حل الرئيس السوداني السابق عمر حسن البشير عن قصره محمَّلًا بثروة طائلة، ترجح كفتها أمام كمٍّ من التهم وقضايا الفساد التي جناها بطرق “غير مشروعة” على مدار 3 عقود من الحكم، وذلك على حساب الشعب ومقدراته.

“الثراء الحرام” كانت آخر تُهمة وجهتها النيابة العامة في السودان إلى البشير (75 عامًا)، بعد تُهم وُضعت في سجله القضائي عقب احتجاجات شعبية انطلقت نهاية 2018، وتتعلق بحيازة العملات الأجنبية والفساد، وأخرى تتصل بغسيل الأموال.

كسب الأموال غير المشروع، والطرق التي انتهجها البشير، أوصلته إلى ثروة تكوّن جزء منها بفعل أموال السعودية والإمارات، وذلك بحكم المصلحة السياسية التي حكمت علاقة الدولتين الخليجيتين بالرئيس السوداني قبل الإطاحة به.

وفي 11 أبريل/نيسان الماضي، أطاح الجيش بالبشير عقب 4 أشهر من الاحتجاجات الشعبية، وأودعه بزنزانة انفرادية في سجن الخرطوم، قبل أن تبدأ محاكمته في معهد العلوم القضائية والقانونية بالعاصمة، وسط إجراءات أمنية مُشددة.

 

ثروة بالمليارات

رئيس المجلس العسكري الانتقالي، الفريق الأول عبد الفتاح البرهان، أعلن بعد القبض على البشير، العثور على ما قيمته 113 مليون دولار من الأوراق النقدية بثلاث عملات مختلفة في مقر إقامة البشير.

وخلال محاكمته، قال القاضي الصادق عبد الرحمن، بصريح العبارة: “أتهمك بحيازة 6.9 ملايين يورو، و351.770 دولارًا، و5.7 ملايين جنيه سوداني”، مؤكِّدًا عدم مشروعية مصدرها وطريقة استلامها.

صحيفة “السوداني”، كشفت في 7 مايو/آيار الماضي، عن أنَّ “تحقيقات نيابة مكافحة الفساد تركزت على عقارات في مناطق راقية وأرصدة ضخمة في المصارف المحلية”، فضلًا عن المنازل التي تقطنها عائلة البشير والمكاتب التي يعملون فيها.

الصحيفة واسعة الانتشار محليًا، نقلت عن مصادر وصفتها بالموثوقة، وصول النيابة إلى استنتاج مفاده أنَّ “البشير يمتلك عددًا (لم تحدده) من العقارات في مناطق راقية بالخرطوم”.

وبالعودة إلى عام 2010، كشفت وثائق “ويكيلكس” الشهيرة، تصريحات للويس مورينو أوكامبو، مُدَّعِي المحكمة الجنائية الدولية، قال فيها إنَّ :”الرئيس السوداني اختلس مبالغ تصل إلى 9 مليارات دولار من أموال الدولة وأودعها في حسابات أجنبية”.

المليارات التسعة، وما بعدها من مبالغ تمَّ ضبطها في منزل البشير، هي جزء من ثروة قُدِّرت بنحو 31 مليار دولار أمريكي، تعود أصولها إلى حزب “المؤتمر الوطني” الذي كان يحكم البلاد برئاسة الرئيس السابق.

الصحفي السوداني عبد الرحمن عبد السلام، نقل استغراب أبناء موطنه من ثروة الرجل الذي حكمهم على مدار 3 عقود، إذ يقول: إنَّ كل الشارع يتساءل مُنذ وقت طويل عن مصدر هذه الأموال وكيف جُمعت؟.

ويرى عبد السلام أنَّ هذا السؤال “مشروع بشكل كبير”، مستدركًا: “لكنَّ الإجابة عنه تبقى غائبة، لأنَّ البلاد مُنذ أكثر من عام تعاني أزمات طاحنة جدًا، وهي السبب الرئيس في سقوط نظام البشير”.

ويعتبر أنَّ “الأموال التي تصل بطريقة مجهولة وغير شرعية فهي مشبوهة”، متسائلًا عن المبالغ التي سُرقت بطريقة غير قانونية، مقارنة بتلك المضبوطة في خزينة واحدة داخل “بيت الضيافة” (مقر إقامة الرئيس السوداني السابق).

وبعد 5 أيام من الإطاحة به، ضبطت الجهات المتخصصة في السودان مبالغ ضخمة داخل منزل البشير الذي حكم البلاد بين 1989 و2019، وهي جزء من ثروة طائلة كوّنها من مصادر معلومة وأخرى مجهولة، على مدار 30 عامًا.

 

هدايا ابن سلمان

في أولى جلسات المحاكمة التي انعقدت في 19 أغسطس/آب الماضي، أفصح البشير عن مصدر جزء كبير من أموال عثر عليها في منزله عقب اعتقاله، حيث أقرَّ باستلامه 90 مليون دولار من الرياض ومليون واحد فقط من أبوظبي.

وعاد البشير خلال جلستي 24 و31 من الشهر ذاته، إلى تأكيد اعترافاته بشأن الأموال التي وصلته من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وهذه المرة تحدَّث بشكل أوسع وأكثر تفصيلًا.

البشير أثناء استجوابه، قال: إنَّه تلقى مبلغ 25 مليون دولار من بن سلمان، “عبْر اتصال دار بين مدير مكتبه ومدير مكتبي، حاتم حسن بخيت”، وذلك عبر “طائرة خاصة”.

وفي توقيت تلقي الأموال غير المعلن، لم يكن لديه سوى خيارين، “إما أن نرفض المبلغ، أو التصرف فيه بصورة شخصية، ولم نستطع رفضه لأنَّه يسبب إحراجًا للسعودية”.

وتابع في كشف تفاصيل إخفاء الأموال: “لم نودعها لدى بنك السودان أو وزارة المالية، لأنَّ الأمير (محمد بن سلمان) لا يريد لاسمه أن يظهر، (وإذا أردنا) إيداعها في بنك السودان أو وزارة المالية علينا تحديد مصدرها”.

وبقيت هذه الأموال داخل قصره، وبدأ بصرفها “على المصلحة العامة في التبرعات والهبات”، كما استفادت منها جهات محددة أبرزها قوات الدعم السريع، وفق ما ذكر البشير في اعترافه الذي قال: إنَّه مدعوم بوثائق.

دفعتان أخريان من الأموال اعترف بحصوله عليها من الملك عبد الله بن عبد العزيز، العاهل السعودي الذي تُوفي في عام 2015، إذ وصله مبلغان مجموعهما 65 مليون دولار، دون الحديث عن تاريخ محدد.

ولا بد هنا من الإشارة إلى أنَّ الرئيس السوداني تقرَّب من السعودية، وانضم جيشه إلى تحالفها العسكري الذي تقوده بالشراكة مع الإمارات في اليمن منذ مارس/آذار 2015، مقابل “منح البشير ما يكفي حتى لا ينهار”.

 

شراء المواقف

وبصرف النظر عن مصدر الأموال، سواء من السعودية أو غيرها، لكنَّ وصولها وإرفاقها مع شرط إخفاء المصدر، يُثير شكوكًا حول الغاية من إرسالها مع الأخذ بعين الاعتبار العلاقة التي كانت تحكم بين النظام السوداني والسعودية.

وحول هذه النقطة، يُؤكِّد عبد السلام أنَّه “لا يوجد مُبرر لدفع أموال ضخمة بصورة غير شرعية، خارج الجهاز المصرفي، وحتى إذا كان صاحب المال (في إشارة إلى ابن سلمان) طلب عدم الإفصاح عن مصدرها، لكن غير قانوني ومثير للشك”.

ولم يُخفِ الصحفي السوداني شكوكه بأن يكون هناك “أمرٌ غير طبيعي وألاعيب تتعلق بشراء المواقف وبيع الوطن”. مشيرًا إلى المصالح المتشابكة التي كانت تحكم العلاقة بين السعودية والنظام السوداني.

عبد السلام يُدلل على قوله السابق بالحديث عن قانون سنَّه البرلمان السوداني، والذي “تمَّ بموجبه منح السعودية مساحة زراعية تبلغ مليون فدان لمدة 99 عامًا”. ولم يستبعد أن تكون الرياض “قد دفعت للبشير مقابل تمرير القانون”.

وفي يوليو/تموز 2016، أقرَّ البرلمان السوداني قانونًا يسمح للسعودية بزراعة وتعمير مليون فدان في المناطق الشمالية الشرقية من البلاد، مقابل ضخ الرياض نحو 10 مليارات دولار في المرحلة الأولى.

وبطريقة نقل الملكية استطاع الرئيس المعزول أن يوسع ثروته من خلال تسجيلها تحت تصرف أفراد عائلته، وأقارب من الدرجتين الأولى والثانية، على أمل إضفاء الشرعية عليها.

البشير وزَّع جزءًا من ثروته بين أشقائه وأبنائهم على شكل أراضٍ وعقارات، في مناطق إستراتيجية توزعت بين ولايتي بورتسودان والخرطوم بحري في أحياء المغتربين وكافورى والمطار والتنعيم والبلوماسي وجريف غرب وشرق كوبر

واطَّلعت “الاستقلال” على قائمة نشرتها صحيفة “ورق” السودانية في مايو/آيار 2014، تضمنت بيانات وأسماء مالكين لأكثر من 50 قطعة أرض اقتطعت من مواقع مميزة من البلاد، بمساحة تقدّر بأكثر من 4 آلاف دونم.

 

شريك السرقة

ثورة السودانيين السلمية كشفت أيضًا الغطاء عن خفايا تلاعب حزب المؤتمر الوطني بالأموال، وهو ما يتوافق مع منهج البشير في الكسب غير المشروع من مقدرات الشعب.

الحزب الذي تأسس عام 1998 برئاسة البشير، ودخل الحكم بعدها بعامين، التصق اسمه بشبهات مالية تشبه تلك التي استطاع الرئيس المعزول من خلالها تكوين ثروته الهائلة.

فأصول وممتلكات لمؤسسات وشركات واتحادات طلابية مرتبطة بالمؤتمر الوطني، اختفت في ظروف غامضة بينها سيارات تقدّر بالمليارات، فضلًا عن أجهزة حاسوب وممتلكات أخرى.

أما الوجه المشكوك في أمانته، فيتعلق بارتباط الحزب بواجهات استثمارية تستفيد من الإعفاءات الجمركية للدولة، وترغم الجهات الحكومية على التعامل معها، تحت غطاء سياسة “التمكين” التي انتهجها النظام مُنذ بداية تسعينيات القرن الماضي.

ليس ذلك وحسب، فالحزب يملك نحو 5 آلاف سيارة فارهة، 40 منها عربات دفع رباعي باهظة الثمن، إلى جانب شركات وهيئات ومؤسسات يتجاوز عددها 3 آلاف.

فضلًا عن ذلك، فإنَّه يمتلك أيضًا مقارَّ وبيوت تتجاوز 1500 مبنى، أهمها المركز العام بالخرطوم والذي تجاوزت كلفة بناء أبراجه نحو 300 مليار جنيه سوداني (50 مليون دولار).

وتجدُر الإشارة إلى أنَّ خروج الشعب السوداني عن صمته جاء بعد سنوات من تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد، إذ ازدادت حِدَّة الاحتقان في الشارع بعد أن وصل سعر الرغيف من جنيه واحد، إلى ثلاثة.

وإضافة إلى احتجاج السودانيين على عجز الحكومة عن استغلال مقدرات الدولة وتوظيفها لحل الأزمات الاقتصادية، فإنَّهم اندفعوا للشارع بسبب ندرة دقيق الخبز والسيولة النقدية، إذ حدّت المصارف من سحب المواطنين لأموالهم.

 

إلى السجن

قضية البشير تنضوي تحت مهام نيابة مكافحة الثراء الحرام والمشبوه، التي تتبع النيابة العامة بموجب قانونها لسنة 2017، وتمَّ إنشاؤها بموجب المادة الرابعة من “قانون مكافحة الثراء الحرام والمشبوه” المعدل في 1996.

وإذا ثبت استغلال البشير وظيفته العامة ونفوذه في كسب الأموال على حساب المصالح العامة، فإنَّ حكمًا بالسجن 10 سنوات ينتظره، فضلًا عن 3 أخريات تتعلق بمخالفة تنظيم النقد الأجنبي.

أما البند الذي يتعلق بأنَّ “كل مال يتمُّ الحصول عليه (من الأموال) كالهدية التي لايقبلها العرف أو الوجدان لأي موظف جانب أي شخص له أي مصلحة مرتبطة بالوظيفة العامة”، فهو ينطبق على الأموال التي حصل عليها البشير من وليِّ عهد السعودية.

وفي هذه الحالة أيضًا، فالرئيس السوداني السابق سيواجه “عقوبة الثراء الحرام والمشبوه، وهي 10 سنوات، و3 سنوات عن مخالفة قانون تنظيم النقد الأجنبي”، بحسب القاضي الصادق عبد الرحمن.