قرابة مليون مواطن في مدينة جدة السعودية، مصائرهم على المحك أمام متراس ولي العهد محمد بن سلمان، الذي لا يكف عن متغيرات تتعلق بالهوية والثقافة داخل المملكة، بل ذهب إلى عملية إحلال ديموغرافية واسعة تحت دعاوى التطوير.

مئات الأحياء السكنية في جدة تعرضت للهدم بشكل عشوائي وسريع، دفعت المواطنين إلى الغضب، حد الكتابة على جدرانهم “يسقط الطاغية”، في رسالة موجهة إلى ابن سلمان، الذي يعتبر المسؤول الأول عن محنتهم، دون تعويض يذكر أو توفير بدائل مناسبة.

واستذكرت عملية الهدم الأخيرة المتغيرات العمرانية داخل المملكة ككل، وبما حدث في مكة والمدينة من توسعات عمرانية طغت على الجانب المقدس، وجعلت الهوية العمرانية التراثية في خبر كان، ولم تبق منها أثرا.

 

بلا مأوى

في مطلع فبراير/شباط 2022، أطلقت أمانة محافظة جدة أعمال هدم عشوائية داخل المدينة، ضمن خطة كشف عن معالمها كاملة، تتعلق بتطوير البلدة وفقا لمعايير جديدة.

واعترض قطاع كبير من السعوديين المقيمين في المدينة على إزالة الأحياء الشعبية، معتبرين أنها “جزء من التاريخ”، وشاهدة على أحداث كثيرة، ويقطنها عوائل منذ سنوات طويلة.

وفي 19 فبراير 2022، نشرت صحيفة “ميدل إيست آي” البريطانية عن تطورات الأحداث، وقالت إن “نحو مليون شخص على الأقل في جدة، وفقا لتقديرات محلية، انقلبت حياتهم رأسا على عقب في الأشهر الثلاثة الأخيرة، وسط عمليات هدم تقوم بها الحكومة على نطاق واسع”.

وأشارت إلى أن “ابن سلمان يهدم أحياء كاملة بجدة، ويلقي بمئات الآلاف في العراء”.

وبحسب الموقع فإن “المئات من منازل السكان والمدارس والمساجد ودور العجزة وذوي الإعاقة تحولت إلى أنقاض، حيث نشر بعض السعوديين على مواقع التواصل الاجتماعي صورهم في الأسابيع الأخيرة وهم يودعون مساجدهم وشوارعهم وأسواقهم”.

ويذكر أن جدة التي تتعرض لأعمال هدم واسعة، هي إحدى محافظات منطقة مكة المكرمة، وتبعد 79 كم فقط عن الحرم المكي، وتقع غرب المملكة على ساحل البحر الأحمر.

وتعد العاصمة الاقتصادية والسياحية للبلاد، وهي الوجهة الأولى للسائح سواء من الداخل أو الخارج، خاصة وأنه يمر عليها الملايين ممن يقصدون أداء مناسك الحج والعمرة.

ويقطن في جدة قرابة 4.5 ملايين مواطن، فيما تقع المناطق المهدومة جنوبي جدة، وهي منطقة يراها كثيرون قلب وروح المدينة.

ورغم أن مناطق جنوب جدة كانت مهملة عبر السنين بسبب مشاريع التنمية في الشمال، لكنها كانت مركزا اجتماعيا نابضا بالحياة، وتتشكل من خليط من الجماعات العرقية التي استوطنتها قبل عقود.

 

انتهاكات غير مسبوقة

وفي سوابق مماثلة لما يحدث في جدة، شهد شمال محافظة تبوك عام 2020 وقائع هدم مشابهة، وتصدرت الأخبار بعد مقتل الناشط القبلي، عبد الرحيم الحويطي، الذي احتج على تهجيره من بيته، عبر مقطع فيديو نشره على الإنترنت آنذاك، منددا بهدم منازل المنطقة لإفساح المجال لتشييد مدينة “نيوم” الضخمة المستقبلية.

ويتهم ابن سلمان بانتهاكات حقوقية غير مسبوقة في تاريخ البلاد، من خلال سجن واحتجاز نشطاء، وأخيرا فيما يخص عمليات الهدم والإجلاء الواسعة لمئات الآلاف من المواطنين.

وعبر قطاع كبير من النشطاء السعوديين عبر منصات التواصل الاجتماعي عن غضبهم تجاه ما يحدث في مدينة جدة.

ونشر الأمين العام لحزب التجمع الوطني السعودي المعارض، عبدالله العودة، نجل الداعية الإسلامي المعتقل، سلمان، صورة من داخل جدة معلقا: “يسقط الطاغية.. من جداريات جدة.. تفوز هذه”.

وعلقت صحيفة “خليج 24” على صورة الجدارية المطالبة بإسقاط ابن سلمان، قائلة: “إنه حدث غير مسبوق، ويأتي في سياق غليان شعبي ضد ولي العهد”.

ونقلت الصحيفة عن مصادرها أن “ابن سلمان انفعل لحظة رؤية صورة للجدارية الداعية إلى إسقاطه، وأمر باعتقال من كتبها فورا”.

وأشارت إلى أن “مستشاري ولي العهد حاولوا تهدئة روعه من الجدارية، والتأكيد على أنها حادثة لن تمر دون عقاب”.

فيما أعلنت المنظمة الأوروبية السعودية لحقوق الإنسان في 22 فبراير/شباط 2022، أن “ما يتعرض له سكان جدة يأتي ضمن سياسة الإخلاء القسري”.

وكتب حساب باسم “هدد جدة”، عبر موقع تويتر: “من ضمن الأحياء التي سيطالها الهدم (مكة، الزهور، والخالدية، وأم النبع، والمصافي، وحارة يمن).. هدد جدة”.

وغردت الناشطة السعودية المعارضة المقيمة في بريطانيا، علياء أبوتايه الحويطي، قائلة: “وكأن ابن سعود يرسم نهايته! فعلى أقدام هدد جدة تكسرت وذابت كل الفوارق، ودعس هذا الإرث القذر من الفرقة”.

وأضافت “الظلم صهرنا ووحدنا، وماتخافونه يا حكومات هو (الوحدة)، واليوم من في الغربية يتحدون مع الحويطات ضد ترحيل نيوم، وتندحة، وجهينة (مدن سعودية)، هانت وسننفض هذا الظلم.. الله أكبر”.

ودون حساب تحت اسم “حقوق الضعوف” راصدا الأوضاع في المدينة، مؤكدا: “قضية هدد جدة كبيرة جدا، أحياء بأكملها تزال ويهجر أهلها بالقوة، وكل هذا خلال أسابيع.. أمين جدة تحدث عن أكثر من 100 حي سيتم إزالتها”.

 

المدن والهوية

ووصف أستاذ الهندسة المدنية بجامعة الأزهر، سيد نادر، عمليات هدم بعض الأحياء المدنية القديمة في جدة بـ”العشوائية وغير مأمونة العواقب”، لأن عمليات الإحلال والتجديد في المدن الكبرى لا تتم بهذه الطريقة.

وقال نادر في حديث لـ”الاستقلال” إن “هناك ما يعرف بالهوية العمرانية للمدن الكبرى، حيث يرتبط النسيج العمراني بثقافة الشعب وأصله، وعند الإقدام على عملية تجديد وتطوير معالم المدينة، لا بد من مراعاة ذلك الجانب بشكل أساسي، وهو خيط رفيع ما بين الحداثة والتقدم، وما بين الطمس الكامل لمعالم المدن، وترميمها”.

وأوضح أن “بلديات في عواصم مثل روما وباريس وإسطنبول، وكثير من المدن العريقة في أوروبا، أقدمت على التطوير دون المساس بالهوية الثقافية والعمرانية لها، ورأينا أن أحياء روما القديمة وبنيتها التحتية رممت وزينت بالغرافيتي دون هدم أو إزالة عشوائية”.

ولفت أستاذ الهندسة المدنية إلى أنه “رصد جيدا المتغيرات العمرانية داخل المملكة خلال العقدين الماضيين من جهة، وفي آخر 5 سنوات من جهة أخرى”.

وأعرب عن أسفه من “عدم مراعاة الهوية الدينية والاجتماعية لسكان الجزيرة العربية والحجاز، والذين كان لهم طابع معماري مختلف في تخطيط المدن ومواصفات البناء ولونه، وقد وجدنا ما حدث من مهزلة في مكة المكرمة قبلة المسلمين، وأهم مدنهم المقدسة”.

واستدل نادر “بما عبر عنه الباحث علي عبد الرؤوف في كتابه الشهير (من مكة إلى لاس فيغاس) والذي قدم أطروحة نقدية عن العمارة الحديثة في مكة، وعدم توافقها مع النزعة القدسية للمدينة، وأن الأبنية الشاهقة والفنادق الفاخرة، لم تكن تتناسب مع وضعية مكة أبدا”.

وأشار إلى أن “من هذا المنطلق رأيت هذا في المدينة المنورة التي أصبحت أشبه ما يكون بمدينة تجارية عامرة بالفنادق، بعد أن أخرج قطاع كبير من أهلها وتمت مصادرة أحيائها السكنية لصالح توسعة الحرم، دون الحفاظ على الهوية الأثرية للمدينة المنورة”.

وتابع نادر: “بل وصل الأمر إلى هدم بيوت كثير من الصحابة، ومجالس المهاجرين والأنصار القديمة، وهو ما كان في مكة أيضا من تدمير آثار قريش ومنازل الصحابة القديمة، ويتبادر إلى الذهن عند زيارة هذه الأماكن أين بيوت الصحابة؟ أين آثارهم؟ أين هذه الأماكن التي كانت صامدة لأكثر من 1400 عام؟”.

واعتبر أن “عملية التجديد والتوسعة العمرانية التي أطلقها ابن سلمان، وطالت مجموعة من المدن مثل جدة، تهدف إلى أكثر من بعد، البعد الأول إعادة التأسيس بما يتوافق مع نهج المملكة الجديد نحو الانفتاح والترفيه، وجدة على رأس تلك المناطق، وكذلك مدينة نيوم الجديدة، التي يراد لها أن تكون مركز الثقل السياحي والتكنولوجي”.

واختتم نادر حديثه بالتأكيد على أن “ما يحدث أقل ما يقال عنه تغيير ديموغرافي غير محسوب، سيترك تداعيات سلبية كبيرة على المجتمع السعودي، ويسلب البلاد تراثها وهويتها”.