في 23 أغسطس/آب 2019، أُثير جدل في المملكة العربية السعودية وخارجها، بسبب تداول صور تُظهر تغيير المناهج الدراسية الخاصة بالتاريخ القومي للمملكة، عبر إبراز دولة “الخلافة العثمانية” كـ”دولة غازية”، ووضعها في قالب “العدو” القديم.

وتحدَّث مغردون سعوديون آنذاك، ضمن هاشتاج “المناهج الجديدة” عن تغييرات جذرية في محتوى المقررات الدراسية خاصة فيما يتعلق بنشأة الدولة السعودية و”المعارك التي خاضتها ضد الدولة العثمانية”.

وتظهر صور متداولة من المناهج المعدلة كيف “شنَّ القائد العثماني مصطفى بك حرباً على الدولة السعودية الأولى وحرَّض عليها القبائل في معركة تربة التي انتهت بخسارة، العثمانيين أمام قوات السعوديين”، وفق رواية الرياض الجديدة.

 

بريطانيا تخالف السعودية

والمنهج التاريخي الجديد الذي استحضرته الحكومة السعودية، يسرد تفاصيل تتناقض مع روايات كشفها الأرشيف السري البريطاني مؤخراً، عن حيثيات نشأة الدولة السعودية الثالثة في مطلع القرن العشرين، وما بعدها، وفضح من خلالها ما أسماه “حجم الخيانات التي ارتكبها حُكام السعودية الأوائل ضد الأتراك العثمانيين”.

وتقول تلك الوثائق إنَّه قُبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى كانت الجزيرة العربية تخضع شكلياً لنفوذ الدولة العثمانية، وتوجد في المدينة المنورة حامية تركية تشرف على تأمين خط سكة حديد الحجاز، بينما تتقاسم القبائل والعائلات النفوذ الفعلي والسيطرة على الأرض، فالأشراف يحكمون الحجاز وآل سعود يحكمون نجد والأدارسة يحكمون عسير وآل رشيد يحكمون حائل والجوف.

في تلك الآونة كانت بريطانيا تحرص على استقرار الدولة العثمانية وتتجنب إقامة علاقات خاصة مع زعماء المناطق الخاضعة للنفوذ العثماني، وهي السياسة التي تغيَّرت مع اندلاع الحرب العالمية الأولى.

لكنَّ والي نجد (ابن سعود) كان يتواصل سراً مع البريطانيين، وعندما لاحت بوادر الحرب العالمية الأولى، انقلب الوالي السعودي على العثمانيين فسجن ضابطاً تركياً أوفدته حكومة الباب العالي إليه لتدريب قواته، كما اعتقل أربعة علماء أرسلتهم السلطات التركية إليه للدعوة في نجد إلى الجهاد ضد الإنجليز.

وأرسل إلى القنصل البريطاني العام بالخليج بيرسي كوكس في نوفمبر 1914 قائلاً: “إنني واحد من أكبر أعوان حكومة بريطانيا العظمى التي ستحصل بعون الله مني على نتائج مرضية”.

كما شنَّ ابن سعود حرباً ضارية ضد آل رشيد الموالين للعثمانيين، وقُتل الكابتن شكسبير في تلك الحرب في 1915 أثناء تواجده مع الجيش السعودي، الأمر الذي يجعل الرواية السعودية الجديدة محل نقد وتشكيك.

 

بداية الخلافات

ويرى البعض أنَّ مردَّ الرواية الجديدة هو اشتعال الخلافات بين تركيا والسعودية، على خلفية جريمة قتل الرياض لمواطنها الكاتب جمال خاشقجي في أكتوبر/ تشرين الأول 2018، داخل قنصلية بلاده في إسطنبول، وإصرار أنقرة على محاسبة المتورطين، وسط تحميل دولي لولي العهد محمد بن سلمان المسؤولية عن قتله.

ومُنذ ذلك الوقت بدأت السعودية بخوض مناكفات عديدة، أبرزها الدعوة إلى عدم سفر السياح السعوديين إلى تركيا، واختلاق قصص جديدة من قبيل أنَّ تلك البلاد غير آمنة، وأنَّ مواطنيها يتعرضون للسرقة هناك.

وبالعودة إلى المناهج، قال الأمير سطام بن خالد آل سعود عبر صفحته الرسمية على موقع تويتر: “المناهج الجديدة تضع الأمور في نصابها الصحيح بالحديث عن تاريخنا وكشف الوجه الحقيقي للدولة العثمانية المغولية التي كانت توصف بأنَّها خلافة مع أنَّها حاربت أجدادنا”.

كما تحدثت تلك المناهج عن “تعذيب العثمانيين لأئمة الدولة السعودية الأولى وتهجير سكان المدينة ومنطقة الأحساء”.

بالإضافة لذلك، سلَّطت التغييرات الجديدة الضوء على الحضارات والممالك التي تأسست في شبه الجزيرة العربية، قبل ظهور الإسلام.

وغرد الإعلامي السعودي، سلمان الدوسري: “الأمر ليس له علاقة بالسياسة فلا أحد يختلف على انتهاكات وجرائم العثمانيين في الجزيرة العربية.. كل القصة أنَّ المناهج الجديدة وثَّقَتْ ما كان غائباً عن أجيال وأجيال آن الأوان أن يُوَثَّقَ الاحتلال العثماني بكل تفاصيله”.

وتناولت بعض التعليقات المعترضة على السياق التاريخي المستحضر، أنَّه لا يتعلق بالتاريخ ولا بالماضي ولا بالأخذ بأسباب العلم وأصوله، ولا بالانتصار للحضارة السعودية، على العثمانيين المغول، بل بسياسة وليّ العهد محمد بن سلمان، “الغاشمة” وتداعياتها الكارثية على السعودية والمنطقة.

في 15 مايو/ آيار 1914، وقَّع عبد العزيز آل سعود، معاهدة مع الدولة العثمانية نَصَّت على توليه منصب “والي نجد” طيلة حياته، ووراثة أولاده للمنصب من بعده، وعلى أنَّ “الدولة العثمانية متى دخلت في حرب مع دولة أجنبية أو إذا حدث اضطراب داخلي في أي من ولاياتها، وطلبت منه إرسال قوة دعم، فعليه توفير تلك القوة مع كامل أسلحتها وعتادها”.

في أغسطس/آب 1914، اندلعت الحرب العالمية الأولى، وتعززت مكانة عبد العزيز آل سعود لدى التاج الملكي البريطاني، وكشفت لاحقاً وثائق الأرشيف البريطاني المرفوع عنه السرية أن آل سعود، أخذ رأي الإنجليز سراً في معاهدته مع العثمانيين، فكتب في 2 أبريل/ نيسان 1914، إلى المعتمد السياسي البريطاني في البحرين، تريفور، قائلاً: “تسلمت معلومات من المبعوث التركي عمر بك مارديني، الذي وصل من القسطنطينية مباشرة، ولم أحب أن أراه حتى أخبركم لكي تعلموني بالمطلوب وبأي شكل يكون”.

وفي 4 سبتمبر/ أيلول 1914، عندما لاحت بوادر مشاركة الدولة العثمانية في الحرب، كتب السير ماليت، سفير بريطانيا في القسطنطينية، إلى وزير خارجيته إدوارد غراي، قائلاً: “أوافقكم على أنَّه إذا تحالفت تركيا مع ألمانيا وأصبحت الحرب محتومة، فمن المحتمل أن يصبح من أهم الأسلحة دعم وتنظيم حركة عربية، يجب أن يوجهها ابن سعود، بالتعاون مع أصدقائنا من زعماء العرب”.

وتأكيداً لخيانة ابن سعود للعثمانيين، وولائه للإنجليز، كانت مطالبته بمعاهدة حماية حقيقية، بعدما أخبر صديقه شكسبير بسر حربي شديد الأهمية، فقد كانت الخطة العثمانية المُعدَّة ضد الإنجليز في الحرب العالمية الأولى للدفاع عن البصرة التي وقعت في يد البريطانيين بعد ذلك، تتمثل في انضمام السعوديين للأتراك، والقيام بدور شديد الأهمية.

لذا، وعلى وجه السرعة أرسل شكسبير برقية سرية عاجلة إلى القوات المسلحة البريطانية في الهند، والتي بدورها أرسلت على وجه السرعة والسرية تفاصيل هذه الخطة إلى وزارة الحرب البريطانية بتاريخ 19 يناير/كانون الثاني 1915، وكان مما جاء في تلك البرقية السرية المكوّدة برقم (S. 1316 I.22): “أخبرنا الكابتن شكسبير، الذي هو لدى ابن سعود، أنَّ الخطة التركية الأصلية هي كما يلي: ابن سعود كان سيُدافع عن البصرة ويقوم بهجوم خادع لعرقلة تقدُّم بريطاني، ابن رشيد وقبائل عنزة تتقدم نحو شبه جزيرة سيناء ومصر بالاتصال مع القبائل الغربية، وشريف مكة والإمام والإدريسي يُدافعون عن اليمن والحجاز والأماكن المقدسة”.

وفي 26 ديسمبر/كانون الأول 1915، وقّع الملازم بيرسي كوكس مع عبد العزيز آل سعود معاهدة في جزيرة دارين المقابلة للقطيف، وقد سُميت المعاهدة فيما بعد باسم (معاهدة دارين)، وصادَق نائب ملك بريطانيا وحاكم الهند في يوليو/تموز 1916م على هذه المعاهدة شديدة الأهمية في تاريخ السعودية الحديثة، والتي اعتُبرت بمقتضاها السعودية دائرة بصورة كلية في فلك السياسة البريطانية أولاً وأخيراً.

 

راتب شهري

المؤرخون اتفقوا أنَّ (معاهدة دارين) كانت تعني بصورة مباشرة الحماية البريطانية على آل سعود ودولتهم في نجد، وكان هدف عبد العزيز آل سعود فوق ذلك الحصول على مرتبات شهرية ودعم تسليحي سخي قُدّر بألف رشاش وبندقية، ومئة ألف وحدة ذخيرة، وبالفعل استلم الدفعة الأولى من مرتبه المقدر بـ5000 آلاف جنيه إسترليني.

وكان للمساعدة البريطانية بالمال والسلاح أهميتها الخاصة لابن سعود، ليس فيما يتعلق بمجريات الحرب العالمية الأولى فحسب، بل في تحديد مصيره ومستقبله السياسي في مواجهة أعدائه الداخليين وخاصة قبائل “الشمر والعجمان والمرة”.

بفضل خيانة آل سعود في الجزيرة العربية، والشريف حسين في الشام وفلسطين، انتصرت بريطانيا على الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وكانت مُمَهِدة لعبد العزيز آل سعود ليؤسس نواة الدولة السعودية الثالثة، التي عبَّر عن أهميتها المعتمد السياسي البريطاني في البحرين الميجر ديكسن في أغسطس 1920 قائلاً: “جزيرة عرب وسطى قوية يحكمها ابن سعود، وهو مرتبط بأشدِّ العلاقات الودية مع الحكومة البريطانية، تكون ملائمة للسياسة البريطانية كل الملائمة، إنَّها ستحسِم الكثير من المصاعب، وفي الوقت نفسه تجعل كل الدويلات الساحلية معتمدة علينا أكثر مما هى عليه الآن.

الكويت والبحرين والساحل المهادن وعمان والحجاز وحتى سوريا سوف تعيش كلها في هلع من جارها القوي، وتكون أكثر انصياعاً لرغبات حكومة الجلالة مما هي عليه اليوم، إنَّ طريقة العربي هي أن يعيش على تحريض جيرانه الأقوياء بعضهم ضد بعض. وفي الوقت نفسه إذا لم يستطع القيام بذلك، فعليه أن يستند إلى دولة حامية قوية للالتجاء إليها، وإذا أصبح ابن سعود قوياً جداً في جزيرة العرب، فإنَّ النفوذ البريطاني يزيد زيادة عظيمة بين الدول الساحلية”.

 

إسهامات العثمانيين

ونشر موقع “تركيا بوست” مقالة في 29 فبراير/ شباط 2016، عن ما قدمته الدولة العثمانية للحضارة الإسلامية، في ظل الافتراءات والتشويه الذي طالها من قبل حكومات الأنظمة العربية، وبعض مما تم تناوله عن أهمية الدولة العثمانية تمثل في:

أولاً: فتح العثمانيون الكثير من دول العالم، وأسلم على أيديهم مئات الآلاف في الشرق والغرب وضمّت امبراطوريتهم المسلمة ثلاثاً من قارات العالم هي آسيا وأفريقيا وأوروبا.

ثانياً: فتح الله على أيديهم مدينة القسطنطينية التي بشّر النبي صلى الله عليه وسلم بفتحها وأثنى على من سيفتحها، وقد حاول الكثير من الصحابة فتحها منذ عهد عثمان بن عفان ولم تنجح محاولاتهم، حتى جاء العثمانيون وفتحوها وحولوها من مركز الهجمات النصرانية على الإسلام إلى مقر الخلافة الذي تنطلق منه الجيوش لتنشر الإسلام في العالم بأسره، بل وغيّروا اسمها إلى إستانبول اي ”دار الإسلام”.

ثالثاً: سحق وتدمير الإمبراطورية الصفوية الشيعية المجرمة التي تحالفت مع أعداء الإسلام للقضاء عليه وسعت لاقتلاع الإسلام من جذوره، وانتصروا عليها في معركة جالديران عام 1514 ودخلوا تبريز عاصمة الصفويين.

رابعاً: إنقاذ أكثر من سبعين ألفاً من مسلمي الأندلس ”المورسيكيون” وتخليصهم من محاكم التفتيش البشعة التي أقامها النصارى لهم.

خامساً: بثّوا الرعب في نفوس أوروبا كلها من شرقها لغربها وسيطروا على البحر الأحمر والأسود والمتوسط والخليج العربي وسيطروا على بلغراد والمجر ورودس وبلاد القرم حتى وصلوا إلى أسوار فيينا، بل وصلت البحرية الإسلامية بقيادة القائد البطل خير الدين بربروسا إلى أعظم قوة بحرية في العالم.

سادساً: كان أعداء الإسلام يضعون ألف حساب قبل أن يتجرأوا ويهاجموا أي بقعة من بقاع الإسلام حتى وإن كانت خارج سيطرة العثمانيين، لأنَّهم يدركون جيداً أنَّ العثمانيين لا يدافعون عن أملاكهم الشخصية بل يدافعون عن كل شبر من أرض الإسلام.

سابعاً: وقف العثمانيون كحائط صد في وجه المحاولات الصليبية والصهيونية للسيطرة على مقدسات المسلمين حتى في فترات الضعف، وما فعله السلطان عبد الحميد الثاني أكبر شاهد على ذلك، عندما رفض التنازل عن فلسطين ومقولته الشهيرة: “والله لعمل المبضع في جسدي أهون علي من أن أرى فلسطين وقد بُترت من أرض الخلافة”.

أضف إلى كل ما سبق: ما قدّمه العثمانيون في الحضارة والثقافة والعلوم المختلفة.