منذ صعود محمد بن سلمان إلى ولاية عهد السعودية، أظهر عزما على نزع الغطاء الديني القديم كاملا، وتغيير جلد البلاد نحو المجهول تحت راية الحداثة والتطور.

ومضى ابن سلمان بكل قوة على أجساد علماء ودعاة لطالما كانوا من أبرز المنظرين الذين حملوا راية تشكيل الفكر الديني للمجتمع السعودي لفترات طويلة مثل سلمان العودة وسفر الحوالي وعوض القرني وغيرهم.

وكان آخر هؤلاء الداعية الإسلامي، وإمام وخطيب مسجد الملك عبدالعزيز في الدمام سابقا عماد المبيض، الذي هاجر إلى العاصمة البريطانية لندن، هربا من سجون محمد بن سلمان.

وأعلن المبيض في 9 مارس/آذار 2023، عبر حسابه في “تويتر”: أنه غادر المملكة بعد إغلاق جميع الأبواب في وجهه، أمام بيان الحق وإنكار المنكر، داعيا جميع العلماء اللحاق به.

وكان الداعية السعودي قد أثار الجدل على مدار الأيام الماضية، ما بين مقطع له وجه فيه انتقادات للحالة الدينية والاجتماعية في المملكة، وما بين آخر عبر فيه عن سوء فهم، ثم أخيرا ظهوره في لندن في 7 مارس 2023.

ولاقت المقاطع انتشارا كبيرا في الأوساط العامة، وجرى تداولها بقوة على مواقع التواصل الاجتماعي، وذكرت بعلماء تيار الصحوة الذين نكل بهم ابن سلمان منذ سنوات.

 

الرسالة وعكسها

لا شك أن رسالة المبيض التي أطلقها في الأول من مارس 2023 كانت قوية وغير معتادة منذ فترة طويلة، خاصة أنه خص بها 3 أفراد منهم الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده والثالث هو تركي آل الشيخ، المستشار في الديوان الملكي بمرتبة وزير، ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للترفيه.

وتضمن مقطع المبيض قوله: “أوجب الله عز وجل على أهل العلم بيان الحق وعدم كتمانه، فقال الله عز وجل (إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَٰتِ وَٱلْهُدَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِى ٱلْكِتَٰبِ ۙ أُوْلَٰٓئِكَ يَلْعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ)”.

ثم أورد: “إحقاقا للحق، وبيانا للحق، الذي أوجبه الله على أهل العلم، أبعث برسالتي إلى مقام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وسمو الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز أقول لكم إنني ناصح أمين”.

وأضاف: “اتقوا الله في أمر البلاد وأصلحوا ما يحدث فيها من طمس لعقيدة الإسلام، وتبديلها بهويات أخرى مغايرة”.

ثم وجه حديثه إلى تركي آل الشيخ رئيس هيئة الترفيه، المسؤولة عن تنظيم حفلات وسهرات مختلطة بحضور نجوم الفن والرياضة.

وقال له: “اتق الله في شبابنا وبناتنا وفي هذا الجيل، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة”.

وكذلك “من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا”، خاتما كلامه بـ”اللهم إني بلغت، اللهم فاشهد”.

ولم يكد يمر يوم على الفيديو الأول حتى أصدر المبيض مقطعا جديدا في 2 مارس 2023، يوضح فيه ما أسماه “سوء الفهم” لسياق حديثه.

وظهر الداعية السعودي في الفيديو المثير للجدل، وهو يجلس على مكتب، ويقرأ من أوراق أمامه، وقال: “ربما فهم البعض فهما خاطئا، فيما ذكرته في كلامي ومقطعي السابق”.

وتابع: “أحب أن أوضح وأؤكد أن بلادنا وقيادتها، وشعبها، تنعم بخير عظيم، وأمن وأمان، ورخاء ونماء، أدام الله على بلادنا الخير، وحفظها من كل مكروه”.

حينها قال ناشطون إن فيديو المبيض الثاني يبدو أنه جرى تصويره داخل مكتب تحقيق للأجهزة الأمنية السعودية، وأنه ربما أصبح معتقلا الآن.

 

الهجرة

لكن جاء يوم 7 مارس لينسف كل الافتراضات السابقة، عندما نشر المعارض السعودي المقيم في لندن سعيد الغامدي صورة له رفقة الداعية عماد المبيض الذي أعلن خروجه من المملكة.

ونشر الغامدي على حسابه عدة صور قائلا: “بفضل الله ومنّه خرج البطل الشيخ عماد وهو آمن”. وأعقب ذلك بقوله: “فلا نامت أعين الجبناء”. وظهر الاثنان في الصور وهما يتصافحان ويبتسمان.

وكان ظهور المبيض مع معارض سعودي بحجم الغامدي، ونشر تلك الجمل الرامية إلى وجود أزمة مع النظام، يؤكد أن الوضع بين الداعية ومنظومة الحكم ليس على ما يرام، وأن خروجه من وطنه غير عادي.

لكن المبيض حسم الأمور تماما حين ظهر في فيديو جديد، في 9 مارس 2023، كان هو الأول بعد إعلان خروجه إلى بريطانيا.

وقال في الفيديو: “أوجب الله عز وجل على أهل العلم هذا الأمر، كنت أتمنى أن أتحدث وأنا على منبري بين الناس، ولكن لو استمريت على هذا لأصابني ما أصاب إخواني العلماء والدعاة، والخطباء، من سجن وتنكيل، ومحاكمات جائرة”.

وتابع الداعية السعودي: “أن الله شرع عبادة عظيمة، هي الهجرة”، مشيرا إلى أن “اللجوء إليها يكون عندما يتعذر على الإنسان إقامة دين الله عز وجل، أو تبليغ دين الله، أو خاف على نفسه من الأذى والضرر”.

ووجه المبيض دعوة إلى علماء المملكة، بالخروج من السعودية، على غرار ما فعله، وقال: “يا أهل الخير في بلادي، إذا لم تستطيعوا بيان الحق داخل البلد، وأنا أعلم أنكم تتحسرون على ما يحدث من منكرات، فإذا لم تستطيعوا بيان الحق، فليس أماكم إلا الهجرة، اقتداء بما سبقكم من الأنبياء والصحابة، والصالحين”

 

10 سنوات

ذكرت حادثة المبيض الذي نجح في الهروب من جحيم وقيود ولي العهد، بما يحدث من تنكيل  لدعاة السعودية، منهم إمام الحرم المكي، والقاضي في المحكمة الجزئية بمكة المكرمة، الشيخ “صالح آل طالب”.

وطالب قضت محكمة الاستئناف السعودية في 23 أغسطس/ آب 2022، بسجنه 10 سنوات، على خلفية انتقاده هيئة الترفيه التي يقودها تركي آل الشيخ، ويرعاها محمد بن سلمان.

واعتقلت أجهزة الأمن السعودي، الشيخ “آل طالب” في مطلع أغسطس 2018، ولم يجر إصدار أي توضيح رسمي لسبب اعتقاله آنذاك.

لكن أفاد ناشطون وصفحات وسائل التواصل الاجتماعي السعودية على تويتر، مثل “معتقلي الرأي” بأن “اعتقال (آل طالب) جاء بعد إلقائه خطبة عن ضرورة إنكار المنكر”.

وجاء اعتقال إمام الحرم المكي، عقب تداول مقطع صوتي له هاجم فيه انتشار الحفلات التي تقيمها هيئة الترفيه وما يعتريها من فساد واختلاط بين الرجال والنساء.

ووفقا للتسجيل المتداول، توجه الشيخ “آل طالب” بصرخة نذير، متسائلا: “يا أيها المسلمون، ما الذي غيركم حتى بتنا نرى التزاحم على أماكن اللهو والطرب؟ ما الذي حل بكم حتى بتنا نرى النساء والفتيات يتراقصن مع الشباب جنبا إلى جنب في منظر والله تقشعر منه الأبدان وترتجف منه القلوب؟”.

وتابع تساؤلاته وقتها: “ما الذي دهاكم فقست قلوبكم وجفت مشاعركم وتبدلت أحاسيسكم فبتم ترقصون على جثث قتلى حربكم المدافعين عن دينكم ومقدساتكم وبلادكم؟”.

وأغضب التنكيل بإمام الحرم المكي، ناشطين خليجيين، منهم فهد سعيد الشهراني، الذي غرد عبر حسابه بتويتر في 4 أغسطس 2018، قائلا: “هذا ما وصلت إليه بلاد الحرمين ولا نستغرب ظهور طوائف يعبدون البقر والنار قريبا فما تسير له رؤية الدب الداشر (محمد بن سلمان) هو ما نشاهده يوميا من تخلف وفكر عفن”.

 

إعدامات بالجملة

ويبدو أن ولي العهد كان يخطط منذ لحظاته الأولى لضرب تيار الصحوة، وتحجيم دور الدعاة وعلماء الدين السعوديين.

وهو ما ظهر خلال حملة التنكيل بالأكاديميين والمفكرين والدعاة والإصلاحيين والناشطين الذين اعتقلهم النظام السعودي بسبب آرائهم المتعارضة مع السلطة.

حملة ابن سلمان الشرسة بدأت في سبتمبر/أيلول 2017 باعتقال الداعية سلمان العودة (بعد أن دعا للتوفيق بين قادة الخليج إثر حصار قطر في يونيو/حزيران 2017)، ثم الشيخ عوض القرني.

وتصاعدت وتيرتها بقوة لتشمل رموزا إسلامية بارزة مثل الأكاديمي في المعهد العالي للقضاء عبدالعزيز الفوزان، والشيخ سفر الحوالي، ومؤثرين آخرين.

وتعرض هؤلاء العلماء للتنكيل والقمع الوحشي والتعذيب، إضافة إلى مطالبة النيابة السعودية إعدامهم، وهو الأمر الذي استدعى صحفيين ومفكرين للكتابة عن تلك الحالة.

ففي 22 مارس/ آذار 2018، قال الصحفي السعودي المغدور جمال خاشقجي، مستعرضا الوضع الحقوقي في المملكة تحت قيادة محمد بن سلمان “إنه لأمر مروع حقا أن نرى أن رموز الإصلاح البالغين من العمر 60 و70 عاما يوصفون بأنهم خونة على الصفحات الأولى من الصحف السعودية”.

ونشر خاشقجي الذي قتل في قنصلية بلاده في إسطنبول في العام ذاته، هذه الكلمات خلال مقالة في صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية بعنوان “الإصلاحيون السعوديون يواجهون الآن اختيارات صعبة”.

وكان مقصد خاشقجي إقدام ابن سلمان على حملة اعتقالات واسعة، نالت عددا كبيرا من العلماء والدعاة، وبعض الساسة والمفكرين.

 

صدامات الأمير

علق الحقوقي مصطفى عزالدين فؤاد على الحالة الحقوقية في المملكة، واستهداف الناشطين والدعاة بالقول: “إن ولي العهد السعودي جاء إلى منصبه في لحظة تاريخية صعبة، وفي تمهيد لانتقال حكم المملكة من سلالة أبناء الملك عبدالعزيز إلى الأحفاد”

وأردف في حديث لـ “الاستقلال”: “بالتالي سيكون ابن سلمان الحفيد الأول الذي سيصبح ملكا، ولذلك فقد أراد أن يؤسس قاعدة ملكه على فكر جديد وهوية مختلفة”.

وأضاف: “البداية دائما ترسم مسارات المرحلة، وهو بدأ بصدام مع قوى متعددة بداية من الأمراء ومراكز القوى التي كانت مهيمنة في المملكة لسنوات طويلة”.

وكانت البداية من محمد بن نايف ولي العهد السابق، وصولا لرجال الأعمال مثل صالح كامل والوليد بن طلال، ثم القوى الدينية خاصة غير الرسمية، التي أصابها التنكيل بطريقة مضاعفة، وفق قوله.

وأورد أن “الأمير مضى على أشلاء معارضيه بالقتل والإعدام والسجن، لرسم صورة مختلفة للمملكة عالميا، وأنها تخلصت من الفكر الديني القديم، وباتت أرض السينما والفنون والترفيه، وجعل من يهاجمون تركي آل الشيخ معارضين له شخصيا وللنظام الجديد”.

واستطرد: “مع ذلك لا يلقى الأمير وأجهزته المعارضة الحقوقية المكافئة لانتهاكاته، إلا تقارير من منظمة العفو الدولية أو هيومن رايتس ووتش، أو المعارضين بالخارج”.

لكن الأمر يستدعي تدخلات دولية حقيقية، لا أن يجري تجاوز الأمر وتجاوز دماء خاشقجي بهذه الطريقة، وفق تقديره.

واختتم: “السعودية بلا جدال هي أسوأ دول الخليج من حيث حقوق الإنسان، يوازيها مملكة البحرين التي هي تعد خاضعة لإرادة الرياض بطريقة أو بأخرى”.

وأردف: “ومن ثم يجب أن تتوحد الجهود لتتبع الحالة الحقوقية هناك والتركيز عليها والانتصار لها، كما يحدث في مصر وسوريا وغيرها من البلدان”.