شواهد عدة تشير إلى أن السعودية ربما تلتحق قريبا بركب المطبعين مع نظام بشار الأسد في سوريا، في تحول قد يكون دراماتيكيا لموقف المملكة الأولي الذي انتهجته بعد قمع الأسد للثورة الشعبية ضد نظامه في مارس/آذار 2011، والذي تمثل في تقديم دعم واسع لجماعات المعارضة السورية.

أحدث هذه الشواهد، وفق متابعات “الخليج الجديد”، كانت تصريحات وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، في كلمة له خلال جلسة حوارية على هامش “مؤتمر ميونخ للأمن”، مساء السبت، بشأن وجود “إجماع عربي على أن الوضع الراهن في سوريا يجب ألا يستمر”، وعلى ضرورة “إيجاد توجه مختلف” إزاء ذلك.

ورغم أن بن فرحان قال إن “هذا التوجه لم نتوصل له بعد”، لكنه شدد على “أهمية معالجة الجانب الإنساني في سوريا ووجود مسار واضح مع دمشق بشأنه”.

ويأتي ذلك بعد تصريحات أخرى لـ”بن فرحان”، الشهر الماضي، قال خلالها إن الرياض “تعمل مع شركائها لإيجاد طريقة للتعامل مع حكومة (النظام السوري) دمشق بطريقة تقدم تحركات ملموسة نحو حل سياسي”.

تصريحات تتناغم مع العرف السياسي القائل بأنه “ليست هناك صداقات دائمة ولا خلافات مستمرة”؛ فها هو بن فرحان يدلي بتصريحات تبدو ودودة إزاء النظام السوري، في انقلاب عن تصريحات سلفه عادل الجبير قبل سنوات، والذي ما فتئ يؤكد على أنه “من المستحيل بقاء الأسد في السلطة”، وأن رحيله عن الحكم “مسألة وقت.. عاجلا أو آجلا”، جازما بأن روسيا “ستفشل في إنقاذه”.

وكانت الجامعة العربية جمدت عضوية سوريا منذ 2011 على خلفية قمع نظام الأسد للثورة الشعبية ضد نظامه، قبل أن تتصاعد مساع رسمية بعدة دول عربية لإعادة دمشق للجامعة، وتطبيع العلاقات معها. وتقود هذه المساعي دول عدة، تأتي في مقدمتها الجزائر والإمارات والأردن.

ومن المهم الإشارة هنا إلى أن التوجه السعودي الجديد إزاء دمشق ليس وليد اللحظة؛ فالرياض بدأت قبل أكثر من عامين مباحثات أمنية مع نظام الأسد لاستكشاف فرص تطبيع العلاقات معه. لكن لم يكن هناك تقدم؛ لأن السقف الذي كانت تتخيل السعودية تحقيقه غير وارد لدى نظام الأسد، والذي كان يشمل وقتها فك الارتباط مع إيران.

 

“دبلوماسية الزلزال”

ومن الشواهد، أيضا، مسارعة السعودية، قبل أيام، إلى تقديم مساعدات إغاثية إلى مناطق سورية واقعة تحت سيطرة نظام الأسد تضررت من الزلزال المدمر الذي ضرب مناطق في شمالي البلاد وجنوبي الجارة تركيا في 6 فبراير/شباط الجاري، وهبوط طائرات إغاثية سعودية في دمشق للمرة الأولى منذ 2011. فربما تقدم تلك الكارثة الفرصة التي تحفظ بها المملكة ودول أخرى ماء وجهها للتطبيع مع نظام الأسد، تحت غطاء الإغاثة الإنسانية، والذي بدأت تحليلات غربية وعربية تطلق عليه اسم “دبلوماسية الزلزال”.

ومنذ قرابة شهرين، جرى الحديث في وسال إعلام محسوبة على نظام الأسد عن زيارة قام بها رئيس المخابرات العامة بالنظام السوري اللواء حسام لوقا إلى السعودية، وقيل إنها توجت بالنجاح، فاسحة المجال للبدء بالعلاقات السياسية بين البلدين.

وكان لوقا ونظيره السعودي خالد الحميدان شوهدا وهما يتجاذبان أطراف الحديث خلال خلال “المنتدى العربي الاستخباراتي” الذي عقد بالقاهرة في نوفمبر/تشرين الثاني 2021.

 

لماذا الآن؟

وربما يحرك الموقف السعودي إزاء ترميم العلاقات مع نظام الأسد، والذي يتبلور حاليا، عدة أسباب:

فقد يأتي هذا الموقف المتجه نحو التطبيع مع الأسد مدفوعا بالتنافس المتصاعد بين الرياض وأبوظبي على الاقتصاد والنفوذ السياسي في المنطقة، وهو تنافس يمكن وصفه بأنه يسير وفق نهج “رأس برأس” أو “خطوة بخطوة”.

فالإمارات، التي تنتهج قيادتها سياسة خارجية براجماتية، بادرت إلى مبكرا إلى تطبيع العلاقات مع نظام الأسد، وأرسلت وزير خارجيتها عبدالله بن زايد إلى دمشق 3 مرات، في السنوات الأخيرة؛ الأولى في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، والثانية في يناير/كانون الثاني 2023، والأخيرة قبل أيام في في 12 فبراير/شباط الجاري. وفي المرات الثلاث استقبل الأسد الوزير الإماراتي وبحث معه سبل تعزيز العلاقات. فيما تواجد الأسد بأبوظبي في مارس/آذار 2022، في زيارة كانت الأولى له إلى دولة عربية منذ 2011. وكانت الإمارات قد أعادت فتح سفارتها في دمشق قبل 3 أعوام، ودعت في وقت سابق هذا العام إلى عودة سوريا لشغل مقعدها في جامعة الدول العربية.

والسعودية، وفق مراقبين، لا تريد أن ترى نفسها خارج المعادلة السورية، في وقت يتصاعد فيه الدور الإماراتي هناك، في وقت تبدو فيه واشنطن وكأنها فتحت الباب مواربا لذلك.

وربما يشجع التحول السعودي في الموقف من دمشق التراجع المسجل على الأرض بالنسبة لجماعات المعارضة السورية والجمود في جهود حللة الأزمة السياسية، والذي يرجح أن يتواصل لفترة ليست بالقصيرة، مع انشغال الفاعلين الرئيسيين في تلك الجهود بمشاكلهم الداخلية؛ فروسيا منغمسة في حرب النفس الطويل مع أوكرانيا المدعومة غربيا، وتركيا عالقة في كارثة إنسانية كبيرة ومقبلة على انتخابات مصيرية، وإيران تواجه احتجاجات واسعة يعمل الغرب على تأجيجها.

كما يشجع التحول السعودي استتاب الأمر بصورة كبيرة لنظام الأسد، الذي كاد أن يتهاوى في مواجهة جماعات المعارضة في السنوات الأولى للثورة الشعبية ضد نظامه، لولا إلقاء روسيا بكل ثقلها خلف الأول، بما فيه العمل العسكري المباشر.

إلى جانب ذلك، فإن التحسن في علاقات الرياض وأنقرة أدى إلى تراجع الحاجة السعودية إلى تقوية العلاقات مع أكراد سوريا، والتي كانت تستخدمها السعودية كورقة ضغط في معارك المناكفة السياسية مع تركيا.

 

دور روسي

عامل آخر ربما يشجع الرياض على ترميم علاقاتها مع نظام الأسد؛ وهو التحسن المتصاعد في علاقات المملكة مع روسيا، الحليف الأكبر والأهم للأسد، والتي يأتي ضمن سياسة تنويع المحاور والضغط على واشنطن التي انتهجتها المملكة بعد التوترات الأخيرة مع إدارة جو بايدن. إذا لا يشك مراقبون في أن موسكو توسطت لدى الرياض لتحسين علاقاتها مع نظام الأسد.

وفي هذا الصدد، يشير المراقبون على وجه الخصوص إلى الزيارة التي أجراها مبعوث روسيا لشؤون التسوية السورية، ألكسندر لافرنتييف، إلى الرياض، في 20 يناير/كانون الثاني 2022؛ حيث التقى آنذاك ولي العهد “محمد بن سلمان”، وغادر بعدها في نفس اليوم إلى دمشق ليلتقي رئيس النظام السوري، الأمر الذي بدى كأنه محاولة لإعادة المياه إلى مجاريها بين الدولتين.

وفي مارس/آذار 2021، أعرب بن فرحان، خلال مؤتمر صحفي جمعه بنظيره الروسي سيرجي لافروف، عن دعم الرياض لعودة سوريا إلى محيطها العربي، مؤكدا أن الحل في سوريا لن يكون إلا سياسيا، في مؤشر آخر على التحول السعودي تجاه ترميم العلاقات مع نظام الأسد، والدور الروسي الدافع لذلك

وقبل أيام، نقلت وكالة “سبوتنيك” الروسية عن مصدر لم تكشف هويته أن وزير الخارجية السعودي سيزور دمشق خلال الأيام القليلة القادمة، لافتا إلى “ترتيبات تجري حاليا” في هذا الصدد. لكن لم يصدر حتى الساعة أي تعليق رسمي من طرف الخارجية السعودية حول تأكيد الزيارة أو نفيها.

كما أن السياسة الأمريكية تجاه المملكة في عهد بايدن ربما تكون ساهمت في التحول المرتقب في السياسة الخارجية السعودية إزاء نظام الأسد. فقد بادرت المملكة للتلويح بالخروج من العباءة الأمريكية في بعض القضايا الإقليمية، ومنها الموقف من النظام السوري، ردا على توتر علاقتها مع واشنطن بعد حديث بايدن عن عدم إمكانية اللقاء مع بن سلمان، والتهديد بمحاسبته على خلفية قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، وأخيرا التهديد بمراجعة العلاقات مع السعودية بعد رفضها زيادة إنتاج النفط ضمن تجمع “أوبك بلس”.

وللتوضيح، فإن الرياض تهدف من وراء ضغوطها المحسوبة على واشنطن هو إعادة تأكيد الشراكة الاستراتيجية بين البلدين وليس التحرر منها؛ فالسعودية تريد اتفاقية أمنية يتم إقرارها في الكونجرس حتى لا تكون علاقتها بواشنطن متقلبة حسب الادارة الموجودة.

إذ تعمل المملكة، انطلاقا من الهدف الأول لبن سلمان المتمثل بالوصول إلى عرش المملكة بسلاسة وهدوء وفي ظل توتر العلاقة مع الولايات المتحدة، على السعي لتصفير مشاكلها مع دول الجوار، خصوصا قطر والإمارات، وصولا إلى دمشق، ومن ثم إيران.

 

مفاتيح دمشق

وفي هذا الصدد، ربما يكون نسج علاقات من نظام الأسد مفتاحا للرياض لتصفير العديد من المشاكل التي تواجهها؛ فدمشق قد تكون أحد المفاتيح الهامة لتخفيض التوتر في العلاقات بين السعودية وإيران وإعادتها إلى الحالة التي كانت سائدة قبل اقتحام محتجين إيرانيين البعثات الدبلوماسية السعودية في طهران ومدينة مشهد في 2 يناير/كانون الثاني 2016؛ بالنظر للعلاقات الوثيقة بين نظامي الأسد ونظام الرئيس إبراهيم رئيسي.

كما قد تكون دمشق، حال توافقت مع حليفتها إيران و”حزب الله”، الذي يواجه اتهامات بدعم الحوثيين عسكريا، أحد العوامل المهمة لحل وإنهاء الحرب باليمن التي تسبب مشاكل وصداعا كبيرا لبن سلمان، وبالتأكيد لا يرغب الأخير في استمرار هذه المشاكل في إطار سعيه للصعود إلى سدة الحكم في الممكة. ونشير في هذا الصدد، أن أحد أهم مساعي الرياض من مفاوضاتها الراهنة مع طهران هو وقف الحرب في اليمن.

وتاريخيا، مرت علاقات البلدين بمراحل امتازت بالتعاون والتنسيق؛ إذ استطاع الرئيس حافظ الأسد (1971-2000) خلق حالة من التوازن في التعاطي السوري مع المملكة، من دون أن يشكل ذلك مساساً بالعلاقات السورية الإيرانية.

وبلغ التنسيق السوري السعودي ذروته عند إتمام اتفاق الطائف عام 1989، الذي شكل مخرجا وحلا سياسيا للحرب في لبنان، ثم جاء الموقف السوري الداعم للمملكة في حربها ضد العراق بعد اجتياحه الكويت وتهديده باحتلال السعودية.

وبالتأكيد فإن هذا السياق التاريخي ماثل أمام ساسة السعودية، وهم يفكرون في إعادة ترميم العلاقات مع الأسد.

كل هذه الشواهد والمؤشرات، دفعت بعض المراقبين للتساؤل: هل تكون دمشق حاضرة في القمة العربية المقرر أن تسضيفها الرياض في مارس/آذار المقبل؟ مرجحين حدوث تلك الخطوة في ظل الزوال المنتظر للاعتراض الأكبر عليها، والمتمثل في الموقف السعودي.

لكن إذا كانت دمشق تتصور أنها ستعود للجامعة العربية دون تقديم تنازلات، ومن ثم إثبات أن عودتها ستكون بمثابة تصحيح للقرار العربي السابق بعزلها سياسيا، فإن هذا مرفوض من السعودية ومصر. إذ يريد كلاهما ربط العودة للجامعة العربية بحل سياسي ينهي الأزمة، ومراجعة دمشق لعلاقتها مع طهران؛ بحيث لا تكون سوريا وكيلا لإيران بالجامعة العربية. كما أن الرياض بالتأكيد ستكون حريصة على عدم تجاوز العقوبات التي أقرها الكونجرس الأمريكي عند تطبيع علاقتها من نظام الأسد.