نشرت الصحفية الأمريكية “كارلين إليوت هاوس” تقريراً جديداً في جريدة “وول ستريت جورنال” نقلت فيه انطباعها حول زيارتها للسعودية، وتحدثت عن التغير المجتمعي المتسارع في المملكة خلال السنوات القليلة الماضية، والتناقضات الغريبة، والانفتاح الكبير الذي تسبب باهتزاز كيان المجتمع السعودي، في ظل سياسات ولي العهد محمد ابن سلمان.

وتقول هاوس: “أصبحت الحياة هذه الأيام بالنسبة للسعوديين تشبه “الأفعوانية” ملتوية، ومتناقضة بشكل كبير، وحتى في الوقت الذي أصبحت فيه الصواريخ الإيرانية تهدد أمن المملكة القومي ومعيشتها؛ يظهر نوع كبير من الانفتاح الذي لم يكن من الممكن تصوره من قبل، ويجعل كل هذا بعض السعوديين يصيحون من السرور، بينما يتجمد الآخرون من الخوف“.

وأضافت أن هذه التغييرات تعكس رغبة الحكومة في تغيير المجتمع من أجل جذب السياح والمستثمرين الأجانب الذين تحتاج المملكة لأموالهم لتنويع اقتصادها المعتمد على النفط.

ويبدو أن النظام لم يعد قلقًا بشأن تآكل الثقافة المميزة للمملكة، حيث يرى أنه في عالم تنتشر فيه وسائل التواصل الاجتماعي في كل مكان، فإن جميع الثقافات مصيرها الاندماج ولم يعد من الممكن أن تنغلق السعودية على نفسها أمام التوجهات العالمية التي لا تقهر.

وأشارت إلى أنه في ظل حظر النقاش العام في البلاد، يبقى الرأي العام ضبابياً، ولا شك أن العديد من السعوديين خائفون من الاعتقالات التي طالت حتى المعارضين المعتدلين، والقتل الوحشي للصحفي “جمال خاشقجي” العام الماضي، وتجريد الأمراء البارزين من ثروتهم وحقهم في السفر عام 2017. لكن هذه المخاوف يتم التعبير عنها فقط في خصوصية عميقة، وتُدار البلاد وفقاً لما يمكن تسميته قاعدة “إذا لم تستطع قول شيء جيد فالزم الصمت“.

وقد قال لي شخص سعودي متوتر: “كلنا نركب في المقعد الخلفي لسيارة مسرعة، لا يمكننا أن نرى إلى أين نحن ذاهبون، لكننا ندعو فقط أن يكون السائق على علم حتى نتجنب الاصطدام”، ويعد هذا أكبر نقد علني يجرؤ عليه السعوديون هذه الأيام، ويلخص سعودي آخر الوضع بقوله: “لقد اعتدنا أن نناقش ولا نقرر، والآن يتولى الملك وولي العهد أيضاً مسؤولية القرار ولكننا لا نستطيع حتى أن نناقش“

ليس هناك شك في أن ولي العهد “محمد بن سلمان”، الحاكم الفعلي للمملكة صاحب الأربعة وثلاثين عاماً، قرر المضي قدماً بأقصى سرعة في التغيير الاقتصادي والاجتماعي، ولا يبدو أن هناك شيء سوف يوقفه، كما يقول المقربون منه

وقالت “هاوس” أن ابن سلمان مقتنع تماماً بما يفعله، لذلك فلا فائدة من النقاش برأيه، ولا توجد إمكانية لعكس المسار، ولا يشعر النظام بالقلق من ردود أفعال المحافظين، حيث تحولت السلطات الدينية التي كانت ذات يوم قوية؛ إلى أبواق للنظام، وأصبح يتجاهلها الجمهور على نطاق واسع.

تضيف “عندما انضممت إلى عائلة سعودية لتناول العشاء، ركبت عربة غولف عبر حديقة إلى المطعم، كانت تقودها امرأة سعودية شابة، بوجه مكشوف، وشعر مقصوص، ودون عباءة. كان مثل هذا اللباس للمرأة السعودية لا يمكن تصوره قبل بضعة أشهر فقط، حيث تقول امرأة سعودية أنها شعرت بالصدمة عند رؤيتها مغنية لبنانية تدخل فندقاً في الرياض، مرتدية فستاناً بدون أكمام، يصل طوله بالكاد حتى منتصف الفخذ: “أشعر أنه لا مكان لي في بلدي”. وفي حين أن التمسك ببعض الاحتشام لا يحمل مخاطر على السعوديات هذه الأيام، لكن المعارضة السياسية تحمل الكثير من المخاطر“.

 

الإصلاح الاقتصادي المتعثر

لا يأتي التهديد الرئيسي للإصلاحات من داخل السعودية؛ بل من الخارج. فقبل وقت قصير، في فجر يوم 14 سبتمبر/أيلول، ضربت الصواريخ والطائرات الإيرانية حقول النفط السعودية، مما تسبب في تعطل نصف إنتاج البلاد، واستعادت أرامكو معظم الإنتاج في غضون أسابيع قليلة، ولكن الهجمة أكدت على هشاشة الاقتصاد والأمن السعودي.

ويعترف الأمير “عبدالعزيز بن سلمان” وزير النفط السعودي الجديد، والأخ غير الشقيق لولي العهد، قائلًا: “لقد بكيت ليلة الهجوم”. ويضيف: “في صباح اليوم التالي بكيت دموع الامتنان عندما أكد المهندسون أنهم قادرون على إصلاح الأمور بسرعة“

اللافت للنظر أنه بالكاد أجد شخصاً هنا يتحدث عن الهجوم على حقول النفط، وإذا تم فالضغط عليه، ويصر جميع السعوديين تقريباً على أن المملكة فعلت الشيء الصحيح بعدم الانتقام، والتعليق النموذجي هو: “لدينا الكثير لنخسره”. والحقيقة هي أن السعودية ليست في موقف يؤهلها للدخول في حرب مع إيران، حتى لو كانت تفضل ذلك، فالجيش السعودي ضعيف للغاية، وحليفه الأمريكي متردد للغاية. والحرب ستشكل نهاية لطموحات ولي العهد.

 

ضربة كاشفة للهشاشة

يصر مسؤولو الحكومة السعودية –لتبرير موقفهم- على أن الهجوم لم يكن يستهدف السعودية، ويقولون أن المملكة ببساطة هي وكيل الولايات المتحدة الذي توجه إيران إليه غضبها، وقال وزير النفط: “هذا لم يكن هجوماً على المملكة العربية السعودية، بل كان هجوماً على كل منزل في العالم”، ويصر على أن الإيرانيين يهاجمون السعودية لأنهم يشعرون بألم العقوبات الاقتصادية الأمريكية، لكنهم لا يستطيعون ضرب الولايات المتحدة مباشرة.

ووصف ولي العهد الأمير “محمد بن سلمان” الضربة الإيرانية بأنها “غبية للغاية” مصراً على أن طهران هي الخاسرة، وليست الرياض. واستدلّ على ذلك بأن إيران صارت أكثر عزلة من أي وقت مضى، حيث ألقت ألمانيا وبريطانيا وفرنسا باللوم عليها في الهجوم، رغم أن أوروبا لم تفرض عقوبات على طهران. كما يقول المسؤولون السعوديون إن الحوثيين، الذين ألقت إيران باللوم عليهم في الهجوم، أصبحوا الآن أكثر استعداداً لإيجاد حل للحرب في اليمن، التي تستنزف الموارد المالية للمملكة، فضلاً عن فقدانها سمعتها. ومن الواضح أن السعوديين يغيرون القصة لتبدو في صالحهم بأفضل شكل ممكن لإخفاء الهشاشة التي كشفها الهجوم الإيراني.

في هذه الأثناء، تمارس الحكومة السعودية أقصى قدر من الضغط على الولايات المتحدة لتقديم دعم عسكري إضافي للنظام. ويقول المسؤولون هنا، إن الفشل في الوقوف بوضوح مع السعودية قد يشجع إيران على الضرب مرة أخرى، وقد يؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط بالنسبة للولايات المتحدة وعلى مستوى العالم. ويلمح السعوديون إلى إمكانية القيام بتسعير النفط بعملة أخرى غير الدولار، مع تداعيات شديدة على الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي.

يقال إن ولي العهد السعودي كان غاضباً من رد الفعل الأمريكي البطيء، لكنه هدأ بفعل قرار إدارة “ترامب” الأخير بإرسال 2000 جندي أمريكي إضافي إلى السعودية مع بطاريتي صواريخ باتريوت، وبعض وحدات نظام الدفاع الصاروخي “ثاد”، ويبدو أن الحشد الأمريكي يهدف إلى ردع أي عدوان إيراني في المستقبل، لكن الاختيار الذي ستتخذه إدارة “ترامب” بين المشاركة من عدمها، متروك للمجهول، بالنظر إلى عدم وجود معاهدة رسمية للأمن المتبادل بين الرياض وواشنطن. ويعد قلق السعوديين مفهوماً بعد فشل الرئيس “أوباما” في تطبيق “خطه الأحمر” في سوريا، وعدم قيام الرئيس “ترامب” بالرد على إسقاط إيران لطائرة أمريكية بدون طيار في يونيو/حزيران أو هجومها على أرامكو قبل 6 أسابيع.