قام ولي العهد السعودي الأمير “محمد بن سلمان” الأسبوع الماضي بحيلة يائسة في اللحظة الأخيرة للهروب من المساءلة في الدعوى المدنية المرفوعة ضده بتهمة اختطاف وتعذيب وتقطيع الصحفي “جمال خاشقجي”، وذلك من خلال ترتيب مرسوم ملكي أصبح بموجبه رئيسا للوزراء.

وسيكون التهرب من العدالة بموجب الحصول على لقب “رئيس حكومة” أمرا خطيرا، فهو لن يحبط فقط جهود تحميله المسؤولية عن جرائمه العديدة، ولكن أيضًا سيرسخ سابقة خطيرة للمجرمين الأقوياء في التهرب من المساءلة القانونية عن أسوأ الانتهاكات عبر مناورات الحصول على لقب يغسل الجرائم السابقة.

ليس هناك أدنى شك في أن تعيين “بن سلمان” (في انحراف عن القانون أو العرف السعودي) غرضه الوحيد والحصري يتمثل في تأمين الحصانة من الدعاوى المرفوعة بحقة.

وفي الواقع، لم يكد الحبر يجف على “المرسوم الملكي” الأخير  حتى تحرك محامو “بن سلمان” لكي يطلبوا من المحكمة التي تنظر دعوى “خاشقجي” الاعتراف بحصانته.

وبموجب القانون السعودي، يحتفظ الملك بلقب رئيس الوزراء، وهو موقع شرفي لا معنى له في الملكية المطلقة حتى في الأوقات العادية. وبحسب المرسوم الذي يعين “بن سلمان” رئيسا للوزراء، فإن هذا التعيين يعد استثناءًا قانونيًا مشروطًا ومؤقتًا، وهو فعال فقط عندما لا يكون الملك حاضراً بنفسه في اجتماعات مجلس الوزراء، وطالما كان “بن سلمان” هو ولي العهد.

ولا يبذل هذا المرسوم أي جهد لتغيير القانون السعودي ليعهد بأي صلاحيات جديدة رسمية، ولا يمكن أن نتصور فعليًا أن “بن سلمان” بمجرد أن يصبح ملكًا، سوف يتسامح مع كون أي شخص آخر رئيسًا للحكومة، وهذا هو السبب في أنه استثناء له لوحده.

 

رسائل معادية لـ”بايدن”

أما سبب انتظار السعودية عامين بعد رفع دعوى “خاشقجي” قبل اللجوء إلى هذه المناورة فهو يندرج في إطار علاقاتها المعادية لإدارة “بايدن”. وقد ضغط “بن سلمان” على إدارة “ترامب” ثم إدارة “بايدن” لمنحه الحصانة في مختلف الدعاوى القضائية التي يواجهها، لكن وزارتا الخارجية في الإدارتين وقفتا ضد هذا الأمر بحزم.

وبناءً على موضوع الدعوى، لا يوجد أي أساس للمجادلة بأن منصب “بن سلمان” كولي للعهد كان سيوفر له حصانة، لذلك استمر “بن سلمان” في مطالبه، وصعّد الابتزاز من خلال رفض تلقي مكالمة من “بايدن” ورفض الموافقة على زيادة إنتاج النفط ما لم يمنحه “بايدن” الحصانة (بالإضافة إلى ضمان أمني رسمي من الولايات المتحدة).

عندما سأل قاضي محكمة المقاطعة الفيدرالية الأمريكية “جون بيتس” (الذي ينظر في دعوى “خاشقجي”) وزارة الخارجية الأمريكية في الأول من يوليو/تموز -عشية مصافحة “بايدن” لـ”بن سلمان” في الرياض بقبضة يده – أن تعلن مصالحها في القضية المدنية، طلبت الوزارة التأخير في الرد وتأجيل الموعد النهائي من 1 أغسطس/آب إلى 3 أكتوبر/تشرين الأول.

ومع اقتراب الموعد النهائي الجديد، لجأ السعوديون إلى إصدار المرسوم الملكي الذي يعين “بن سلمان” رئيسا للوزراء. وبعد بضعة أيام فقط، في 5 أكتوبر/تشرين الأول، أعلنت السعودية أنها تهدف إلى خفض ناتج “أوبك+” من النفط بحوالي مليوني برميلًا يوميًا، فيما يعد صفعة واضحة جدًا لـ “بايدن”، الذي لم يقدم حتى الآن لا الحصانة ولا الضمانات الأمنية المطلوبة.

ووصف البيت الأبيض الخطوة السعودية بأنها “كارثة كاملة”، ومن الملحوظ أنه وصفها بالـ “العمل العدائي”.

 

ثغرات في حيلة ولي العهد

تعتمد مناورة “بن سلمان” على قاعدة في القانون الأمريكي والقانون الدولي تضمن الاعتراف بحصانة كل من رئيس الدولة ورئيس الحكومة ووزير الخارجية للبلد الآخر من الملاحقة القضائية أو الدعوى.

ويتمثل مبرر هذه الحصانة في ضمان أن تتمكن الدول الأجنبية من الحفاظ على علاقات وظيفية وأن يتمكن رؤساء الدول من القيام بواجباتهم دون خوف من مقاضاة مدنية أو محاكمة جنائية.

ومع ذلك، هناك تحديات متزايدة لمثل هذه الحصانة المطلقة، عندما تكون الجرائم المرتكبة فظيعة بشكل خاص، كما ترفض المحاكم الدولية بانتظام أي حصانة من هذا النوع في القضايا الخطيرة.

وعلى سبيل المثال، تسمح المحكمة الجنائية الدولية والمحاكم الدولية الأخرى بمحاكمة رؤساء الدول الحاليين والسابقين. كما أن هناك قانونا أمريكيا يسمح بفرض عقوبات علي بعض الرؤساء عندما ينتهكون المعايير الدولية للفساد أو حقوق الإنسان.

وفي نهاية المطاف فإن “حصانة رئيس الدولة لا تتعلق إلا بالأفراد الذين يعترف الفرع التنفيذي الأمريكي بأنهم يحملون هذا الوضع بشكل شرعي”.

ويواجه “بن سلمان” 3 دعاوى قضائية في الولايات المتحدة بسبب جرائم شنيعة حقًا، ويجب أن يسقط ذلك أي مطالبة بالحصانة.

وفي حين أن رئيس الوزراء في بلد مثل المملكة المتحدة هو رئيس الحكومة بالفعل، فهذا ليس الحال في السعودية الملكية المطلقة، حيث يسيطر الملك “سلمان” على جميع أدوات السلطة، و”بن سلمان” هو تابع له.

ولا ينبغي أن يكون هناك الكثير من الصعوبة في رفض الألقاب المتحايلة التي تُمنح بغرض وحيد وحصري وهو التحايل على الدعاوى القضائية.

ودعوى مدنية مثل تلك التي يواجهها “بن سلمان” لا تفعل شيئًا فيما يتعلق بالتدخل في قدرته على تنفيذ مسؤولياته سواء كان ذلك بصفته وليًا للعهد أو حتى “رئيسًا للوزراء”.

كما لا تنطوي الدعوى المدنية على خطر الاعتقال؛ بل إنها في النهاية، مطالبة بالعقوبات المالية، والتي يمكن للمدعى عليه فيها اختيار التسوية إذا كان عبء الدفاع كبيرًا جدًا على سبيل المثال.

 

حيلة نجاحها خطير

الأهم من ذلك، أن الاعتراف بالحصانة بناءً على الألقاب المتحايلة من شأنه أن يفتح الباب على مصراعيه لأمراء الحرب من ذوي المناصب المماثلة أو رجال المافيا أو حتى أحد أباطرة المخدرات للحصول على ألقاب على نفس المنوال أو شراء ألقاب رئاسية أو وزارية.

بل يمكن أن يُمنح لقب الرئيس أو رئيس الوزراء في وقت واحد لعشرات الأشخاص بحجة أنهم يتشاركون الوظيفة كرئيس للحكومة.

إن إضفاء الطابع الشرعي على حيل الحصانة المزيفة سيفرغ قوانين المحاكمة القضائية من مضمونها في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك قانون دعاوى الأضرار المدنية ضد أفراد أجانب وقانون حماية ضحايا التعذيب الذي تم تصميمه للسماح للمدعين الأمريكيين بمقاضاة المسؤولين الأجانب الذين نفذوا انتهاكات جسيمة.

وأفضل ما يمكن أن تفعله إدارة “بايدن” هو رفض الحصانة التي طالب بها “بن سلمان” بشكل وقح لمدة عامين حتى الآن، أو على الأقل أن تبقى خارج القضية تمامًا.

ويكفي “بايدن” أنه كسر وعوده بشأن مساءلة السعودية عن مقتل “خاشقجي”؛ وسيكون الأمر مروعًا للغاية إذا ضمن إفلات “بن سلمان” التام من العقاب على ذلك، مما يقوض كل من القوانين الأمريكية والدولية التي توفر الوسيلة الوحيدة لمعاقبة أسوأ منتهكي حقوق الإنسان على كوكبنا.