بقلم/ عبد الله عمر
تشهد مواقع التواصل الاجتماعي في السعودية حالة من الجدل الواسع بعد تغريدة كتبها رئيس هيئة الترفيه الحكومية تركي آل الشيخ ينتقد فيها ظهور أحد متسابقي البرامج الفنية بالزي الحجازي المعروف بالـ “الغبانة” ويعلن فيها عن عدم قبوله بمشاركة أي فرقة أو نشاط ترفيهي بهذا الزي كونه “لبس دخيل علينا ولا يمثل هوية الحجاز وفيه تشويه لتاريخنا،” كما يزعم. رافق تصريحه حملات واسعة تتبنى موقفه، وتشيد به وتعتبره حماية لـ “الهوية الوطنية” يقودها مقربين من السلطة وينشط فيها الذباب الإلكتروني بالإضافة للفاشيين السعوديين الذين يسمون أنفسهم “بالتيار الوطني.” وفي المقابل كان هناك غضب واستنكار واسع من المجتمعات الحجازية لهذا الهجوم العنصري على هويتهم الثقافية الواسعة ومحاولات تهميش وطمس تراثهم الغنيّ بالتعدد والتنوع.
تتميز هوية الحجاز التعددية منذ سنين طويلة بتنوعها الفكري، والمذهبي، والثقافي والتعددية الاجتماعية والتراث الأصيل، والتسامح والتعايش الذي يسود العلاقات في المجتمع الحجازي بجميع مكوناته بما فيها قبائل الحجاز، التي يزعمون اليوم أنها تعاني تهميش هويتها كمبرر لحملاتهم العنصرية الفاشية. الحقيقة أن القبائل الحجازية لا تعرف هذا الخطاب العنصري ولا تتسامح معه وهو خطاب طارئ لا قاعدة ولا قبول له في الحجاز.
اللافت أيضا أن معظم من يهاجمون اليوم هوية الحجاز ويزعمون الدفاع عن هوية قبائله هم أصلا من خارج مناطقه ولا علاقة لهم بهذه القضية، وربما حتى لا يعرفون أي شيء عن المجتمع الحجازي وتركيبته وتنوعه وتاريخه، ويحاولون إسقاط ثقافتهم وتاريخهم وتراث مناطقهم على التراث الحجازي، على قاعدة “إما نحن أو هم،” وكأن الثقافة لون واحد لفئة واحدة و ينبغي أن تعمم على الجميع وإلا فكل ماهو غيرها فهو دخيل وينبغي نبذه، هذه هي النظرة الفاشية لقضايا الثقافة والقومية والهوية.
كذلك في هذه الحملة رأينا تبريرات سخيفة تنم عن جهل كبير تقول بأن الهدف ليس منع الناس من لبس الغبانة إنما ألا يقول أحد أنها جزء من الثقافة والتراث السعودي. وهذا جهل بمفاهيم الثقافة والتراث والهوية. فالغبانة، و لنفترض جدلاً صحة حديثهم عن أصولها، هي جزء أصيل من زي وتراث المجتمع الحجازي وتوارث الناس لباسها واستقرت في تاريخهم وثقافتهم فكيف يقال لهم الآن أن لبسهم وهويتهم الثقافية الممتدة منذ مئات السنين، قبل حتى قيام الدولة الحالية، لا ينتمي للهوية الوطنية وأنه لبس دخيل على الثقافة والتراث الوطني؟
هذه الحملات العنصرية للأسف ليست جديدة ولها جذور منذ سنين، لكنها تنامت مع وصول محمد بن سلمان للسلطة حيث تصاعدت موجة الفاشية الوطنية الانعزالية وسيطرت على المشهد العام في السعودية. لكن الجديد اليوم هو التبني الحكومي الرسمي لها من خلال شخصية بمكانة ودور تركي آل الشيخ وهو أحد المقربين القلة من ولي العهد السعودي الحالي، وهو ما يعني بوضوح أن مسؤولي السلطة أصبحوا جزء من هذه الحملات بل وتجاوزوا مجرد الإنحياز العنصري ضد الثقافة والتراث الحجازي إلى محاولة قمعه ومنع حضوره في أي نشاط عام.
وفي الحقيقة، فإن استخدام ذريعة سخيفة مثل الحفاظ على التراث والهوية الوطنية كمبرر لقمع ومحاربة كل ثقافة وتراث وتاريخ خارج منطقة نجد يقوم على افتراض سخيف بأن هناك هوية واحدة وثقافة واحدة، وتقاليد وعادات واحدة لجميع السعوديين وكل ما يخرج عنها يعتبر تشويه للتاريخ وعبث بالتراث وجب محاربته وقمعه. وهذا افتراض فاشي متطرف يقوم على عبادة الدولة واختزالها بشخصية القائد الأوحد ومنطقته والسعي لقمع كل فكر وكل ثقافة وكل معتقد وكل شيء لا تتبناه أو تمثله الأقلية الحاكمة.
فالوطن أكبر وأوسع من أي منطقة، أو شخص، أو فكر إقصائي ضيّق، فالوطن يحتوي ثقافات و تراث متنوع تمثل نقاط قوة تجعل الهوية الوطنية شاملة وغنية بالتعدد والتنوع الذي يمثل جميع مكونات البلاد.
لكن الأمر الذي لا يمكن أن يستوعبه الفاشيون الوطنيون في السعودية هو أن الهوية الوطنية ينبغي أن تكون جامعة تستوعب جميع الثقافات المحلية وهي ثقافات متداخلة فلا أصيل ولا دخيل فيها، كما أنها متعددة بالتراث الغني بالتنوع، وبذلك فإن جميع مكونات المجتمع هم من يشكلون بمجموع ثقافاتهم وتراثهم وتاريخهم ما يسمى بالثقافة الوطنية.
فنموذج الهوية والثقافة الوطنية عند الفاشيين السعوديين يتمثل حصراً في فرض الهوية النجدية ليس بتراثها وتاريخها وثقافتها فحسب، بل وحتى مذهبها الفكري والديني على جميع المناطق والأقاليم الأخرى و إدعاء أنها وحدها تمثل الهوية الوطنية. لذلك يريدون قمع و إلغاء كل تاريخ وتراث آخر لأن وجود هذا التنوع وهذه التعددية لا يتناسب مع مشروع “النجدنة” وهو فرض الهوية الفرعية النجدية بوصفها هوية وطنية جامعة لكل المناطق والأقاليم بالتزامن مع حملات إقصاء تراث وثقافات تلك المناطق كما نرى اليوم في الحملة الشرسة على التراث الحجازي وتنوعاته الجميلة.
تعتبر التعددية الثقافية والفكرية والتراث المتنوع مصدر قوة وثروة حضارية لا غنى للدول عنه إلا في مجتمعات القمع فإنها تعتبر عائق أمام ما يسمونه وحدة وطنية. وفق طرح الفاشية الوطنية لتحقيق الوحدة ينبغي أن يكون للجميع نفس الرأي و نفس الفكر ونفس المعتقد ونفس اللبس ونفس الهوية الثقافية وربما حتى اللهجة ولا مجال للتنوع أو التعدد ليس فقط على المستوى السياسي أو الفكري وإنما حتى في الثقافة والتراث ولذلك نجدهم يهاجمون أي نوع من التعدد والتنوع والاختلاف حتى في اللبس والأزياء. وهذا جنون لا ينبغي السكوت عنه.
والحجاز بتنوعه وتعدديته أكبر من أن يحاول هؤلاء طمس هويته وتاريخه وقمع ثقافة شعبه والتاريخ يحكي ويشهد، ثم أنه من الحماقة إعادة إحياء هذا الخطاب وتبني الدولة له في وقت تروج السلطة لمحاربة التطرف والعنصرية والكراهية وتتهم المعتقلين بتهديد السلم الاجتماعي واللحمة الوطنية ثم نرى الآن من الذي يهدد السلم ويعبث باللحمة الوطنية.
بلا شك تتحمل السلطة مسؤولية تبني ودعم مثل هذا الخطاب العنصري الخطير والذي ستكون له تبعات وآثار خطيرة للغاية في المستقبل القريب والبعيد خصوصا بعد تبنيها من السلطة، آثار وتبعات لن تنتهي عند الانقسام المجتمعي وتفشي الخطاب العنصري وما ينتج عنه من كوارث فيما يتعلق بالمجتمع ووجود طرح انقسامي مضاد من أطراف أخرى من الذين تتعرض ثقافتهم وتاريخهم وهوياتهم لمحاولات القمع والإلغاء والإقصاء تحت حجج سخيفة مثل تنقية الهوية والتراث الوطني. فهل من عقلاء يتداركون الموقف؟
وللأسف، فلا أعتقد ولا أتوقع أن تقف هذه الخطوات عند هيئة الترفيه وحدها أو في قضية العمّة والزي وربما تكون مجرد بداية لمواقف مماثلة من جهات أخرى في نفس السياق، فحالة الاستقطاب الموجودة هي نتيجة طبيعية للضخ الإعلامي الهائل المستمر منذ عدة سنوات عبر حملات مثل “هوية الحجاز” و”السعودية للسعوديين” ساهمت بقوة في صعود الخطاب العنصري وانتشاره على مدار السنوات الماضية حتى أصبح لها حضور مهّد لتبنيه من السلطة. وهذه إشكالية كبرى تحتاج لمعالجة سريعة وعقلانية تتدارك تبعاته المحتملة الناتجة عن دعم الخطاب العنصري والتشجيع على ممارساته، ولتكن البداية بإقالة المسؤولين عن هذه الخطوات والتسريع بسن قانون حقيقي واضح وشامل بتجريم العنصرية وجرائم الكراهية، ووقف كل الدعم المباشر وغير المباشر لمثل هذه الحماقات وإلا فإن السلطة شريك فيما يحدث وعليها تحمل نتائج هذه الشراكة، فإن كانت تعتقد أن هذا الخطاب قادر على فرض مشروع النجدنة وإقصاء كل ثقافة أخرى فهي مخطئة تماما، بل سيزيد من انحياز الناس لثقافاتهم المحلية وسيزيد من الانقسام والاستقطاب.
ربما كان أدق الوصف للتغيير الذي حدث في السعودية السنوات الماضية هو الانتقال من الفاشية الدينية إلى الفاشية الوطنية السلطوية، من فاشية التكفير والتفسيق إلى فاشية التخوين والاتهام بالعمالة والتحريض. أو كأن قدرنا ألا نعتدل ونتوسط إما سلفية متشددة تُكفّر، أو وطنية متطرفة تُخوّن كما يقول جمال خاشقجي رحمه الله، واليوم يعاني الناس من سيطرة الفاشية الوطنية وتدخلها في جميع تفاصيل حياة الناس رغم دعايات الانفتاح والإصلاح.
ولتكن الأمور أكثر وضوحا وأدق وصفا.. هذا الخطاب وما قبله وما سيتبعه من خطوات هو تعبير واضح عن الفاشية الوطنية التي تسيطر على المشهد العام في السعودية اليوم، ليست مبالغة فخطابهم وطرحهم هو ذاته طرح وخطاب الفاشية اليمينية في دول أخرى والفارق فقط السياق المحلي، أما أولئك الذين يسمون أنفسهم بالوطنيين، هم في الحقيقة فاشيون جدد، وينبغي التعامل معهم على هذا الأساس. وأي صمت أو تجاهل لهذه الحقيقة سيساهم في تمدد هذا التيار الفاشي الاقصائي إلى ملفات وقضايا أخرى تجعل الأمور أكثر سوءا مما هي عليه الآن.