خفضت السعودية من سقف انتقاداتها لإيران خلال الآونة الأخيرة، وبرز ذلك بشكل واضح خلال دعوتها المجتمع الدولي للتهدئة وضبط النفس بعد قيام الولايات المتحدة باغتيال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، بالثالث من يناير 2020.

وكانت تسعى قبل ذلك للتوصل إلى حل نهائي مع جماعة الحوثي اليمنية المدعومة من طهران، رغم استهداف محطتي بقيق وخريص التابعتين لشركة أرامكو النفطية في سبتمبر الماضي، وتبني الحوثي لها مع اتهام المملكة والولايات المتحدة لإيران بالتنفيذ ونفي طهران ذلك.

وفي نهاية سبتمبر 2019 أعلن الحوثيون التزامهم بهدنة من طرف واحد، تتوقف المليشيا بموجبها عن استهداف الأراضي السعودية بالطيران المسيّر والصواريخ.

لكن جماعة الحوثي جددت استهدافها لمنشآت حيوية في المملكة السعودية بشكل أكبر عما سبق، فيما يبدو تحدياً واضحاً للرياض، وربما نسفاً لجهود الحل السياسي الذي ينهي 5 أعوام من القتال بين الجانبين.

ودخل التحالف، الذي تقوده السعودية والإمارات، عام 2015، لمواجهة الحوثيين في اليمن دعماً للحكومة الشرعية بعد سيطرة مليشيات الحوثي على العاصمة اليمنية صنعاء، إلا أن الحرب أسفرت عن أسوأ أزمة إنسانية في تاريخ البلاد، ولم يتمكن التحالف من الحسم العسكري، مع قيام مشاريع انفصالية خاصة لكل طرف.

 

استهداف أرامكو مجدداً

وفي تصعيد حوثي جديد أعلنت المليشيا المرتبطة بإيران، يوم الأربعاء (29 يناير 2020)، استهدافها لشركة أرامكو في مدينة جازان وأهداف حساسة في عمق المملكة، مؤكدة سيطرتها على مناطق في مأرب والجوف ونهم، رداً على وصفته بـ “العدوان”، في الوقت الذي قالت السعودية إنها أحبطت الهجمات الحوثية.

وقال المتحدث باسم مليشيا الحوثي، العميد يحيى سريع، في بيان: “رداً على التصعيد الجوي للعدوان نفذت القوة الصاروخية وسلاح الجو المسير عمليات نوعية استهدفت شركة أرامكو في جازان ومطارات أبها وجازان، وقاعدة خميس مشيط، وأهدافاً حساسة في العمق السعودي، بعدد كبير من الصواريخ والطائرات المسيرة”.

وأضاف أنه تم خلال الفترة الماضية التصدي لهجوم عسكري كبير باتجاه صنعاء والسيطرة على جميع مناطق مديرية نهم شرقي العاصمة.

كما أشار قائلاً: “سيطرنا على مناطق بمحافظتي مأرب والجوف”، لافتاً إلى “تحرير” مساحة تقدر بأكثر من 2500 كم مربع طولاً وعرضاً في مأرب والجوف، وأضاف أنه تم السماح “لقوات العدو” بالفرار تنفيذاً لتوجيهات القيادة.

في المقابل نقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية عن مسؤولين سعوديين (لم تسمهم) قولهم إن دفاعاتهم الجوية أسقطت صاروخين كانا يستهدفان شركة أرامكو.

بدورها ذكرت وكالة “رويترز” أن “أرامكو امتنعت عن التعليق على مزاعم الحوثيين بمهاجمة منشآتها”.

وقبل قرابة شهر من الاستهداف الجديد، كشفت مليشيا الحوثي عن قصف معسكر جنوبي السعودية بصاروخ باليستي، في أول انتهاك لهدنة الجانب الواحد التي أعلنتها المليشيا في سبتمبر الماضي، وأدى الاستهداف إلى سقوط “عشرات من الجيش السعودي بين قتيل ومصاب، بينهم ضباط”، موضحاً أن ذلك يأتي “في إطار الرد المشروع على هجمات النظام السعودي”، وفق إعلان الحوثي.

جديرٌ ذكره أن الهجمات الضخمة التي استهدفت منشآت أرامكو، في سبتمبر الماضي، تسببت في ارتفاع أسعار النفط وفي حرائق وأضرار، وأوقفت أكثر من 5% من إمدادات النفط العالمية إلى أن استأنفت السعودية مجدداً إنتاجها النفطي بالكامل في الثالث من أكتوبر 2019.

ويشكل استهداف أرامكو فيما لو كان صحيحاً (لا يمكننا التأكد من ذلك) ضربة جديدة للاقتصاد السعودي، ولشركة أرامكو التي طرحت للاكتتاب العام في نوفمبر الماضي، رغم أنها لم تحقق الأرقام التي تحدث عنها ولي العهد محمد بن سلمان في رؤية 2030.

يضاف إلى ذلك خفض وكالة “فيتش”، في أكتوبر 2019، التصنيف الائتماني لشركة “أرامكو” السعودية من (A+) إلى (A) حيث أخذت الوكالة الدولية في الحسبان في خفضها تصنيف “أرامكو” التوترات الجيوسياسية المتزايدة في المنطقة، وكذلك استمرار عجز الموازنة في البلاد من بين عوامل أخرى.

 

رسائل طمأنة

صالح الجبري، رئيس مركز “يني يمن” الإعلامي، يؤكد أن المحادثات بين السعودية ومليشيات الحوثي لم تكن علنية، واتسمت بالسرية ولم تظهر، والحديث عن استمرارها سابق لأوانه.

ويستبعد الجبري، في حديثه استمرار ونجاح المحادثات بين السعودية والحوثيين، لكونهم يزجون بأنفسهم واليمنيين في الحريق، والتسبب في استهداف التحالف السعودي الإماراتي لما تبقى من البنية التحتية لليمن.

“ولا يلتزم الحوثيون بأي اتفاق مع السعودية التي تدرك ذلك، وهم يكذبون كما يتنفسون، وفي حالة التزموا لتوقفت الحرب منذ مدة بعيدة”، كما يقول الجبري.

ويرجع رئيس مركز “يني يمن” الإعلامي عدم نجاح المحادثات بين السعودية والحوثيين إلى “استبعاد الشرعية اليمنية عنها؛ لكون تطبيق أي اتفاق يحتاج إلى موافقة منها، وهي لن تجلس مع المليشيات الحوثية”.

وحول حديث الحوثيين عن استهداف “أرامكو” في الفترة الأخيرة، يقول: “هذا مبالغ فيه؛ لكون تقارير دولية ذكرت أن الاستهداف السابق الذي ادعى الحوثي أنه المسؤول عنه، تبين بأن القصف من جهة العراق وليس من داخل اليمن”.

ويهدف الحوثي- وفق الجبري- من ترويجه لاستهداف “أرامكو” إلى إيصال رسائل طمأنة إلى مقاتليه في الجبهات الذين يتعرضون لهزائم من قبل الجيش اليمني بالعاصمة صنعاء، ومناطق القتل في نهم والجوف.

 

تحذيرات أمريكية

ويظهر أن الولايات المتحدة كانت مصيبة في إصدارها تنبيهاً أمنياً لرعاياها في المملكة، بعد مقتل سليماني، وتوقع واشنطن احتمالية الرد الإيراني عبر الحوثيين في السعودية.

ونشرت السفارة الأمريكية في الرياض، وفق شبكة “سي إن إن”، يوم الثلاثاء (7 يناير 2020)، تحذيراً من احتمالية مهاجمة طائرات دون طيار أو التعرض لهجوم صاروخي.

وأوضحت السفارة أن لديها نظام صافرات للإنذار من الدفاع المدني السعودي، مستدركة: “قد لا يكون هناك تحذير مسبق من هجوم صاروخي أو طائرة من دون طيار”.

هذا التحذير ليس الأول من نوعه أمريكياً، فقد حثت واشنطن رعاياها أكثر من مرة على “توخي المزيد من الحذر” لدى السفر إلى السعودية، كان آخر ذلك في سبتمبر 2019، بعد استهداف منشآت أرامكو النفطية.

وأعربت وزارة الخارجية عن اعتقادها بإمكانية “شن الإرهابيين هجمات تستهدف أماكن سياحية، ومراكز مواصلات وتجارية، ومنشآت حكومية”.

ونصحت الوزارة المواطنين الأمريكيين بعدم السفر إلى مسافة 80 كم من الحدود مع اليمن جنوبي السعودية، بسبب “الإرهاب والاشتباكات المسلحة”.

 

هل ينسف القصف المحادثات؟

والذي يطرح التساؤل بعد عملية الاستهداف الأخيرة، والتي أفردت لها مليشيا الحوثي حملة إعلامية واسعة للحديث عنها وعن إنجازاتها وسط صمت سعودي: ما إمكانية استمرار المحادثات الجارية بين الطرفين أو تحريك إيران للمليشيا اليمنية؟

ففي يوم الثلاثاء (28 يناير 2020) خرجت تصريحات لوزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان آل سعود، قال فيها: إن سلوك إيران لم يتغير بعد مقتل سليماني، لافتاً إلى أن بلاده ستواصل مطالبة طهران بالتصرف بطريقة تحافظ على استقرار المنطقة.

وأضاف بن فرحان: “لم نرَ علامات ملموسة لتغير السلوك الإيراني. الخطابات ليست إيجابية، لكننا سنواصل مطالبتنا لهم بالتصرف بطريقة تدعم الاستقرار الإقليمي”، بحسب شبكة “سي إن إن” الأمريكية.

ولأول مرة عبرت السعودية عن اتفاقها مع مقتل سليماني حيث اعتبر بن فرحان أن التصرف الأمريكي شرعي للدفاع عن نفسها، مشيراً إلى أن بلاده دعت إلى التهدئة بعد ذلك وهدأت الأوضاع بالفعل.

لِتَتْبع تصريحات الوزير بعد أقل من 24 ساعة سلسلة من الاستهدافات الحوثية لأهداف حساسة في المملكة بينها محطة لأرامكو في مدينة جازان.

وقد تكون تلك الاستهدافات غير مرتبطة بتصريحات الوزير، لكن سير المحادثات مع الحوثي لم يخرج عنها أي جديد في نهاية عام 2019، وجاء مقتل سليماني ليزيد من حالة التوتر في المنطقة، خصوصاً أن الحوثيين قالوا إن دماء سليماني “لن تذهب هدراً”.

ويرى المحلل السياسي اليمني، نبيل البكيري، أن “القصف هو عبارة عن ضغط حوثي على سير المحادثات للحصول على مزيد من التنازلات السعودية في كثير من القضايا المطروحة للنقاش”.

وقال البكيري: “لا أعتقد أن القصف دليل انتهاء أو فشل المحادثات بقدر ما هو وسيلة ضغط حوثية للحصول على مزيد من التنازلات السعودية والتي تجلى آخرها بفتح مطار صنعاء أمام الطيران بحجة الرحلات الإنسانية والطبية، وهي في حقيقة الأمور تنازل سعودي واضح لمصلحة جماعة الحوثي”.

 

رد قاسٍ على أي تصعيد

من جهته يرى المحلل اليمني عبد الله المغارم، أن هذه الاستهدافات تأتي رداً على التصعيد الجوي للتحالف في إطار دعم قوات الحكومة الشرعية في معارك شرق صنعاء والجوف والبيضاء والتي مكنت القوات الحكومية من استعادة مناطق عسكرية عديدة كانت مليشيات الحوثي قد سيطرت عليها سابقاً وتسببت بخسائر كبيرة في صفوف المليشيات، وهي تحمل رسالة واضحة مفادها أن المليشيات مستعدة لمعاودة قصفها أهدافاً سعودية حساسة حال استمر التصعيد الجوي.

وأضاف فيما إذا كان قصف الحوثيين للسعودية مجدداً يعني انتهاء المحادثات بينهم: “أعتقد أنه لن يكون سبباً في انتهاء المحادثات بين الطرفين، فقد استطاع الطرفان الحفاظ على الهدنة وإيقاف الهجمات المتبادلة لمدة تربو على 4 أشهر، وهذا القصف جاء كرسالة تحذيرية فقط من مليشيات الحوثي تدعو من خلالها السعودية إلى إيقاف إسناد القوات الحكومية وتحييد نفسها عن مشهد الصراع في اليمن.

وبين أن السعودية ذاتها ليست مستعدة حالياً للتنازل عن الوضع الذي ساقته المحادثات، وخلق مشهداً من الهدوء النسبي الناجم عن وقف الهجمات، وتدرك أن انتهاء المحادثات يعني احتمالية تكبد مزيد من الخسائر الاقتصادية والعسكرية إذا ما عاودت المليشيات استهداف أرامكو ومواقع عسكرية ومدنية.

وحول علاقة الاستهداف بمقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني، قال إن من مصلحة إيران أن تمكّن لمليشياتها من الوضع في اليمن، “ولذلك تهدف مليشياتها إلى تحييد السعودية والتخفيف من حدة ضرباتها الجوية، والقصف الحوثي الأخير جاء رداً على دعم السعودية للقوات الحكومية والسماح بفتح جبهات جديدة في صنعاء والجوف والبيضاء، وستتوقف مليشيات الحوثي عن استهداف السعودية في حال خفضت الأخيرة من تصعيدها.

واستدرك قائلاً: “لكن المليشيات لن تتوقف عن استهداف قوات الجيش اليمني في مأرب وغيرها من المحافظات مستفيدة من حادثة مقتل سليماني، ورغبة في توسيع مدى سيطرتها ميدانياً”.

وحول علاقة الاستهدافات الجديدة للحوثي بمقتل قاسم سليماني أوضح البكيري أن “الحوثيين يحرصون على الإمساك بالعصا من المنتصف؛ فيقدمون أنفسهم يداً لإيران، كما يحاولون أحياناً الظهور بمظهر الاستقلالية عنها، وهذا ما فشلوا به حتى الآن”.