شرعت السعودية مؤخراً بالهروب من ثقافة متطرفة غارقة في سياسات إسلامية مقاومة للتغيير، إلى تطرف جديد يشجع بقوة النزعة القومية للمملكة، ويعاقب كل من يحاول مهاجمة قادة البلاد أو السياسات التي تتخذها.

واتسمت سياسة السعودية بالتشدد الديني التقليدي في الماضي، إلى درجة أن الحكومة لاحقت وقمعت المعتنقين لديانة مغايرة للخطاب الذي كانت تروجه، لكن خلال الأعوام القليلة الماضية، ومنذ بروز اسم ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، ارتأت المملكة اتخاذ الفلسفة القومية، التي تمنح الأولوية للموالاة والهوية القومية والنزعة المتطرفة التي تصل إلى التهديد بقتل من يعارضها.

وفي هذه المرحلة من تاريخ السعودية ترى الأسرة الحاكمة أن النزعة القومية المتشددة ستعود عليها بمنافع أقوى من فوائد الممارسات الدينية المحافظة، التي وضعت المملكة أمام العالم كدولة مصدرة للمتطرفين إلى العالم عبر التشدد الديني، واتهامها بالوقوف وراء عدد من الأحداث الكبرى، وفي مقدمتها تفجير مركزي التجارة العالميين، في سبتمبر 2001.

وتعكف السعودية على ضبط عقدها الاجتماعي بانعطافها نحو العصبية الوطنية وابتعادها عن الدينية؛ من خلال محاربة المتدينين واعتقال الناشطين المعارضين لسياسة الأسرة الحاكمة، وافتتاح الملاهي والمراقص واستقدام الفنانين من أنحاء العالم.

ورغم أن الرياض تعمل على إظهار نفسها بمظهر المنفتح والمتخلص من إرث الماضي المتطرف دينياً، فإن موقع “ناشنال إنترست” الأمريكي نشر، في 20 أغسطس، مقالاً للكاتب والمحلل السياسي رايان بوهل، رأى فيه أن السعودية “استبدلت نموذجاً متطرفاً في العلاقة بين الحاكم والمحكوم بنموذج متطرف آخر”.

وحذر الكاتب من أن الرياض باتت تتبنى نزعة وطنية مفرطة كترياق لإصلاح العلاقة المتوترة بين حكامها ومحكوميها، بعد الوهن الذي أصاب ركائزها الدينية والاقتصادية الرئيسية.

وأوضح أن السعودية باتباعها ذلك النهج “تعزز من نمط جديد للتطرف قوامه المغالاة في الوطنية”، معتبراً أن هذه النزعة “تشكل خطراً حقيقياً ليس على سمعتها فحسب، بل على جيرانها الخليجيين من ذوي العقلية المستقلة، وعلى جوانب من علاقاتها الحساسة مع الغرب”.

ويقول المحلل السياسي الأمريكي في مقاله إن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، ومعاونيه المغالين في نزعتهم الوطنية؛ من أمثال المستشار السابق في الديوان الملكي، سعود القحطاني، يشنون حملة بعيدة الأثر ضد الناشطين والأكاديميين والشخصيات المؤثرة والعامة؛ من أجل إحداث تحول سريع في العقد الاجتماعي نحو قومية أو عصبية وطنية، بعد أن كان أساسه الدين والقبيلة”.

وأوضح بوهل أن الولاء القديم للمؤسسة الدينية “ساهم في تعزيز عُرا العلاقة بين المجتمع السعودي والنظام الملكي، إلا أن نزعة التدين بدأ التغيير يطرأ عليها، ما قوض القدرة السياسية لعلماء الدين في حشد الأتباع إلى جانبهم”.

ويرى أن القومية أو العصبية الوطنية مفهوم حديث نسبياً في السعودية، “فملوكها السابقون اعتبروها شغفاً خطيراً معادياً للملكية ومناصراً للقومية العربية التي تبناها الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر، وهو ما لم يكونوا يريدونه، لكنه الآن أصبح واقعاً”.

وأضاف: “السعودية باتت الآن تتبنى مفهوم الوطنية المفرطة لتقوية عقدها الاجتماعي، وعلى صلة وثيقة بهذا الأمر تتعاظم حركة قومية مفرطة قوامها رجال معظمهم من الشباب الذين يتجولون بين وسائل التواصل الاجتماعي الأجنبية”.

ويعتقد بوهل أن أولئك الشبان يسهمون في صياغة الرواية السعودية للأحداث، وتحديد خطوط حمراء جديدة يتحتم على الرياض وضعها في الاعتبار عند رسم سياستها.

أمثلة للتطرف الجديد!

في عام 2018 وحده، تسبب شباب سعوديون في إذكاء جذوة التوتر بين السعودية وكندا، وهو ما ساهم بشكل كبير في قطع العلاقات بين البلدين، والتي شهدت تدهوراً كبيراً مؤخراً.

كما هللوا لاعتقال ناشطات حقوق الإنسان السعوديات والناشطين ومشايخ وعلماء، وأشادوا بالإعدامات الجماعية لمعارضين سياسيين، وساقوا المبررات لمقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية السعودية بإسطنبول، وأثاروا التوترات مع إيران.

وأسهم المتعصبون الوطنيون السعوديون الذين يرون محمد بن سلمان رمزاً لهم، بالتشدد إزاء بعض دول الجوار الخليجي، كما هو الحال في حصار قطر، وأضحى من العسير إخماد روح التعصب تلك إذا أرادت الرياض يوماً التوصل إلى حل لمشكلة الحصار مع الدوحة.

ومؤخراً، يخشى الكثير من أن يسهم ذلك التطرف والنزعة القومية في استهداف كل من سلطنة عمان والكويت في المستقبل، اللتين لا تزالان بعيدتين عن استهداف الرياض.

ملهم المتطرفين

في مايو من العام الجاري، نشرت “الفايننشال تايمز” البريطانية تقريراً من مراسليها بعنوان “صعود النزعة الوطنية السعودية في رحلة البحث عن الهوية”، ووضعت له عنواناً ثانوياً يقول إن صعود ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، ألهم مداً وطنياً قاد إلى هجمات على آخرين في وسائل التواصل الاجتماعي.

ويقول التقرير إنه في الوقت الذي تم فيه بث الحلقة الأخيرة من المسلسل الشهير “صراع العروش”، بثت شركة إعلامية مقطعاً صغيراً مصوراً يظهر شخصاً بجلباب أبيض يجلس على العرش الحديدي الشهير الذي يثور حوله الصراع في المسلسل.

ويضيف: “إن الهدف من نشر المقطع كان الترويج للشركة في المملكة، لكن ما حدث بعد ذلك كان مختلفاً؛ إذ سارع بعض المواطنين إلى مواقع التواصل الاجتماعي لانتقاد المقطع، واعتبروه هجوماً على العائلة السعودية المالكة، ودعوا إلى محاسبة المسؤول عن نشره، بل وطالب البعض بسحب الجنسية من المتورطين في إعداده ونشره”.

ويوضح التقرير أن “الهجوم على المقطع، الذي يبلغ طوله 10 ثوانٍ ونُشر أولاً على تطبيق “سناب شات”، يعتبر أحدث الأمثلة على تزايد نزعة التطرف الوطني في المملكة خلال السنوات الثلاث الماضية، منذ سيطرة ولي العهد، محمد بن سلمان، على السلطة في البلاد”.

التطرف وأثره على السعوديين

ويرى مؤيدو ولي العهد السعودي أن “نزعة التطرف الوطني مطلوبة، وهي تعبير عن الثقة في القيادة الجديدة للبلاد”، لكنه بالنسبة لآخرين إجراء تقسيمي للمجتمع، ومثير للمخاوف من العقلية العدائية التي تعتمد مبدأ “من ليس معنا فهو بالتأكيد ضدنا”، التي تعززت في ظل ولي العهد البالغ من العمر 33 عاماً.

ونقلت وكالة “رويترز” عن أكاديمي سعودي طلب عدم ذكر اسمه، قوله: “إنها سياسة إقصائية بشكل شديد حتى تجاه سعوديين آخرين، ويمكن أن تتحول إلى نزعة خطرة جداً على المدى البعيد”.

وأوضح بقوله: “في هذه البيئة يمكن لأي حركة معارضة بسيطة أن تودي بالمرء إلى غياهب السجن، بل وقد يكلف مجرد عدم إظهار الولاء لبن سلمان بشكل كافٍ على مواقع التواصل الاجتماعي المرء سمعته ووظيفته وحتى حريته”.

ولمح قائلاً: “سعود القحطاني مستشار بن سلمان يعد المحرك للعديد من هذه الحملات على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما اتضح واقعياً مما حدث من تأثير كبير انتهى بمقتل الصحفي جمال خاشقجي، الذي تعرض لحملات أيضاً صوّرته بالخائن؛ بسبب عدم إيمانه بما يقوم به ولي العهد”.

مجتمع يعاني من ضغوط

وبدا أن العديد من السعوديين الذين سارعوا بتوجيه الاتهامات بالخيانة لخاشقجي أو كثير من المعارضين، قد استمدوها من الخطابات الرسمية للدولة السعودية، فالاتهامات بالخيانة تنتشر على الإنترنت، وتجدها مطبوعة في شكل تهديدات ورسائل مكتوبة بالأحرف الحمراء على الصفحات الأمامية للصحف السعودية.

ويمكن استهداف أي شخص يُنظر إليه على أنه يعرّض سمعة المملكة للتشويه، ويشمل ذلك حتى الكوميديين الذين يهدفون إلى المرح فقط، وليس لشيء آخر.

وقال عبد الله الفوزان، عضو مجلس الشورى السعودي، في خطاب لاذع متلفز أذيع في وقت متأخر من العام الماضي: “إذا كان الشخص محايداً أو يقف مع العدو ضد هذا البلد فمن حقنا أن نطلق عليه وصف خائن”.

وتقول صحيفة “بلومبيرغ الأمريكية” إن الخطورة تكمن في أن تحريض الناس على الإساءة لغيرهم من المواطنين تحت ستار الوطنية قد يمزق المجتمع، الذي يعاني بالفعل من ضغوط ناجمة عن التكاليف التي تفرضها إصلاحات الأمير محمد بن سلمان، فيما يعرف باسم “رؤية 2030”.

لماذا القومية؟

ستسهم القومية بالسماح لأفراد العائلة المالكة بالحد من تحديات السياسة الداخلية القائمة على الآراء الدينية، ما يضعف جهود الطعن في شرعيتهم، في الوقت الذي يحتضنون فيه سلوكيات غير مسبوقة؛ مثل البدء في علاقات لم تكن متصورة مع “إسرائيل”، والترويج للتطبيع عبر ناشطين يسلكون هذا الإطار كما حدث مؤخراً.

كما ستقلل القومية من قدرة رجال الدين المحافظين على الاعتراض على بعض الإصلاحات الاجتماعية في المملكة؛ مثل الاختلاط بين الجنسين، وتشجيع النساء على العمل والقيادة، وتشجيع أشكال الفن والترفيه.

وبالنسبة لأهداف السياسة الخارجية للمملكة تعد القومية أداة مفيدة، خاصة عندما يتعلق الأمر برغبة الرياض في إعادة تشكيل الشرق الأوسط بشكل يخدم مصالحها.

وبدلاً من الاعتماد على الولاء القبلي أو الإعانات المالية يمكن للحكومة السعودية أن تستخدم الكبرياء الوطني لتحفيز المواطنين على اتباع سياساتها والتصدي للدعاية من المنافسين، مثل الرسائل القادمة من الدول المعارضة للرياض، حيث يمكن رفضها بسهولة باعتبارها مؤامرات أجنبية.