بقلم: نصير عبدالله

ترمي السلطات السعودية، كغيرها من الأنظمة، اللوم على المجتمع في كل أزمة أو مكروهٍ يصيبه، فسبب الحرمان من المشاركة الشعبية في صناعة القرار ليس إصرار الزمرة الحاكمة على احتكارها بل هو “تخلف المجتمع” وانعدام الوعي وعدم جاهزيته لذلك، رغم أنها هي من يعتقل وينكل ويقتل كل من حاولوا رفع هذا الوعي، وسببُ الانقسام والتفرقة هي عقليات الناس المتشددة المليئة بكراهية الآخر، رغم أنها غذّت هذا الانقسام وحاربت كل من حاولوا معالجته، وفي وجه هذا التنصل القمعي تردّ المعارضة بتحميل السلطاتِ مسؤوليتها على ما تفعل، ولكن بعضنا يبالغ ويلوم السلطات على قلة حيلتنا أو ضعفنا أو تخاذلنا في مواجهة هذا القمع.

لنا أن نلوم النظام على ما يفعل من حرمان من الحقوق، من تواطئ مع المحتل، من ترهيبٍ للناس، وتجويعٍ وتهجير وقتل، وتعهده لحلفائه الدوليين بأنه سيكون الحائل دون حرّيتنا، لإيمان الطرفين بأن في حرّيتنا تهديدًا لمصالحهم، ولكن ما معنى أن نلوم النظام على عجزنا؟ وما معنى أن نلومه على الصمت السائد بيننا؟ وعلى ما يتكرر من اندفاعية وتهوّرٍ في التحرّك؟ وعلى ندرة احتساب ما يستلزمه العمل السياسي من فحصٍ ودراسةٍ لطاقات النظام واستراتيجياته الأمنية؟ وعلى ضعف التخطيط الاستراتيجي والتكتيكي عندنا واكتفائنا بالأفعال ذات الأثر اللحظي؟

وكأن لسان حالنا يقول: لو لم يحاربنا خَصمُنا لكان الانتصار سهلًا.

يا له من حلمٍ جميل، أن يستسلم عدوّك دون ما يدفعه لأن يساومَ حتى، أن يترك سلاحه قبل أن تبدأ المعركة.

لنا أن نوجه أصابع الاتهام إلى النظام على كل ما يفعل، ولكن مواجهته، وبناء طاقاتنا، وتهيئة الأرضية اللازمة للتنظيم المستدام، بما تستلزمه من وعيٍ أمني، وسعيٍ للإحاطة بالمخاطر التي يتضمنها النشاط، دونَ طَمْأنةٍ أو تهوينٍ لِتبِعاته، هذه مسؤوليتنا نحن، وتقع على عاتقنا بعيدًا عن لوم السلطات.

كوننا مسؤولون لا يعني أننا المُلامون على هذا الضعف، وكأنما جلدُ الذات هو الحل، فتحمل المسؤولية يعني استهداف معرفة مكامن الخطأ وتقييم الماضي بدل أن يستمر توجيه اللوم طريقًا للتنصل من مسؤولية العمل.

وهذه المسؤولية، مسؤوليتنا، لا تختص بها فئةٌ أو جماعةٌ دون أخرى، فلربما يكون النشطاء والجماعات السياسية الخارجية والداخلية وكلاءً للتغيير، لكنهم ليسوا كفيلين به.

والتغيير لا يحتاج لمن يكفل به أصلًا، ولن يقوم به وكيلٌ وحده دون غيره من الناس، فما يحتاجه أشدّ حاجةٍ هو حاضنةٌ اجتماعية له وموطئ قدم لدى سائر الناس، حاضنةٌ للمقاومة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، قادرةٌ على البقاء حتى لو قُطعت رؤوسها، بل قادرةٌ على تنشئة قياداتٍ جديدة، ومستعدةٌ للصبر وتحمّل أعباء أيام الضيق والهزيمة دون ارتدادٍ عن قضاياها الحقة أو هجرانٍ لها، وهذا ما تقدر عليه الحواضن الاجتماعية، ولا يقدر عليه الأفراد أو حتى التنظيمات السياسية، فالأولى (أي الحواضن) إن تكوّنت، فبإمكانها الاستمرار إن خسرت تنظيماتها، ولها أن تستبدل فردًا بآخر إن تخاذل، وتنظيمًا بآخر إن ضَعُف أو فشل، أما الثانية فالقضاء عليها سهل إن لم يكن لها جذور.

بدل “الطبطبة” على من حولنا، وبدل تعزيز ما يتفشى من توكيل فردٍ أو “قائد” أو جماعةٍ واحدةٍ أو حزبٍ واحد ينوب عنّا في كل شيء، ليفكّر عنّا، وينظّم عنّا، وينقذنا من كل ما نعيشه من ظلمٍ وبطشٍ وعدوان، ويتحمّل مسؤولية ما نمرّ به وما نعاني منه، وتقديم الحلول لنا، وهو توكيلٌ ينتج “ناشطًا” أو “معارضًا” يقتاتُ روحيًّا على اعتمادِ الناس عليه حتى يغدو مستعدًا للتضحية بأرواحهم ليشعر نفسه ببطولية ما يقوم به من طيش.

وإن كانت أغلبُ شخصيات المعارضة المعروفة تقيم اليوم خارج البلاد، فجمهورُ المعارضة أغلبه في الداخل، ودون هذا الجمهور، دون الأفراد المتشتتين في الداخل، الذين يشكلون ويشكلن مجتمعين حاضنةً محتملةً للمقاومة والتغيير، ممن يوصلون وتُوْصِلن المعلومة التي تمكّن الجماعات السياسية والمنظمات الحقوقية من معرفة ما يجري ومن ثم التصدي له، أي: إن لم يحمل من هم وهن في الداخل منّا رؤيةً واضحةً وقراءةً صحيحة لواقعهم وواقعهن، فسنعجز عن القيام بعملنا، وهم وهنّ لن يعجزن عن العمل دوننا.

كلما شاع هذا الإحساس بالمسؤولية والواجب تجاه أنفسنا ومجتمعاتنا على كافة الأصعدة، كبُرَت هذه الحاضنة، وازدادت قدرتنا على التغيير.