عصافير عديدة اصطادها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بحجر واحد، خلال زيارته الأخيرة للمملكة العربية السعودية، إذ عقد العديد من الاتفاقيات الاقتصادية الثنائية في مجال النفط والتجارة والفضاء، وقدم نفسه كشريك بديل عن أمريكا، لحماية أمن الخليج العربي، وفي الوقت نفسه يقوم بدور الوسيط بين طهران والرياض.

كيف استطاع بوتين أن يحصد كل هذه المكاسب فجأة وبزيارة واحدة، وهل أصبحت المنطقة مهيأة لاستقبال هذا الشريك الجديد، الذي لا ينظر للمكاسب الاقتصادية فقط، وإنما يوجه نظره وجهده لدور سياسي يستطيع من خلاله فرض نفوذ الإمبراطورية الروسية في ثوبها الجديد؟

ولماذا اختار بوتين السعودية ليدشن من خلالها شراكته الجديدة بالشرق الأوسط، وهل ستقف الولايات المتحدة متفرجة أمام المساحات الواسعة التي يحصل عليها بوتين في منطقة ظلت لعشرات السنوات مغلقة على النفوذ الأمريكي والأوروبي، ورافضة للوجود الروسي أو بالأحري السوفيتي؟

 

بوتين في المملكة

التحليلات السياسية التي تحدثت عن زيارة بوتين للمملكة، اتفقت أن الرئيس الروسي حقق العديد من المكاسب السياسية والاقتصادية والعسكرية، وأن التعامل الأمريكي المخيب لآمال حكام السعودية، مع الهجوم الذي تعرضت له شركة أرامكو قبل أسابيع، كان بمثابة الضوء الأخضر للدب الروسي بأن يخطو خطواته نحو منطقة الخليج العربي بثبات وقوة، وأن الدب سيعود لبيته وفي جيبه مليارات الدولارات، بالإضافة لأهم الصداقات في الشرق الأوسط.

وحسب تحليل لمركز “المدن” للدراسات السياسية، فإن زيارة بوتين ومباحثاته لم تقتصر على العقود الاقتصادية التي وقعها مع السعودية، وإنما مهد الرجل لإبرام العديد من صفقات الأسلحة مع المملكة، وهي الصفقات التي سيتم تمريرها تحت غطاء الحرب المشتركة على الإرهاب الذي تتعرض له المملكة.

وحسب المركز البحثي فإن كل تقدم في العلاقات المشتركة بين الرياض وموسكو، سيكون له تأثير إيجابي على تحريك الخطط المشتركة بين البلدين لشراء أحدث منظومات الدفاع الجوي الصاروخي الروسية “إس-400″، التي تعتبرها واشنطن العدو الأول لمنظومتها الدفاعية “باتريوت” التي فشلت في التصدي لهجوم الحوثيين المستمر على المملكة ومنشآتها الهامة.

على الجانب الآخر وقع الجانبان اتفاقية تعاون في مختلف المجالات الاقتصادية، على رأسها الطاقة، ومن أبرزها، ميثاق تعاون طويل الأمد في إطار “أوبك +”، يهدف لتعزيز التعاون العالمي لتحقيق الاستقرار لسوق النفط.

وتشير رؤى سياسية أخرى إلى أن زيارة بوتين، وما صاحبها من ترحيب كبير من الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده، بالرئيس الروسي، تشير لحدوث انقلاب مدو في أبرز تحالفات الشرق الأوسط، وهو تحالف الرياض-واشنطن، الذي تعرض للعديد من الهزات على يد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

ويدعم هذا الرأي، تصريحات بوتين نفسه عشية الزيارة، والتي أكد فيها أنه: “بمقدور موسكو لعب دور إيجابي في تخفيف التوتر بمنطقة الخليج، وذلك بسبب علاقات روسيا الطيبة مع دول الخليج وإيران”.

 

ملفات متشابكة

ورغم أن التصريحات السابقة كانت متعلقة بالأزمة مع إيران، إلا أن تصريحات وزير الدولة للشؤون الخارجية السعودي عادل الجبير خلال المؤتمر الصحفي الذي أعقب لقاء بوتين والملك سلمان، عن تأثير الشراكة السعودية الروسية على مثيلتها الأمريكية، أشارت إلى أنها علاقات ربما تتجاوز الوساطة مع إيران، لملفات أخرى سيكون لروسيا فيها كلمة مسموعة، على الصعيدين التجاري والاقتصادي والعسكري.

وعندما سُئل الجبير عن موقف واشنطن من العلاقات الجديدة بين الرياض وموسكو، رفع الرجل شعار “البحر يحب الزيادة”، حيث قال بشكل واضح: “المملكة لا تعتقد أن العلاقات الوثيقة مع روسيا لها أثر سلبي على العلاقات مع الولايات المتحدة”.

وفق تحليل لموقع “يورو نيوز”، فإن روسيا تتشابك في العديد من الملفات مع السعودية، من بينها الوضع في سوريا والتي تعد موسكو أحد أهم اللاعبين فيه، ثم العلاقات المتوترة مع إيران، وهو الملف الذي ترى الرياض أنها تعرضت فيه للخيانة من الولايات المتحدة، التي كان انسحابها من الاتفاق النووي، سببا في التجاوزات الإيرانية تجاه جيرانها وخاصة الرياض.

وفي المقابل، فإن واشنطن لم تحرك ساكنا، ولم تقدم دعما إلا بمقابل مفضوح يتم صرفه مباشرة من خزانة المملكة التي تعاني من الديون.

ويشير التحليل السابق، إلى أن روسيا أصبحت البلد الوحيد تقريبا الذي يتحدث مع الجميع في الشرق الأوسط، حيث نجحت في تقوية علاقاتها مع السعودية مثلما فعلت مع إيران، وهما بلدان يتنازعان نفوذا أكبر قد يتحول في أي ساعة إلى نزاع مفتوح، وهي الكارثة التي يمكن لروسيا أن تمنعها، بما لا يخضع المملكة لابتزاز مستمر، على عكس الوضع مع الولايات المتحدة.

ويستند التحليل لتصريحات بوتين بعد اجتماعه مع الملك سلمان، والتي أذاعها التلفزيون الرسمي السعودي، وأكد فيها أن العلاقات الثنائية مهمة لأمن واستقرار المنطقة، بعد المباحثات التي ركزت على الاستثمارات المشتركة والصراع في سوريا واليمن.

 

كيف تستفيد الرياض؟

يرى البعض أن السعودية ستستفيد من تطوير علاقاتها مع روسيا، انطلاقا من سياسة موسكو التي أعلنتها عندما تأزم الموقف العسكري ضد بشار الأسد، بأن موسكو “لا تتخلى عن شركائها”، وهي السياسة التي تأمل الرياض أن تستفيد منها في حال تقوية العلاقات مع روسيا في المجالين الاقتصادي والعسكري.

وما يزيد من قوة هذا الطرح حديث بوتين لقناة العربية السعودية، وكان أبرز ما جاء فيه ردوده على البرنامج النووي والبرنامج الصاروخي الإيراني وتهديدهما لدول المنطقة، حيث أكد بأن: “برنامج الصواريخ شيء، والبرنامج النووي شيء آخر، وهذا لا يعني أنه ليست هناك حاجة للحديث عن هذا الموضوع، خاصة إذا كان يسبب القلق، بالطبع، هذا ضروري، ولكن لا حاجة إلى دمج واحد مع الآخر، حتى لا يجهض الإنجاز الذي تم تحقيقه في أول مراحله”.

وعن قيامه بالوساطة بين الرياض وطهران، قال بوتين: “الزعماء المتناحرون في المنطقة لا يحتاجون إلى المشورة والوساطة، يمكن التحدث معهم فقط من باب الصداقة.. أعلم أنهم، لكونهم أذكياء، سيصغون ويحللون ما يقال لهم. وفي هذا السياق يمكننا لعب دور إيجابي”.

ويرى المحللون الذين عقبوا على تصريحات بوتين، بأنها تشير لوجود إنجاز تحقق بالفعل من أجل التوصل لتفاهمات بين طهران والرياض، في ظل قناعة الجميع بأن السعودية لا تريد حربا مع إيران، وأن الأخيرة تعاقب الأولى لشراكتها مع أمريكا.

ووفق الرأي السابق فإن بوتين يعول على نتائج التحقيق الدولي المتعلق بالهجوم الذي جرى على شركة أرامكو، وفي حال تبين ضلوع طهران في الهجوم بشكل أو آخر، فإنها ستكون فرصة للتسوية بين الرياض وطهران في الملفات العالقة مثل اليمن.

أو بمعنى آخر فإن روسيا ستكون ضامنة لحدوث تنازلات إيرانية في اليمن، لإرضاء السعودية، مثل قبول الحوثيين بالحل السياسي، الذي تسعى إليه الرياض للخروج من مستنقع اليمن بما يحفظ ماء وجهها.

ويدعم أصحاب هذا الطرح رأيهم بموقف موسكو المعارض لتوجيه أي انتقادات مباشرة لانتهاكات قوات التحالف بقيادة السعودية في اليمن، رغم الشراكة المعروفة بين موسكو وطهران.

 

الملف السوري

وحسب محللين، فإن الملف السوري لم يكن غائبا عن أجندة موسكو، التي تعتبر نفسها اللاعب الأول فيه، خاصة وأن الزيارة تم اختيار توقيتها بعناية، كما أشار موقع “ذا فويس أوف أميركا”، والذي رأى أن الكرملين كان حريصا على أن يحدد موعدها لتتزامن مع انشغال واشنطن في حروبها السياسية المحلية، وتقلص تركيزها تماما فيما يخص منطقة الخليج، وانسحاب القوات الأمريكية من شمال سوريا.

ورغم قناعة موسكو بأن الرياض تخلت عن دورها في سوريا لصالح الولايات المتحدة، إلا أن تطورات الأحداث في هذا الملف، قد تعيد ترتيب الأوراق مرة أخرى، في ظل العملية العسكرية التركية في شمال سوريا، والتي تدعمها روسيا بشكل واضح.

وهو ما يتزامن أيضا مع الحديث عن التوصل لحل سياسي مع اقتراب الانتهاء من مسودة الدستور السوري الجديد، الذي ترعى موسكو كافة مفاوضاته مع الأطراف السورية والدولية المعنية بالملف.

ومن هنا فإن موسكو تنظر للدور المستقبلي الذي يمكن أن تقوم به الرياض في إعادة الإعمار وعودة اللاجئين، إذا تم التوصل للحل السياسي.

ويرى البعض أن النجاحات التي حققها بوتين في منطقة الشرق الأوسط، والتي كانت محرمة عليه في السابق، يعود الفضل فيها لفشل السياسات الأمريكية بالمنطقة.

وحسب رأي الكاتب الصحفي عبد الباري عطوان: فإن نجاح بوتين له ثلاثة أسباب رئيسية، يأتي في مقدمتها دهاؤه الإستراتيجي بعيد النظر، وبرود أعصابه وسياسة النفس الطويل التي يتبعها.

أما السبب الثاني فهي تحالفاته الذكية والمدروسة بعناية في المِنطقة، وخاصة مع سوريا وإيران وتركيا، وثالثها الغباء الأمريكي، وحالة الفوضى السياسية التي تسود واشنطن حاليا نتيجة الخلافات المتفاقمة بين البيت الأبيض والكونجرس.

ووفق عطوان: فإن ترامب كان الهدية الإلهية الأعظم لبوتين، وروسيا عموما، فهذا الرجل بجشعه، ولغة الصفقات التي لا يُتقن غيرها، لم يُحقق أي إنجاز على مدى السنوات الثلاث الأولى من حكمه، وكل سياساته، بما فيها المبالغة في فرض العقوبات الاقتصادية، والتي أعطت نتائج عكسية، وانعكست سلبا على المصالح الأمريكية في المِنطقة، وهزت الثقة بالصورة الأمريكية ومصداقيتها، وأنهكت حُلفاء أمريكا، الأمر الذي يُرجّح النظرية التآمرية التي تقول بتدخّل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة لمصلحة فوزه حتى لو غابت الأدلة.

ويرى عطوان: أن بوتين يزور الرياض وأبو ظبي، أبرز شريكين لأمريكا، وأكبر مُستوردين لأسلحتها، وقد تعِبَت يده من توقيع الصفقات التجارية، والعسكرية، والنفطية، من كثرة عُقودها، ويفرك يديه فرحا، ويشكر حليفه الإيراني في سره الذي لعب، وأذرعه العسكرية الحليفة في اليمن والعراق ولبنان دورا كبيرا في هذا التحول الإستراتيجي الكبير.