في يناير/كانون الثاني الماضي، قال أستاذ علم اجتماع سعودي إنه يتمنى أن يشجع صناع القرار في المملكة (الملك وولي عهده) على الزواج بين الأشخاص الذين ينتمون لقبائل وطوائف مختلفة للمساعدة في الاندماج بين مكونات المجتمع. واعتبر أن دور القبيلة كركيزة للدولة انتهى، وأن الشعب السعودي لم يعد يهتم بأصول المواطنين لأن التركيز تحول من الهوية القبلية إلى بناء الأمة.

ولكن كان رد الفعل على هذا الكلام عنيفًا، فقد جادل النقاد بأن القبيلة هي خط أحمر في المجتمع السعودي ولا ينبغي استبعادها من الحياة العامة، واتهموا هذا الأكاديمي بمحاولة إثارة الفتنة وطالبوه بالانضباط، ودفع الغضب مستشارًا حكوميًا في الشؤون الأمنية إلى حثه على التوقف عن استفزاز المجتمع السعودي بشأن مكونه الأكثر أهمية.

وبالرغم أن السعوديين عززوا هوية وطنية تتجاوز القبيلة (كجزء من مشروع التحول الوطني لعام 2030) فلا يوجد سبب للاعتقاد بأن العائلة المالكة السعودية تريد القضاء على القبلية، بل يعتقدون أن إلغاءها يمكن أن يؤدي إلى دعوات للإصلاح السياسي ربما تصل إلى إنهاء حكم “آل سعود”.

وبالنسبة لـ”آل سعود”، فإن القبائل قوة مفيدة، فهي تقسم المجتمع إلى فصائل تتنافس على حصة أكبر من العطاءات الحكومة، و طالما بقيت القبائل تركز على بعضها البعض، سيظل “آل سعود” واثقين من أنهم لن ينقلبوا عليهم.

 

دور القبيلة في تأسيس الدولة

كانت بدايات الدولة السعودية في نقاط في الصحراء قبل أن تجتاح المناطق الحضرية في مناطق الحجاز والإحساء وعسير، وهي الدولة الوحيدة التي كان للقبائل دور عسكري مركزي في إنشائها.

وأسس “آل سعود” المملكة العربية السعودية في عام 1932 على 3 ركائز: الوهابية، والأسرة السعودية، والقبائل النجدية في وسط شبه الجزيرة العربية. وساهمت الوهابية في إضفاء الغطاء الديني لتعبئة القبائل والتعبير عن الإطار الأيديولوجي للمملكة، وقدم “آل سعود” القيادة السياسية التي قادت القوات القبلية والجيش وقضت على كيانات سياسية أخرى أكثر نضجًا في الجزيرة العربية، وتحديداً المملكة الهاشمية في الحجاز.

وأنشأ “بن سعود” دولته في أجزاء من شبه الجزيرة العربية لم تتعدَّ على محميات بريطانيا في الخليج أو وجودها في العراق والأردن. وعندما داهم الإخوان الوهابيون الأراضي التي تسيطر عليها بريطانيا واستحوذوا على مدينة كربلاء الشيعية في العراق، قرر “بن سعود” تدميرهم في معركة السبلة عام 1929، والتي كانت تنطوي على آخر انتفاضة قبلية.

وقد استخدم “بن سعود” الدين لتقسيم صفوف القبائل وقام بترويضهم عبر سياسات تضمن استمرار رؤيتهم لبعضهم البعض كمنافسين. وبالفعل، تقاتلت بعض الجماعات القبلية فيما بينها، ما أدى إلى إضعافها فيما قام “بن سعود” بترسيخ أسس حكمه.

وعين “آل سعود” أشخاصًا مختارين كشيوخ للقبائل، ما أدى إلى اختفاء الأسر القبلية التاريخية، كما انخرطوا في زيجات لربط أسرهم مع قبائل بارزة في نجد، وبالإضافة إلى ذلك خصصت الحكومة رواتب شهرية لترضية الزعماء القبليين بعد مصادرة أراضيهم، ما جعلهم معتمدين على سخاء الدولة.

وهكذا، لم تعد السعودية دولة من التحالفات القبلية، حيث إن القبيلة الوحيدة التي تمارس السياسة في السعودية اليوم هي “آل سعود” الذين قضوا القرن الماضي في التحول من أسرة إلى قبيلة.

 

فشل حركة الإصلاح

يزور السعوديون دبي لأسباب عديدة أهمها معرفة كيف ينبغي أن تكون بلادهم. وعندما يقارن السعوديون من ذوي العقول المتفتحة قادتهم بقادة المجتمعات الحديثة، فإنهم يستنتجون أنهم يعيشون في عالم من القرون الوسطى يهيمن عليه حكام أميون أو شبه متعلمين.

ولا يقبل بعض السعوديين المتعلمين تعليمًا عاليًا الواقع السياسي للمملكة التي تسيطر عليها قيادة تورّث الحكم وتقوم على حكم القبيلة، كما يستاؤون من هيمنة العائلة المالكة لأنها تتطلب ولاء الناس وطاعتهم غير المشروطة.

وأثار احتلال الجيش العراقي للكويت في عام 1990 والوصول اللاحق للقوات الأمريكية إلى المملكة حركة الإصلاح في السعودية، وردت الحكومة بعنف حيث اعتقلت الإصلاحيين وسجنتهم لسنوات عديدة وقمعت في نهاية المطاف جميع المطالبين بالإصلاح.

وفي أوائل التسعينات، اقترحت مجموعة من الدعاة والعلماء والمفكرين سلسلة من التغييرات في وثيقتين تعرفان باسم “خطاب المطالب” و”مذكرة النصيحة”، لكنهم فشلوا في إقناع الملك “فهد” بإدخال إصلاحات. وحفز ذلك انتقامًا حكوميًا بلغ ذروته في أوائل القرن 21 مع حملة على الحركة الإسلامية الإصلاحية.

وكانت الحكومة تشعر بالقلق من بروز زعيم المعارضة “سعد الفقيه”، الذي قاد حركة الإصلاح الإسلامي في شبه الجزيرة العربية، وغيره من المفكرين البارزين (خاصة “سلمان العودة”)، خشية أن يتمكنوا من توحيد القبائل السعودية ضد النظام.

وأدى فشل حركة الإصلاح إلى إعادة انبعاث الحركة القبلية، ومنذ عام 2005، تطالب القبائل بلعب دور في المجتمع والسياسة السعودية، وسمحت ثورة الاتصالات لأعضاء القبائل بالتعبير عن آرائهم واهتماماتهم عبر “تويتر” و”فيسبوك” وأنشؤوا منتديات عبر الإنترنت لتبادل أفكارهم الاجتماعية والسياسية. ولدى القبائل السعودية فروع في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية وسوريا والعراق والأردن وشمال أفريقيا، وأصبح عدد منهم منخرطين بشكل غير مباشر في الحروب الأهلية في العراق وسوريا والحصار الذي قادته السعودية على قطر في عام 2017.

ولم تصل الانتفاضات العربية في العقد الماضي إلى السعودية، لكنها حفزت تكثيف الهوية القبلية مع منع السلطات لظهور منظمات مجتمع مدني عابرة للقبائل ورفضها لفكرة الإصلاح السياسي. ومنذ عام 2015، بذل ولي العهد “محمد بن سلمان” جهودًا كبيرة لتركيز جميع القوى بين يديه.

ركن معظم البدو الرحالة إلى الاستقرار بعد أن انتقلوا إلى المدن والبلدات السعودية لكنهم أظهروا ميولًا قبلية قوية في السنوات الأخيرة، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى التهميش الاقتصادي والاجتماعي مقارنة بالمجموعات الحضرية الأخرى.

ولا توجد بيانات دقيقة عن عدد السعوديين المهمشين، وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن عدد السكان في البلاد أكثر من 34 مليون شخص بقليل، منهم 22 مليون مواطن، بالرغم أن ولي العهد أخبر مجلة “ذا أتلانتك” في أبريل/نيسان الماضي أن عدد المواطنين يبلغ 14 مليونا فقط، ويعني ذلك أن هناك عددًا كبيرًا من الأشخاص المهمشين الذين يعيشون في المملكة.

ويشعر العديد من السعوديين من القبائل المعروفة، مثل “المالكي” و”الدواسر” و”الشمري”، والذين هاجروا من الريف إلى المناطق الحضرية، بالتهميش لأن الحكومة لا تعاملهم كمواطنين. كما أنهم يتهمون “آل سعود” بسرقة ثروات البلاد والسيطرة على 60% من أراضيها و30% من إيرادات النفط المربحة.

لكن القبائل السعودية لا تدعم علنا ​​الإصلاح السياسي أو الاقتصادي، بل يقاومون الإصلاح بشكل خاص عندما يتحدى سلطتهم على الأراضي والأتباع، خوفًا من أن يفقدوا دورهم ومكانتهم بالنسبة إلى القبائل الأخرى.

ولم تحاول الحكومة الحد من إعادة انبعاث الحركة القبلية بالرغم من المخاوف بشأن المنظمات القبلية المستقلة وتأثيرها الاجتماعي المتزايد. ويشكل رجال القبائل نسبة كبيرة من القوات السعودية، وحاولت بعض القبائل تأمين تمويلات خيرية لدعم أعضائها لكن هيئة كبار العلماء حذرتهم من أن ذلك قد يكون عملا منافسا للدولة.

وبدأت القبائل في تعريف نفسها باستخدام رقم مكون من 3 أرقام، يعرضه أتباعها في نوافذ المتاجر، وعلى واجهات المنازل وفي نوافذ السيارات. حتى إن بعض الشباب اخترعوا كلمات لتحديد انتماءاتهم، ما زاد من الصراع القبلي وساهم في ميل المجتمع السعودي نحو القبلية والترييف.

وفشل التعليم العالي والهجرة إلى المدن في إضعاف الروابط القبلية، كما لم تفعل الحكومة سوى القليل لتثبيط الهوية القبلية، بل أصدرت حتى بطاقات هوية مع طبع أسماء القبائل عليها.

 

القبيلة كقوة مدمرة

لا يوجد سبب للاعتقاد بأن القبائل ستثور ضد النظام، وبالرغم أن القبائل السعودية لها هويات اجتماعية واقتصادية وثقافية منفصلة لكنها غير سياسية، ومع ذلك لا تزال قادرة على التأثير في على المجتمع.

تُظهر القبلية السعودية ميولًا عنصرية، ولا تقدر العمل، وتعامل الممتلكات العامة باستخفاف، كما تتسم بثقافة الشك وعدم الثقة، والتعصب تجاه الآراء المختلفة والتعددية الدينية، والهيمنة الذكورية في العلاقات الأسرية.

بالنسبة لمعظم السعوديين، فإن أهم انتماء لديهم هو روابط الدم العائلية، تليها المناطق التي تنحدر منها قبائلهم، وليس أمكنة إقامتهم، كما يرفضون التفاعل مع السعوديين الآخرين بدون الاعتبارات القبلية.

وينظر النجديون إلى سكان الحجاز كأحفاد الحجاج الذين جاؤوا إلى الأماكن المقدسة في مكة والمدينة لأداء الشعائر الدينية واختاروا البقاء هناك، كما أنهم لا يثقون في شعب المنطقة الشرقية، ويعتبرونهم شيعة رفضوا العقيدة الإسلامية الصحيحة.

وتشكل القبائل تحديًا لمشروع “رؤية 2030” السعودية والتي تهدف إلى تعزيز العمل الجاد وتشجيع المواطنين على خدمة البلاد وتوفير فرص عمل للجميع. لكن القبائل لا تقدر العمل الجاد، حيث ترى أن مستوى المعيشة العالي حقا مكتسبا لا يتطلب العمل من أجل تحصيله.

وبالرغم أن القبائل نقطة ضعف في التحول الوطني للمملكة، لكن العائلة المالكة السعودية لن تواجههم لتجنب زعزعة استقرار البلاد.