والمساعدات، التي ستتم إدارتها مع المنظمات الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد، بشرط تحقيق إصلاحات مالية للدول التي ستدعمها السعودية. وعلى الرغم من عمومية هذا التصريح فإنَّه يدل على تغير في آلية الدعم السعودي الخارجي.
بناء على ذلك، تواجه المساعي السعودية لتوسيع الاستثمارات في الأصول المصرية رفضاً من المؤسسة العسكرية التي تريد أن تكون شريكاً في هذه الاستثمارات على الأقل، وهو ما ترى فيه السعودية وصاية على نشاطها الاستثماري.
ويظهر أن السعودية، حسب التقرير، غير راضية عن سيطرة المؤسسة العسكرية على الاقتصاد المصري على حساب القطاع الخاص، إضافة إلى رغبة المستثمرين الأجانب في تقييم الأصول بالعملة المحلية، في حين يريد البنك المركزي تقييم الأصول بالدولار، وهذا ما أدى ربما إلى تعليق مفاوضات نقل ملكية المصرف المتحد إلى صندوق الاستثمارات السعودي.
إضافة إلى ذلك، هناك بعد اقتصادي آخر قد يكون له علاقة بهذا التباين، يتعلق بالمحور الغازيّ “المصري الإسرائيلي”، وتناغمه مع محور “قبرص واليونان”، هذا الأمر قد يؤدي مستقبلاً لاعتماد سوق الغاز الأوروبية على شرق المتوسط بعيداً عن الغاز الخليجي، إضافة إلى تفضيل مصر الاعتماد على شركات أمريكية في هذا المجال.
كما يجري الحديث أن القاهرة تفاجأت بمطالبة الرياض بسداد ديونها القديمة لشركة أرامكو، في حين كانت مصر ترى أنها منحة سعودية.
هذه الملفات تبدو متفاوتة في درجة تأثيرها، لكن الاستثمار السعودي في الأصول المصرية في ظل إدارة المؤسسة العسكرية لكثير من المؤسسات الاقتصادية ربما هو نقطة التباين الأولى، وتنامي هذا الملف قد يستدعي بقية الأسباب، ومن غير المستبعد أن يكون لها تأثيرها في مستقبل العلاقة بين البلدين.
سيناريوهان لتجاوز الأزمة
يقول التقرير إن طبيعة التباين السعودي المصري قد يتأزم بالشكل الذي يؤدي إلى قطع العلاقة بين البلدين، وبالتحديد على المدى المتوسط، وذلك للكلفة السياسية والاقتصادية التي يمكن أن تترتب على ذلك، وعدم استعداد البلدين للدخول في مرحلة من التصعيد.
ووفق السيناريو الأول، قد يتجدد التباين السعودي المصري بشكل أقرب ما يكون للمراوحة، نتيجة بقاء الثغرات السياسية والاقتصادية التي تتجدد تداعياتها بين حين وآخر.
ويدعم هذا السيناريو، تعددُ ملفات التباين سياسياً واقتصادياً وأمنياً، يجعل من الصعب السيطرة على جميعها في آن واحد، ويقتضي ترحيل بعضها، وهذا قد يؤدي لإحيائها مستقبلاً.
ويضعف هذا السيناريو، تضرر الاقتصاد، وإضعاف سمعة النظام المصري محلياً ودولياً، يفرض عليه الجدية في الإقدام على إصلاحات جديدة لتجاوز هذه التحديات.
هذا السيناريو في حال استمراره من المتوقع أن يؤدي إلى زيادة الاستثمار الإماراتي على حساب الاستثمار السعودي.
ويتميز الاستثمار الإماراتي إلى الآن بتركيزه على القطاعات الطبية الخاصة، بعيداً عن تلك التي تحضر فيها المؤسسة العسكرية، وهذا الأمر يشكل حالة من الانسجام بين الجانبين.
وفي حال استمرار التباين فوق المدى المتوسط، وانعدام التوصل إلى تسوية ولو جزئية، فإن ذلك قد يؤدي إلى تأزم العلاقة بين البلدين، وأي تأزم قد يؤدي إلى تضرر قرابة 2.5 مليون مصري يعملون في السعودية، ويرفدون اقتصاد بلدهم من خلال التحويلات المستمرة، كما أنه من المتوقع أن يؤدي إلى مزيد من الاستقطاب الإقليمي والدولي.
أما السيناريو الثاني، والذي يفترض تسوية ملفات التباين السعودي المصري، ويضع الآليات والضوابط لاحتواء هذه الملفات، بالشكل الذي يؤدي إلى استتباب العلاقة.
ويدعم هذا السيناريو المصالح المشتركة بين البلدين سياسياً واقتصادياً وأمنياً، وطبيعة الحضور السعودي السياسي والاقتصادي في مصر، ورغبة الطرفين في تضييق دائرة التباين.
كما أن هناك مؤشرات لاحتواء التباين، تجلت في الاعتذار غير المباشر من الرئيس المصري للأشقاء، إضافة لاعتذار صحيفة “الجمهورية” المصرية، ووضع بعض الحلول لمقاربة مقترحات المستثمرين.
لكن يضعف هذا السيناريو التصعيد المتبادل سياسياً وإعلامياً من مصادر قريبة من النظامين الحاكمين، الذي تجاوز حالة الانسجام بين البلدين، بالإضافة إلى حجم ملفات التباين وتداخلها.
هذا السيناريو في حال تحققه من المتوقع أن يعزز بشكل كبير دور الاستثمارات السعودية في مصر، وأن يؤدي لتفاهمات مشتركة حول تلك الملفات العالقة، كما أنه من الممكن أن يؤدي إلى إعادة انسجام الموقفين السعودي والمصري في الملفات الخارجية.