مع استمرار حرب التحالف السعودي الإماراتي على اليمن، ركّزت جماعة الحوثيين على استنزاف محطة “أرامكو” للنفط، وثبتت الوسيلة المستخدمة، عبر الطائرات المُسيّرة، لكن تطور أداء المليشيا قابله تراجع في أساليب الردع السعودي، وفتح باباً من الأسئلة حول جدوى هوس التسلح في المملكة.

وأظهر القصف الحوثي قبل أيام، لمصفاتين نفطيتين تابعتين لشركة “أرامكو” النفطية، في بقيق وخريص شرقي المملكة بـِ10 طائرات مسيرة، عجز السعودية عن وقف الخطر القادم من المليشيا رغم صفقات الأسلحة التي أبرمتها وحصلت عليها بمليارات الدولارات.

وتقتني الرياض أحدث ما تنتج المصانع العسكرية الأمريكية، خاصة مع تكرار الهجمات التي تشُنها جماعة الحوثي باستخدام طائرات مسيرة أو صواريخ أرض أرض، واختراقها الدفاعات السعودية والوصول لأهدافها.

 

صفقات بالمليارات

تُعد أمريكا الدولة الأولى في العالم بيعاً للسلاح إلى السعودية، حيث بلغ حجم صادراتها من السلاح إلى الرياض، من 2015 وحتى 2017، أكثر من 43 مليار دولار، وشملت معدات وأسلحة عسكرية ومروحيات وسفناً حربية ودبابات “آبراهامز”، إضافة إلى طائرات حربية.

وفي مايو/أيار 2017، زار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الرياض، وقال إنه تم عقد اتفاقيات وصفقات تتجاوز قيمتها 400 مليار دولار بين الولايات المتحدة والسعودية.

وتُشير دراسة لمركز خدمة أبحاث الكونجرس إلى أن أهم تلك الصفقات: 7 بطاريات دفاع جوي من طراز ثاد قيمتها 13.5 مليار دولار، 104 قذائف يتم إسقاطها من الجو من نوع GBU-10 قيمتها الإجمالية 4.46 مليارات دولار، دعم متكرر وتقوية لبطاريات منظومة الدفاع الجوي من طراز باتريوت بقيمة 6.65 مليارات دولار.

ومن تلك الصفقات أيضاً: 23 طائرة نقل عسكري من طراز C-130J إضافة لبرامج صيانة ودعم، 8 طائرات من طراز F-15 تبلغ قيمتها 6.36 مليارات دولار، فرقاطة تصنعها شركة لوكهيد مارتن لصالح القوات البحرية السعودية قيمتها 6 مليارات دولار، قنابل ذكية بقيمة 7 مليارات دولار.

أين الخلل؟

يرى مراقبون أن الخطأ في مواجهة الحوثيين، ربما لا يكمُن في نقص الأموال اللازمة للتأمين ولا السلاح القادر على المواجهة وصد الهجمات، بقدر ما يتركز الخلل على العقلية المتحكمة في القرار السياسي والإستراتيجي بالسعودية.

لكن يتحدث البعض عن جانب أكثر خطورة لهذه المعضلة، ويتمثل بالتشكيك أصلاً في القدرات العسكرية للقوات المسلحة السعودية، على مستوى الاستخدام وليس التجهيز

وكانت آخر صور التهكم على السعودية بسبب عجز أجهزتها العسكرية وأسلحة الدفاع الجوية الأمريكية التي تمتلكها عن صد الهجمات الحوثية، هو عرض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الرياض شراء الأسلحة الروسية.

وأثناء الحديث عن العرض الروسي خلال قمة في أنقرة جمعت أيضاً الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، دخل الرئيس الإيراني حسن روحاني، ووزير خارجيته محمد جواد ظريف، في نوبة ضحك، استهزاءً بالمملكة وعدم قدرتها على حماية نفسها، وتلقيها العروض الخارجية، في وقت تواجه طهران اتهامات بدعم الحوثيين بالأسلحة.

وأضاف بوتين: “سيكون كافياً أن تتخذ القيادة السعودية قراراً حكومياً حكيماً، كما فعل قادة إيران، بشراء منظومة إس-300 والرئيس أردوغان بشرائه منظومة إس-400 للدفاع الجوي من روسيا، حينها سيكون بإمكانهم حماية أي منشأة في السعودية”.

 

اتهام وابتزاز

وفي 18 سبتمبر/ أيلول الجاري، عقدت وزارة الدفاع السعودية، مؤتمرا صحفيا، عرضت فيه حطاما قالت إنه “أدلة تشير إلى دور إيراني في الهجوم على المنشآت النفطية بالمملكة” السبت الماضي.

وقال المتحدث باسم وزارة الدفاع السعودية العقيد تركي المالكي، إن “البيانات المتوفرة لدى المملكة، تظهر استحالة انطلاق الهجوم من اليمن”، في إشارة إلى إعلان الحوثيين مسؤوليتهم عن الهجوم.

وأشار المتحدث، إلى أن التحقيقات أظهرت أن الهجوم على أرامكو، جاء من جهة الشمال، مشددا على أن الهجوم “كان بلا شك برعاية إيران”، لافتا إلى استمرار التحقيقات، لتحديد مكان انطلاق الهجوم بدقة.

في غضون ذلك، أكد وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، الرواية السعودية، خلال زيارته للمملكة، لإجراء مباحثات مع المسؤولين السعوديين، بشأن خيارات الرد على الهجوم، كما أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أنه “يدرس خيارات عديدة، للتعامل مع إيران”، مشيرا إلى أنه |سيفرض عقوبات إضافية عليها”.

وعليه فإن المؤشرات كلها تتجه إلى النتيجة ذاتها، ويبقى الخلاف فقط على المكان الذي انطلقت منها الصواريخ والطائرات المسيرة التي ضربت منشأتي أرامكو.

هذا الجدل يعود بالذاكرة إلى شهر مايو/أيار 2017، عندما كان تحدث ولي العهد محمد بن سلمان في أحد البرامج عن الخطر الذي يمثله المشروع الإيراني على بلاده، وموقفه من طهران.

ابن سلمان قال حينها نصاً: “المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين، لُدغنا مرة، المرة الثانية لن نلدغ، ونعرف إن إحنا هدف رئيسي للنظام الإيراني، الوصول لقبلة المسلمين هدف رئيسي للنظام الإيراني، لن نصبر حتى تصبح المعركة في السعودية، بل سوف نعمل كي تكون المعركة لديهم في إيران”.

اليوم وبعد نحو عامين ونصف من تلك التصريحات النارية، التي وُصفت بالأكثر عدائية من جانب ابن سلمان، لم تنتقل المعركة بين الطرفين إلى الداخل الإيراني كما تعهد الأمير الشاب، بل وصلت إلى عمق بلاده.

لكن شهية ترامب المتعطش دوماً للمزيد لم تكتفِ بذلك، وبدا في التلويح بابتزاز جديد، يسعى من خلاله إلى استنزاف المزيد من الأموال السعودية، تحت لافتة الانتقام من إيران.

فبعد يوم واحد من الهجمات لوّح بتوجيه ضربة عسكرية، وكتب في تغريدة عبر حسابه على تويتر: “تعرضت إمدادات النفط السعودية لاعتداء، وهناك سبب للاعتقاد بأننا نعرف الجاني. متأهبون للرد اعتماداً على (نتائج) التحقيق. ننتظر أن نسمع من المملكة عمن يعتقدون أنه سبب هذا الهجوم. تحت أي ظرف سنمضي قدماً”.

بعدها بيوم، قال ترامب للصحفيين في البيت الأبيض إنه يبدو أن إيران هي المسؤولة إلا أنه يرغب “بكل تأكيد” في تجنب الحرب معها مع أن بلاده تملك “أقوى جيش في العالم”، معتبراً أن الدبلوماسية لا تستنفد أبداً عندما يتعلق الأمر بإيران.

وأضاف ترامب: “أعتقد أن جزءاً كبيراً من المسؤولية يقع على السعودية في الدفاع عن نفسها، وإذا كانت هناك حماية منا للسعودية فإنه يقع على عاتقها أيضاً أن تدفع قدراً كبيراً من المال، أعتقد أيضاً أن السعوديين يجب أن تكون لهم مساهمة كبيرة إذا ما قررنا اتخاذ أي إجراء، عليهم أن يدفعوا، هم يفهمون ذلك جيداً”.

 

خسائر بالجملة

بالعودة إلى تداعيات الهجوم على المنشآت النفطية السعودية ورغم عدم وجود إحصائية رسمية محددة عن حجم خسائر أرامكو، فإن مراقبين قدروا أن الشركة ستتكبد خسائر يومية تقدر بـِ 400 مليون دولار يومياً.

ونقلت وكالة “رويترز” عن مصدرين مطلعين على عمليات أرامكو التي تمد العالم بنحو 10% من احتياجاته النفطية، أن عودة الشركة بالكامل إلى إنتاج النفط بكميات طبيعية “ربما تستغرق عدة أشهر”.

وارتفعت أسعار النفط بشكل كبير لم تشهد له مثيلاً منذ عام 1991، وقال المحلل الاقتصادي نيل ويلسون إن هذا التطور الأمني الخطير يمكن أن يهز ثقة المستثمرين مع اقتراب موعد طرح جزء من أسهم شركة أرامكو للاكتتاب العام.

وقال تقرير لوكالة الأنباء الفرنسية إن أي ارتفاع في سعر برميل النفط سيصيب الاقتصاد العالمي بالضرر، لأنه سينعكس سلباً على القدرات الشرائية للمستهلكين.

واعترفت الخارجية السعودية، في بيان لها، بأن الهجوم نتج عنه توقف 50 % من إنتاج شركة أرامكو والبالغ نحو 12 مليون برميل يومياً، فيما قال مصدر إن صادرات السعودية من الخام ستستمر كالمعتاد هذا الأسبوع مع استعانة المملكة بالمخزونات المودعة في منشآت التخزين الكبيرة لديها.

هجوم أرامكو أدى إلى لجوء السعودية للأسواق الدولية لاستيراد منتجات النفط المكررة، حيث طلبت وحدة التجارة التابعة لشركة أرامكو منتجات نفط للتسليم الفوري، كما اشترت شحنتين من وقود الديزل.

في السياق ذاته، أظهرت بيانات تتبع السفن أن 11 ناقلة نفط عملاقة تتكدس في الموانئ السعودية في انتظار تحميل شحنات النفط الخام، بموانئ رأس تنورة والجعيمة على الخليج.

المفارقة المثيرة أن تحول السعودية بسبب الهجوم إلى مستورد للنفط، يأتي قُبيل أشهر من حلول الموعد الذي تعهّد فيه محمد بن سلمان، بانتهاء عصر اعتماد المملكة على النفط، حينما كان وليًا لولي العهد.

ففي حواره التلفزيوني الأول عقِب تعيينه بمنصبه في أبريل/نيسان 2016، قال إنه بحلول عام 2020 فإن السعودية قادرة على أن تعيش بدون نفط، وذلك وفقاً لرؤية 2030 التي طرحها للتنمية في البلاد.

ليس هذا فحسب، بل إنه وبحسب تقديرات مراقبين، فإن الهجمات حطمت تعهُداً آخر من تعهدات ابن سلمان وهو المتعلق بطرح اكتتاب شركة أرامكو في الأسواق العالمية.

ولي العهد قال في حوار مع صحيفة “الشرق الأوسط” في يونيو/حزيان الماضي: “نحن ملتزمون بالطرح الأولي العام لأرامكو السعودية، وفق الظروف الملائمة، وفي الوقت المناسب.. وأتوقع أن يكون ذلك بين عام 2020 وبداية عام 2021، بإذن الله، وتحديد مكان الطرح سابق لأوانه”.

 

تاريخ في مهب الريح

منذ بداياتها في عام 1938 عندما تم اكتشاف النفط بكميات تجارية من “بئر الخير”، حققت شركة النفط السعودية العملاقة (أرامكو) ثروات تفوق الخيال للمملكة، ونمت الشركة منذ ذلك الحين لتُصبح أكبر شركة طاقة وأكثرها ربحية في العالم حيث أنها توفر 10 % من إمدادات النفط عالمياً وتعود على المملكة بترليونات الدولارات.

يعود تاريخ أرامكو إلى عام 1933 عندما تم إبرام اتفاقية الامتياز بين الحكومة السعودية وشركة ستاندرد اويل أوف كاليفورنيا (سوكال) حينها، وبدأت أعمار حفر الآبار عام 1935، فيما بدأ إنتاج النفط بكميات تجارية بعد ذلك بثلاث سنوات.

ويعود اسمها الحالي إلى شركة متفرعة تم إنشاؤها في الأربعينيات لإدارة الاتفاق أطلق عليها اسم “شركة الزيت العربية الأمريكية”.

وفي عام 1949 بلغ إنتاج النفط 500 ألف برميل يومياً، وفي عام 1950 أنجزت أرامكو خط أنابيب “تابلاين” عبر البلاد العربية بطول 1212 كلم لتصدير النفط السعودي إلى أوروبا عبر البحر المتوسط.

وارتفع الإنتاج بشكل سريع بعد اكتشاف آبار نفط برية وبحرية هائلة بينها حقل الغوار الذي يُعتبر الأكبر في العالم، حيث يبلغ حجم احتياطه قرابة 60 مليار برميل، وحقل السفانية الذي يُعتبر أكبر حقل بحري في العالم مع احتياطي قدره 35 مليار برميل.

وفي عام 1973، استحوذت الحكومة السعودية على 25 % من شركة أرامكو لزيادة حصتها إلى 60 % لتُصبح أكبر شريك في المؤسسة، وشهدت أسعار النفط حينها ارتفاعا كبيراً في ذروة حظر النفط الذي تم فرضه ضد الولايات المتحدة بسبب سياستها الداعمة لإسرائيل.

وبعد 7 سنوات قامت الحكومة بتأميم الشركة، ليصبح اسمها عام 1988 شركة الزيت العربية السعودية (أرامكو السعودية)، وفي عام 2015 فُصلت الشركة إدارياً عن وزارة النفط وتشكل لها مجلس أعلى برئاسة ولي ولي العهد آنذاك الأمير محمد بن سلمان وقال المجلس إن هذا التغيير من شأنه إعطاء المزيد من الاستقلال لأرامكو.

وابتداء من التسعينيات استثمرت أرامكو مليارات الدولارات في مشاريع التوسع الضخمة ورفعت القدرة الإنتاجية إلى أكثر من 12 مليون برميل يومياً إضافة إلى القيام بعمليات استحواذ عالمية ومشاريع مشتركة.

وحالياً، لدى أرامكو نحو 260 مليار برميل من احتياطي مؤكد، الثاني في العالم بعد فنزويلا، إضافة الى 300 ترليون قدم مكعب من الغاز.

ويقع مقر الشركة في الظهران بالمنطقة الشرقية، ولديها عمليات نفطية رئيسية في الولايات المتحدة والصين والهند وكوريا الجنوبية والعديد من الدول الأوروبية والآسيوية.

تبيع أرامكو أكثر من عشرة ملايين برميل من النفط يومياً، وهو ما يعادل ثلاثة أضعاف إنتاج أكبر شركة نفطية مدرجة في البورصة بالعالم وهي اكسون موبيل.

قدرت السعودية قيمتها بنحو تريليوني دولار لكن الخبير الاقتصادي ستيفن كلافام يقدر عوائد أرامكو السنوية بـ 185 مليار دولار، وهذا يعني أنه لو كانت قيمة الشركة 2 تريليون دولار فهذا يساوي أكثر من 10 أضعاف عائدها السنوي، وهو شيء مألوف في حال شركات التكنولوجيا فقط.

وشيّدت أرامكو كذلك شبكة من أنابيب النفط والمصافي داخل المملكة وخارجها ووسعت وجودها في قطاع البتروكيماويات.

وفي أبريل/نيسان الماضي فتحت أرامكو سجلاتها للمرة الأولى معلنة عن تحقيق أرباح صافية في 2018 بلغت 111 مليار دولار، أي بارتفاع بنسبة 46 % عن العام الذي سبقه، كما حققت عائدات بمقدار 356 مليار دولار.