عرائس “الماريونيت” عبارة عن دمى يتحكم بحركاتها شخص آخر، إما بيده أو بخيوط أو أسلاك أو عصي، لأداء أدوار معينة في مسرحية كتبها طرف ثالث. هكذا تتعامل الإمارات ممثلة في شخص الأمير محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي، مع السعودية ممثلة في شخص الأمير محمد بن سلمان ولي العهد.

بن زايد يتعامل مع بن سلمان معاملة الطفل “القاصر” يملي عليه قراراته ويوجه سياسته، مستغلا لهفة الأمير الشاب وولعه بكرسي العرش.

تلك الأدوار انفضح أمرها، وبات مكشوفا للجميع اختراق أبو ظبي للقرار السعودي وتحكمها في إدارة شؤون المملكة عن بعد، في دلالة واضحة على هشاشة الأسرة الحاكمة من الداخل، وسط إسكات متعمد للعقلاء.

أثبتت المواقف والقرارات المتوالية لبن سلمان منذ كان وزيرا للدفاع وحتى تنصيبه وليا للعهد، تلقيه تعليمات وتوجيهات من بن زايد “افعل ولاتفعل”، ويلزمه بتنفيذ التعليمات، لتخرج المسرحية التي يؤديها الطرفان أمام الرأي العام بالصورة التي رسمها كاتب المسرحية.

 

أجندة إماراتية

فصول المسرحية المتوالية كشفت تنفيذ “بن سلمان” لأجندة إماراتية بامتياز، فبعد أن تحدث يوسف العتيبة سفير الإمارات لدى أمريكا عن علمانية السعودية بدأت الرياض في اتخاذ خطوات فعلية نحو إلغاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تمهيدا لإلغائها وإنشاء هيئة الترفيه التي أعلنت مؤخرا عن السماح بافتتاح “ديسكو إسلامي”.

وبعد أن تفاخر وسيم يوسف الداعية المجنس إماراتياً، بتحريضه على سجن العلماء السعوديين تولت سلطات المملكة شن حملات اعتقال على الدعاة والعلماء وحتى الأمراء، وقبل إعفاء الأمير متعب بن عبد الله من منصبه نشر حمد المرزوعي المقرب من بن زايد تغريدة تفيد بأن القرار صدر من أبو ظبي.

كما أن الإمارات كانت أول من استقبلت بن سلمان بعد مقتل خاشقجي في تأكيد على أنه باقٍ في منصبه ويمارس دوره.

تدخّل أبو ظبي في القرارات السعودية واستجابة بن سلمان لتعليمان بن زايد تسببت في أن تخسر السعودية مكانتها الدينية بتحولها للعلمانية، وتخسر عسكريا بفشلها في اليمن، وتخسر سيادتها بتحولها كتابع لأبوظبي وسقطت أخلاقيا بسقوط إعلامها الذي يدار من الإمارات.

 

صفقة القرن

كانت أبرز النصائح التي قدمها بن زايد لـ”بن سلمان” حين كان ولياً لولي العهد، بحسب تقرير نشرته صحيفة “ميدل إيست آي” البريطانية، في يوليو/تموز 2016، لكي يصير ملكاً أن ينهي الحكم المتشدد للفوز بثقة الولايات المتحدة، ويفتح قناة اتصال” مع إسرائيل إذا أراد أن يكون المرشح المفضل لأمريكا في الجلوس على عرش المملكة.

كما أشارت صحيفة “نيويورك تايمز” إلى أن “بن زايد” دشن حملة علاقات عامة في واشنطن لتلميع صورة “بن سلمان” حتى يؤمن له الطريق إلى ولاية العهد.

ويبدو أن بن سلمان يسير على الخطة الإماراتية التي وضعها له بن زايد وتمكن بها من الوصول إلى منصب ولي العهد في يونيو/حزيران 2017، ويعامل دولياً باعتباره الحاكم الفعلي للبلاد، بحسب ما كشفته صحيفة “جورنال دو ديمانش” الفرنسية.

ولم يتوان بن سلمان في تنفيذ المطلوب حتى وصف الإعلام الإسرائيلي بن زايد وبن سلمان بأنهما يدعمان تل أبيب أكثر من اليهود، إلى أن وصلت الأمور إلى تأيدهما لتمرير صفقة القرن التي تتضمن سلب مدينة القدس المحتلة ومنحها لـ”إسرائيل”، في ظل الحديث عن دور “مشبوه” تقوم به الرياض لتصفية القضية الفلسطينية وشرعنة الاحتلال.

وقالت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية في تحقيق نشرته في يونيو/حزيران الماضي، إن بن زايد هو من قدّم مقترحات ما يسمى بـ”صفقة القرن” التي وضعها جاريد كوشنر صهر الرئيس “دونالد ترامب” من أجل القضاء على القضية الفلسطينية.

فيما تم تسويق الصفقة بأموال بن سلمان حيث أوضح المعلق الإسرائيلي البارز، بن كاسبيت، أن “ترامب” يحاول تسويق خطته عبر الأموال التي يبدي ولي العهد السعودي، استعدادا لدفعها في مسعاه لإغراء الفلسطينيين بقبول الخطة.

بن سلمان أسند أيضا لمستشاره السابق سعود القحطاني مهمة خاصة تمثلت في تجميل صورة إسرائيل لدى الرأي العام السعودي، بينما هو بتصريحاته العلنية حمل تلك المهمة على عاتقه، فقال إن من حق إسرائيل أن يكون لها دولة.

 

ولاية العهد

لم يكن وصول بن سلمان لولاية العهد وتمريره لتلك الصفقة بمعزل عن القرار الإماراتي، فقد برز دور أبو ظبي في تغيير معادلة السلطة داخل السعودية.

بن زايد كان يتفاخر بمجالسه الخاصة بأنه كان ضد الأمير الراحل نايف بن عبد العزيز وهو وراء إقناع بن سلمان بعزل ابن عمه محمد بن نايف من ولاية العهد، وبالتالي ينصب بن سلمان بدلاً منه، بحسب معلومات سربها حساب “مجتهد الإمارات” على موقع التواصل الاجتماعي تويتر والمعروف بنقله معلومات من داخل دوائر الحكم بالإمارات.

وأفاد القائم على الحساب بأن السبب الأساسي وراء عزل الأمير بن نايف من منصبه هو تحريض كل من بن زايد ومستشاره الأمني محمد دحلان على بن نايف فى لقاء خاص في أبو ظبي.

وأوضح في سلسلة تغريدات له بتويتر، أن اللقاء كان قبل عزل بن نايف من منصبه بثلاثة أسابيع وجمع “بن سلمان وبن زايد ودحلان”، مشيرا إلى أن دحلان قال خلال اللقاء: إنه “لا يمكن حل مشاكل المنطقة دون حل مشاكل المملكة، وخاصة مشاكل الحكم ومن سيخلف الملك (سلمان) والفراغ الذى سيحدث بعده، وأن هذا الأمر الذي يشغل الأمريكيين وليس له جواب”.

ووفقا لـ”مجتهد الإمارات”، أضاف “دحلان”: “لابد أن تتصدر شيخ (محمد) البديل وبأن تكون خليفة لوالدك فى الحكم وخاصة أن الأمير (محمد بن نايف) يتربص الفرص لتعيينه حاكما”.

واستمر”دحلان” في تحريضه وتخويفه لبن سلمان قائلا: “محمد بن نايف سيقوم بانقلاب ضدك مستقبلا وسيسحب بساط الحكم من تحت قدميك، مطالبا بن سلمان بخطوات استباقية لتقليم أظافر بن نايف”.

وأوضح مجتهد الإمارات أنه بعد انتهاء اللقاء الثلاثي الذي استمر أكثر من 65 دقيقة غادر بن سلمان إلى المملكة وتم رفع الأمر لوالده الملك سلمان، وبدوره عقد اجتماعا خاصا وأعلن عن عدة تغييرات في المناصب السيادية في القيادة بحجة ضخ قيادات شابة في الحكم.

 

علمنة المملكة

ومنذ انقلاب بن سلمان على بن نايف وتوليه ولاية العهد في يونيو/حزيران 2017، نفذ عدة خطوات نحو قطع صلة المملكة بصبغتها الدينية، تحت شعار الإصلاحات والانفتاح لكنها في الحقيقة تصب في هدفه الرامي لتحجيم دور الدعاة وعلمنة الدولة.

وهو ما خططت له الإمارات وبشر به يوسف العتيبة السفير الإماراتي لدى واشنطن، في تصريح له في 28 يونيو/حزيران 2017 ‏خلال مقابلة مع قناة “PBS”، قائلاً: “لو سألت الإمارات والسعودية والأردن ومصر والبحرين ما هو الشرق الأوسط الذي يريدون رؤيته بعد 10 سنوات من الآن، فسيكون متعارضاً في الأساس لما أعتقد أن قطر تريد رؤيته بعد 10 سنوات من الآن، ما نريد أن نراه هو حكومات علمانية مستقرة مزدهرة وقوية”.

ورغم أن تصريح العتيبة لم يمض عليه سوى عامين، إلا أن السعودية تتفانى في تحقيق ما تصبو إليه الإمارات في رؤيتها، ولكن بمفهوم يحقق مصالحها، منسلخة من عباءة الدين، ومتجهة نحو العلمانية بقوة.

ويتكشف أن تصريح “العتيبة” كان بمثابة تمهيد لما وصلت إليه السعودية الآن من انفتاح مبتذل، وتغريب متعمد، وخطت العلمانية في المملكة خطوات متسارعة في الأعوام القليلة الماضية.

وتعمل السلطة السعودية على دفعها الى حدها الأقصى، دون أن تسمح لأحد أن يقترب من المنطقة المحرمة المتعلقة بالتطور السياسي، وإمكانية مراقبة وتقييد الحاكم في السلطة والمال.

وفرض النظام السعودي العلمانية قسرا على المجتمع ودفعها لتصل إلى أعلى المستويات وتصبح دولة رائدة في المنطقة في تصديرها، والجاري اليوم هو هدم للصورة النمطية السابقة عن المملكة، ورسم صورة أخرى ترضي الغرب من أجل الاستمرار في الحكم، مهما كان الثمن، ولو كان الصدام مع معتقدات وقيم المجتمع.

من هذا المنطلق، فإن هناك الكثير من الأشياء التي تشهدها السعودية للمرة الأولى في تاريخها، منها الإعلان عن “روزنامة الترفيه”، التابع للهيئة العامة للترفيه في السعودية (حكومية)، عن إقامة حفلات غناء ورقص واستضافة المغنيين والموسيقيين العرب والأجانب والاحتفاء بهم.

وسبقت هذه الخطوة افتتاح أول صالة قمار في السعودية، والتي دشنت بتصريح من بن سلمان ضمن خطواته لعولمة السعودية خلال السنوات القادمة.

وكانت زيارات ابن سلمان المكوكية الى عدة مدن أمريكية أسفرت عن توقيع الكثير من العقود في هذا الاتجاه، ومنها مع شركة “سكس فلاج” الشهيرة وهي مدينة ألعاب فخمة. كما تم الاتفاق مع شركة AMC أيضا لافتتاح 100 صالة سينما في مدن المملكة خلال تلك الفترة.

وفي هذا السياق وافق بن سلمان على إنشاء قرية أو مدينة سياحية بعيدة عن العاصمة، ولها قوانينها الخاصة كما هو الحال في لاس فيغاس مدينة القمار الأمريكية.

 

اعتقال الدعاة

ولتمرير مخطط علمنة المملكة وتقليل هيبة الخطاب الديني، تنفيذاً للخطة الإماراتية التي وضعها بن زايد لزم إبعاد كل من لديه شعبية واسعة وكلمة مسموعة داخل المملكة، أبرزهم الدكتور سلمان العودة ومحمد الحضيب وعلي العمري وعوض القرني وغيرهم.

لذلك شنت السلطات السعودية بعد 3 أشهر من تولي “بن سلمان” ولاية العهد، وتحديداً في سبتمبر/أيلول 2017، حملة اعتقالات وملاحقات استهدفت علماء ومفكرين ودعاة بارزين وأكاديميين وغيرهم، وما زالت الحملات مستمرة حتى الآن.

وكان من أبرز الاعتقالات التي أثارت الجدل وكشفت ضلوع الإمارات في حملة الاعتقالات داخل السعودية، اعتقال عبد العزيز الفوزان أستاذ الفقه المقارن في المعهد العالي للقضاء، إذ أكد مراقبون أن قرار الاعتقال صدر من أبو ظبي.

وتداول مغردون في السعودية مقطع فيديو لخطيب جامع الشيخ زايد الكبير بالإمارات وسيم يوسف وهو يتفاخر بتحريضه على سجن العلماء السعوديين ويبشر باعتقال الفوزان.

وقال “يوسف” لمتصل سعودي قبل عدة أشهر: (كل الذين أشير إليهم هنا في #أبوظبي يتم اعتقالهم بالسعودية، وعبد العزيز الفوزان قريبا سيتم اعتقاله).

وسبق الفوزان صدور حكم بالسجن 5 سنوات على الدكتور محمد الحضيف أستاذ الإعلام في جامعة الملك سعود، بعد تحذيره من الدور المشبوه الذي تمارسه الإمارات في السعودية، ثم اعتقلت الشاعر الراوي السعودي فواز الغسلان بسبب انتقاده سياسات الإمارات.

وطالت حملة الاعتقالات الأمراء أيضا إذ اعتقل الأمير عبد العزيز بن فهد نجل الملك السعودي الراحل فهد بن عبد العزيز في سبتمبر/أيلول 2017، بعد نشره عدة تغريدات في يوليو/تموز من العام نفسه انتقد فيها “بن زايد” وسياسات الإمارات.

 

أوامر إقالة

واستمرارا لتنفيذ مخطط بن زايد الذي يخدم صعود بن سلمان للحكم وفق سياسة إماراتية، صدر أمر ملكي في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، بإعفاء الأمير متعب بن عبد الله وزير الحرس الوطني، من منصبه، وتعيين الأمير خالد بن عياف بدلا منه، إذ كان الحرس الوطني هو الجزء الباقي من القوات المسلحة خارج سلطة بن سلمان بعد أن أقال عمه بن نايف وتحولت السلطة له مباشرة.

وكشف الناشطون تدخل بن زايد في اتخاذ القرارات بالمملكة، وأعادوا تداول تغريدة قديمة لحمد المزروعي الناشط الإماراتي المقرب من ولي عهد أبو ظبي، كتبها منذ يوليو/ تموز2017 تحدث فيها عن عزل متعب من منصبه، في تأكيد واضح على أن الإدارة السياسية بأبوظبي كان لديها علم مسبق بما سيحدث أو ربما هي من وجّهت لذلك.

 

اغتيال خاشقجي

وحضر الدور الإماراتي في حادث اغتيال الكاتب الصحفي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول في 2 أكتوبر/تشرين أول 2018، فرغم الصمت الذي أبدته الإمارات تجاه الحادث في البداية والذي اعتبرته صحف أجنبية بأنه تخلٍ من قبل بن زايد عن بن سلمان، إلا أن الصحف التركية كشفت لاحقا ضلوع الإمارات في الحادث.

وقال موقع “تركيا الآن”: “بن زايد موّل فريقاً كانت مهمته تنظيف ومسح الأدلة والدلائل المتعلقة بجريمة اغتيال خاشقجي، بإشراف القيادي المفصول من حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) محمد دحلان أحد رجال ولي عهد أبو ظبي”.

وحين كان الحادث في بدايته مجرد “اختفاء” خاشقجي، كشف حساب “بدون ظل” الشهير بتويتر والذي يعرف نفسه على أنه ضابط بجهاز الأمن الإماراتي، أن “بن زايد” نصح “بن سلمان” بضرورة (التصعيد) ضد تركيا وضرورة الكشف عن مكان، خاشقجي.

المملكة تعرضت إثر الحادث لانتقادات متصاعدة هزت سمعتها ومكانتها إقليمياً ودولياً، خاصة بعد أن توصلت جميع الأدلة التركية والأمريكية إلى صلة ولي العهد السعودي بالحادث بشكل مباشر، وتعرضه لحملة ضغط دولية كبيرة.

وبدأ طوق الاتهامات بالتورط في الاغتيال يضيق حول رقبة “بن سلمان”، وتنامى الحديث عن احتمال إبعاده في ظل الشبهات القوية القائمة بأنه هو من أمر باستهداف “خاشقجي” رغم النفي الرسمي السعودي لذلك.

إلا أن الإمارات كانت أول الدول التي وسّعت ذلك الطوق، وفتحت أبوابها أمام “بن سلمان” واستقبلته في أول جولة خارجية له بعد الحادث، والتي جاءت بعد دفاع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عنه، ونفيه علمه بالجريمة، وهي الزيارة التي اعتبرها مراقبون بمثابة دعم سياسي قوى لبن سلمان، وبشارة إماراتية بأنه باق في منصبه وسينجو من فعلته.

 

حرب اليمن

وفيما يتعلق بالحرب في اليمن، أكد الباحث البريطاني نيل بارتريك، في مقال تحليلي نشره مركز “كارنيغي” الأمريكي للسلام الدولي، أن السعودية لا تعرف ماذا تريد في اليمن، والإمارات هي من تدير توجهات السعودية وفق ما يخدم سياسات أبوظبي.

وأشار إلى أن المقاربة غير المتماسكة التي تعتمدها السعودية في المسألة اليمنية، والتي تعكس استعداداً من جانبها للقبول بأن تكون جارتها الجنوبية ضعيفة، تسمح للإمارات بتحريك الرماد وإثارة المشكلات.

واعتبر الباحث أنه بما أن الإمارات لم تتأثر مباشرة سمح هذا الوضع لها بالتلاعب استراتيجيا على كل من السعودية والحوثيين. وأكد أن الإمارات تدعم علناً الانفصاليين الجنوبيين وتعارض الرئيس اليمني ‏الشرعي عبد ربه منصور هادي المدعوم من السعودية.