بقلم: قصي بن ظاهر

لا يمكن أن نتمثّل ماهية الوطن دون أن نتمثله من منطلق السياسة التي تحكمه و تتجاذبه، فهناك دول محدودة سياسيًا على السطح، وهناك دول متحركة لها نفوذ ومفعمة بالحيوية في الصميم، ومابين النموذجين تتجلى أوجه التجاذب والتي تختلف مسمياتها وتوصيفاتها، فهناك من جانب السلطة الحاكمة، وهناك في الجانب الآخر من يسمون بالإصلاحيين أو آخرين مِن مَن يسمون بالمعارضين وغيرهم مِن مَن يوصفون بالثوار، وشتان بين تلك الأوصاف من حيث الأهداف واستراتيجيات العمل.

الإصلاحيين في الدول الشمولية ذات الأنظمة المتسلطة لا يختلفون من حيث توجس وعداء الحكومة تجاههم عن كل من المعارضين أو الثوار، فهم جميعاً أعداء للوطن في نظر الحكومات القمعية، رغم أنهم في عملهم مثلهم مثل المعارضين يهدفون في الأساس لتحقيق أهداف تخدم منظورهم لمصلحة الشعب في المقام الأول وإن اختلفت بين توجهاتهم التي قد تتفاوت حدتها وعمقها بين التطرف واللين وبين البراغماتية والصدامية.

أنظمة الحكم المطلق هي أشرس أعداء فكرة المعارضة أو منهج الحكم الديمقراطي أو الحرية لانها جميعها مفاهيم تستهدف مقارعة احتكارية الحكم، فهي إما تريد إصلاح عمل النظام الحاكم وبالتالي إخضاعه لما تريد، أو هي تريد إزاحة شخوص النظام ليحل بديل عنها أكثر قدرة على إدارة الوطن، أو في أكثر التجليات تطرفاً الثورة على الشخوص وعلى نظامه فتزيح التركيبة السياسية بالكامل بكل أفرادها و متنفذيها و النخب المالية المنتفعة منها.

هنا تُخرج الدول الشمولية بندقية وصف الخيانة للوطن، فتنعت أي معارض بالخيانة للوطن وأي إصلاحي بأنه خائن للوطن وأي ثائر بأنه عميل خان الوطن، بينما في الحالات الثلاثة المذكورة،  لا تستهدف المعارضة الوطن بشعبه وأرضه وتاريخه ومقدراته بل تستهدف النظام السياسي الحاكم او الزعيم أو الحزب الحاكم، وفي حالة الإصلاحي لا يستهدف أي منها بقدر ما يستهدف إدخال التغييرات الحياتية والسياسية على النظام القائم والتي لتلك التغييرات من وجهة نظره انعكاسات إيجابية على الوطن والمواطن.

كان القيصر ونظامه في روسيا يطلقون نعت الخونة للوطن على الشيوعيين قبل ثورتهم البلشفية أمام عامة الشعب، فسار الناس على هذا الوصف إعتقادا منهم بأن وطنهم روسيا هو القيصر، ولكن عندما نجحت الثورة البلشفية وأصبحوا يحكمون أصبح الشيوعيون في نظر الناس هم الوطنيون الذين أنقذوا الوطن، وأصبح الناس كذلك يرددون نعت الشيوعيون للمتعاطفين مع القيصر بأنهم هم الخونة الحقيقيون للوطن، تماما كما حدث في إيران زمن الشاه حينما كان الإسلاميون ملاحقون ومشيطنون موصوفون بالانقلابيين والخونة، تحولوا بعد نجاح الثورة لوطنيين وأصبح الشاه وأتباعه هم الخونة.

وصف خيانة الوطن من قبل الدول الشمولية ليست إلا شيطنة يقوم بها من في السلطة من أجل الحفاظ على السلطة، والوطن كقيمة عليا برئ من إلصاق تهم خيانته التي يوصف بها كثر ولا أقول الجميع، فمن يبيع أسرار الوطن للأعداء خائن دون نقاش ومن يساعد عدو على الإضرار بالشعب خائن دون جدال، أما المعارض الذي يريد تغير نظام أو إصلاحه فهو لا يستهدف الوطن والشعب بل يستهدف من يدير الوطن أو النظام الذي يحكمه.

المزايدة بإسم الوطن هي إحدى نتائج الجدلية حول معنى الوطن لدى الكثيرين من من اختلط لديهم مفهومه، فتُصدّر عبارات حب الوطن المعلبة وتستخدم أوصاف الشيطنة والتخوين والعمالة ويقذف المستقلين والمعارضين السياسيين بالإسترزاق والانتهازية، في حين لو بحثنا جيداً في كل ما يقال لوجدنا أن الأمر يختصر في وجود طرفان أحدهم يحاول أن يغير نظام أو شخص وآخر يتشبث بالنظام او بالشخص بكل الوسائل بما فيها الابتزاز العاطفي والتجييش عبر إطلاق الأوصاف الخطيرة على كل طرف خارج عن السياق العام.

الخيانة وفق قانون أنظمة الحكم المطلق يمكنها أن تكون أمور بسيطة ومطبقة بل و مسلّم بها كالحقوق في الدول الديمقراطية مثل نقد الحاكم أو الاعتراض على قراراته أو المطالبة بإصلاح النظام أو المراقبة والمساءلة والمشاركة الشعبية في الحكم، إلى جانب الأمور الخطيرة المتفق عليها من كل الدول، والتي تتمثل فيما تعتبره الدول الديمقراطية والحرة الخيانة الحقيقية للوطن هي تلك المعنية بأمن الشعب ومصالحه، مثل التخابر لصالح دولة أجنبية أو دولة عدوة أو التعاون مع دول أو منظمات محلية من أجل الإضرار بمصالح الشعب والإخلال بالنظام الدستوري الذي يكفل له حقوقه وحرياته ومعيشته الكريمة، أو إفشاء الأسرار التي تمس الأمن القومي عسكرية كانت أم اقتصادية.

في المقال القادمة بعون الله سيكون حديثنا عن مفهوم الوطنية وهل يمكن لنا أن نختار أوطاننا.