منذ شهر ونصف الشهر والعالم يموج حول قضية اغتيال الإعلامي السعودي جمال خاشقجي تساؤلاً وتعاطفاً واتهاماً ودفاعاً وتشكيكاً وتكذيبا. وفي خضم هذا كله ما زالت أنظار الجميع تتوجه نحو شخص واحد منتظرة ماذا سيفعل؟ إنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ فبالرغم من وضوح مواقف جميع الأطراف والجهات بمن فيهم الأطراف والجهات في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن ترامب كان الوحيد الذي لم تتضح مواقفه؛ بل شابها التناقض والتعارض في أحايين كثيرة. فلماذا كان هذا؟
لماذا تردد ترامب وارتبك واختلطت عليه الأمور؟
هناك عدة إجابات لهذا السؤال نستعرضها كالتالي:
* يرى محللون أن ترامب حريص على صفقات التسليح التي عقدها مع المملكة العربية السعودية والتي تقدر بـ 110 مليار دولار، والتي تضمن كذلك توفير 400 ألف فرصة عمل للشعب الأمريكي. وبصرف النظر عن أن أرقام ترامب هذه غير حقيقية، حيث يقول المختصون في الولايات المتحدة نفسها وفي الخارج كذلك أن الواقع غير ذلك؛ فالرقم الحقيقي للصفقات هو 130 مليون دولار فقط، وعدد فرص العمل التي ستتاح للأمريكيين لا تزيد عن 500 فرصة عمل؛ إذ إن المصانع التي ستصَّنع هذه الأسلحة هي مصانع قائمة بالفعل ولديها عمالها الذين يعملون فيها بالفعل، وبالتالي فهي ليست مصانع ستُنشأ خصيصاً لهذه الصفقات. بصرف النظر عن ذلك، وعلى افتراض أن ما يقوله ترامب صحيح؛ فإن هذه الإجابة لا تستقيم، لأنه ببساطة الذي تعاقد مع الولايات المتحدة هو المملكة العربية السعودية وليس محمد بن سلمان؛ وبالتالي فالصفقات ستبقى قائمة كما هي بصرف النظر عمن يتولى مقاليد الأمور في المملكة.
* ويرى محللون أن سبب موقف ترامب هذا هو اعتباره محمد بن سلمان هو رجل أمريكا في المملكة والخليج؛ وبالتالي يجب الحفاظ عليه. هذه إجابة أخرى لا يُعتَدُّ بها؛ إذ إن تاريخ المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها يشهد بأنها الحليف القوي والدائم للولايات المتحدة بصرف النظر من يجلس على كرسي الحكم. ولو سلَّمنا بصحة هذه المقولة؛ فإنه كان من الأولى للولايات المتحدة أن تحافظ على رجلها القوي المعروف بقوة ارتباطه الشديد بالولايات المتحدة، وتاريخه يشهد بهذا بوضوح، وأعني به ولي العهد السابق الأمير محمد بن نايف؛ غير أن الولايات المتحدة ضحت به لأجل حليف آخر، لذا يمكنها أن تضحي بحليف آخر بسبب مشكلاته لأجل حليف جديد، وهو موجود ومتاح.
ويرى محللون أن ترامب لم يستطع تحديد موقف بسبب أنه راهن على ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ليكون قائد الانفتاح والنهضة السعودية الجديدة. بيد أن هذه الإجابة تسقط بسهولة إذا عرفنا أن أحد أقرب المقربين من ترامب، وهو السيناتور الجمهوري ليندزي غراهام أعرب منذ بداية أزمة خاشقجي عن خيبة أمله في محمد بن سلمان الذي كان يظنه إصلاحيًّا سيقود السعودية والمنطقة للنهضة والانفتاح؛ إلا أنه خيب ظنه. والطريف أن تصريح غراهام هذا كان بعد 10 أيام فقط من جريمة اغتيال خاشقجي، أي 12 أكتوبر/تشرين الثاني الماضي، أي قبل ظهور أي دلائل حقيقية عن مدى تورط محمد بن سلمان في الأمر. لذا كان من الممكن بسهولة على ترامب أن يصرح كما صرح غراهام، وينتهي الأمر.
* ويرى محللون أن ترامب يرغب في تنفيذ ما سميت بـ”صفقة القرن” التي تخدم استقرار الكيان الصهيوني وتثبيته في المنطقة العربية، وأن محمد بن سلمان كان متوافقاً مع هذا التوجه وموافقاً عليه، وكان له دور فيه، كما كان يرتبط بعلاقات جيدة مع دولة الاحتلال ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو؛ وبالتالي بذهاب ابن سلمان قد يفشل هذا التخطيط كله. وهذا أيضاً غير صحيح؛ لأن -كما قلنا سابقا- ارتباط السعودية بالولايات المتحدة ارتباط وثيق وقديم، ولن يؤثر فيه بقاء شخص أو ذهابه؛ فبالتأكيد سيوجد الحاكم الذي ينفذ هذا المخطط غير ابن سلمان، كل ما في الأمر أن التنفيذ سيأخذ وقتاً أطول قليلاً لكنه سيجد من ينفذه في المملكة بالتأكيد.
* ويقول محللون أن ترامب يريد الإبقاء على محمد بن سلمان نظراً لما يرتبط به من علاقات مالية قوية وبمبالغ كبيرة وباستثمارات ضخمة مع صهر ترامب جاريد كوشنر. والواقع أن ارتباط ابن سلمان ليس بكوشنر فقط، وإنما بترامب نفسه أيضاً. كما أن ارتباط الثلاثة ترامب- كوشنر- ابن سلمان لا يتوقف عندهم فقط؛ فإذا ضحى ترامب بمحمد بن سلمان فإنه لا يضمن ألا يكشف ابن سلمان هذه العلاقات المالية، وربما يكشف هذا المستور عند ترامب. وأنا أميل إلى هذه الإجابة، مع تأكيدي أن هذه النقطة أعمق بكثير مما تبدو عليه؛ إذ لا يتوقف الأمر عند هذه العلاقات المالية، وإنما الموضوع مرتبط بأطراف آخرين وتداعيات أخرى.
إن سقوط ابن سلمان قد يعني ظهور علاقات ترامب وكوشنر به؛ ما سيعني ظهور علاقات طرف ثالث هو محمد بن زايد ولي عهد الإمارات، ما سيعني كذلك ظهور دور محمد دحلان عضو حركة فتح الفلسطينية المفصول والمعروف بأدواره القذرة، ما سيعني ظهور اسم جورج نادر الذي عمل مستشاراً لأريك برنس مؤسس شركة بلاك ووتر المتهم بضلوعه بدور كبير في التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية عام 2016م لمصلحة ترامب، ما يقودنا أخيراً إلى المحقق الخاص روبرت مولر الذي يحقق في هذا التدخل الروسي، مولر أُطلق عليه “صائد رجال ترامب”، والذي سيصطاد هذه المرة ترامب نفسه. إنها إذن قطع الدومينو التي ستتساقط واحدة تلو الأخرى بسقوط قطعة ابن سلمان.
ما الأبواب التي أمام ترامب؟
الحقيقة أن ترامب في وضع لا يُحسد عليه؛ إذ هو أمام خيارات كلها صعبة، وجميع الأبواب المرتبطة بهذه القضية هي أبواب جهنم، بصرف النظر أي بابٍ فتح. هذه الأبواب هي:
الباب الأول: استمرار الدفاع عن محمد بن سلمان، ورفض ربطه بمقتل خاشقجي، وفي هذه الحالة عليه أن يواجه العواصف داخليًّا من كافة الاتجاهات؛ أولها الكونغرس الذي يقف بشقيه الجمهوري والديموقراطي ضد بقاء ابن سلمان، هذا والكونغرس ما زال تحت سيطرة الحزب الجمهوري حزب ترامب؛ فكيف الأمر حين يتولى الديمقراطيون السيطرة بعد أقل من شهرين؟ وعلى ترامب كذلك مواجهة وكالة الاستخبارات الأمريكية “CIA” التي كانت أول من أعلن صراحة عن مسؤولية ابن سلمان في قتل خاشقجي؟ وعليه كذلك مواجهة الإعلام الأمريكي بانتشاره الواسع وقدرته الكبيرة على الحشد، والذي يكاد يقف موقفاً واحداً ضد محمد بن سلمان؟ باختصار.. إن على ترامب مواجهة الدولة العميقة والإعلام والشارع في الولايات المتحدة، أو مواجهة إعصار أعظم من إعصارات هارفي الذي دمر تكساس، ومايكل الذي ضرب فلوريدا بقوة، ونايت الذي تجول في الساحل الأمريكي بدءاً من نيو أورلينز، ومواجهة حرائق أضخم من حرائق كاليفورنيا التي لم تُبقي ولم تذر. أما خارجيًّا؛ فبالإضافة إلى صورته التي ستُظهر أنه يدافع عن قاتل، وأنه متواطئ معه، وأنه رئيس بلا قِيمٍ لدولة تدعي القِيم، إضافة إلى ذلك عليه مواجهة مواقف الدول الأخرى التي تقف بوضوح ضد ابن سلمان رسميًّا وإعلاميًّا وشعبيًّا؛ ما سيظهره منبوذاً في العالم.
الباب الثاني: إقراره بعلاقة ابن سلمان بالقتل؛ وبالتالي وجوب إبعاده على الأقل عن الصورة، وهذه تحمل تحتها سيناريوهات ثلاث:
1- إبعاد ابن سلمان عن الصورة وضمان سكوته بالاتفاق معه، وهذه غير مضمونة أبدا؛ إذ طبيعة ابن سلمان التي تشرئب لتولي السلطة بأية طريقة، وتطلعاته التي لا حدود لها، ستجعل سكوته عن أسرار علاقته بترامب أمراً غير مضمون، بل في الواقع غير متاح بالمرة.
2- إبعاد ابن سلمان عن الصورة وضمان سكوته بإبعاده عن الصورة تماماً، وقطع أية وسيلة للوصول إليه، وهذه تحتاج إلى ترتيبات كثيرة، وتجهيزات عدة، وضمانات متعددة، وكلها غير مضمونة؛ ما قد يصل الأمر إلى التخلص منه، وفي كل الأحوال ستوجه أصابع الاتهام لترامب في فعل ذلك.
3- إبعاد ابن سلمان وتقديمه ومن شارك معه للمحاكمة محليًّا أو دوليًّا بتهمة القتل، وهذه كذلك لا تضمن سكوت ابن سلمان، الذي سيكون منهجه أثناء المحاكمة: عليَّ وعلى أعدائي.
أكثر ما يخيف ترامب الآن أنه أمام تحديين:
الأول: استمراره في الحكم لعامين قادمين دون إقالته ومحاكمته.
الثاني: إن نجا من هذه الورطة وبقي؛ فما الذي يضمن له عدم سقوطه في انتخابات التجديد بعد عامين بسبب تداعيات أزمة خاشقجي؟ دونالد ترامب في وضع لا يُحسد عليه، أمامه أبواب ظاهرها فيها الرحمة، وباطنها من قِبَلها العذاب. فأيُّ بابٍ يفتح؟