“عقلية التاجر” التي تفكر بالربح الأكبر بطرق مختلفة وإن كانت من خلال التحايل على القوانين، السمة البارزة التي تميز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وفق ما يجتمع عليه مختصون بالشأن السياسي من دول مختلفة وهم يتحدثون حول تصريحات ترامب، منذ أن كان يخوض التنافس الدعائي أمام غريمته الديمقراطية هيلاري كلينتون لرئاسة البيت الأبيض.

عقلية التاجر تحققت بالفعل حين تم تنصيب ترامب رئيساً للولايات المتحدة، منذ مطلع 2017، إذ دشن جولاته الدولية بزيارة السعودية، وأعلن عن ربح مالي وفير جناه في رحلته الرئاسية الأولى.

ثم تلت القرارات والتصريحات التي تجسد عقلية التاجر في مواقف دولية أخرى؛ أبرزها مع الصين وتركيا، حيث كانت ضرباته السياسية توجَّه ضد اقتصادات الدول الأخرى سعياً لتحقيق مكسب سياسي لا يخلو من مكاسب مالية.

لكن عقلية التاجر يبدو أنها وجدت في السعودية سوقاً للربح أكثر من بقية الدول، فمئات مليارات الدولارت التي أعلن ترامب الحصول عليها من هذا البلد الخليجي؛ في مقابل شراء الأسلحة، لم تكن كافية ليترك المملكة دون أن يستمر في استغلالها لتحقيق أرباح أخرى.

وكان من البديهي أن يقطع الرئيس الأمريكي صلته بالرياض ويتوقف عن دعمها؛ للحفاظ على سمعته ومنصبه بعد الحملة التي شنها مشرعون أمريكيون في الكونغرس، فضلاً عن منظمات حقوقية، والجميع كانوا يطالبون بمحاسبة ترامب على ما يصفونها بـ”جرائم السعودية” التي ترتكب في اليمن، بالإضافة إلى جريمة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي.

لكن ترامب كان دائماً يتحدث عن أموال السعودية وأن هذه الأموال يمكن أن تنعش اقتصاد بلاده، معتبراً أن هذا الربح يكفي للتغاضي عن جرائم حكومة الرياض.

وعلى الرغم من أن نسبة كبيرة من أعضاء الكونغرس الأمريكي صوتوا لصالح قرار إيقاف دعم السعودية العسكري، لكنهم فشلوا في إبطال فيتو ترامب ضد هذا القرار، مطلع يونيو الماضي.

وفي الشهر نفسه اتخذت إدارة ترامب مساراً استثنائياً بتجاوز موافقة الكونغرس على إبرام صفقات بيع أسلحة للسعودية تفوق قيمتها ثمانية مليارات دولار.

وتمكن الكونغرس من خلال الضغط من تخفيف دعم واشنطن للرياض، لا سيما أن الكونغرس صدّق، في يوليو الماضي، بأغلبية بسيطة على قرارات حظر بيع الأسلحة، في خطوة شكلت صفعة لإدارة ترامب.

ويعتبر مراقبون أن صفقات الأسلحة ستفاقم الحرب في اليمن، حيث تقود السعودية تحالفاً تدعمه الولايات المتحدة ضد الحوثيين المدعومين من إيران، وهي حرب -وفق الأمم المتحدة- تسببت بأسوأ أزمة إنسانية في العالم.

 

عقلية التاجر تجد الحجج

توجه الكونغرس هذا لا يروق للرئيس ترامب الباحث باستمرار عن الربح، ويرى في السعودية سوقاً تجارية مربحة لا يمكن تركها، وعليه كان يجب الالتفاف على تشريعات الكونغرس.

ذلك كان مكشوفاً لمن اطلعوا على عقلية التاجر التي يفكر بها الرئيس دونالد ترامب، حيث كشف سيناتور أمريكي، في مايو الماضي، عن اعتزام ترامب استخدام ثغرة قانونية لبيع الأسلحة للسعودية، على الرغم من إيقاف الكونغرس هذه المبيعات عدة أشهر بسبب المخاوف من مقتل مدنيين في حرب اليمن.

وقال السيناتور الأمريكي، كريس ميرفي، في سلسلة تغريدات له بـ”تويتر”: إنه “تنامى إلى مسامعي أن ترامب قد يستخدم ثغرة غامضة في قانون الحد من مبيعات الأسلحة لتدشين عملية بيع قنابل إلى المملكة العربية السعودية (تلك التي تلقيها على اليمن) بطريقة لا تسمح للكونغرس بالاعتراض. قد يحدث ذلك هذا الأسبوع”.

وقال مساعدون في الكونغرس إن هناك بنوداً في قانون الحد من مبيعات الأسلحة، الذي يضع قواعد معاملات الأسلحة الدولية، تسمح للرئيس الأمريكي بالموافقة على البيع دون الرجوع للكونغرس في حالة الطوارئ الوطنية.

وأضافوا أنه في هذه الحالة سيتحدث الرئيس الجمهوري عن التوترات المتزايدة مع إيران كسبب لتقديم المزيد من المعدات العسكرية للسعودية، التي يعتبرها شريكاً مهماً لواشنطن في المنطقة.

 

التاجر يعلن ربح صفقته

الجمعة (11 أكتوبر الجاري)، أعلن الرئيس الأمريكي موافقة السعودية على الدفع مقابل كل ما تفعله بلاده، وذلك في تصريح جاء عقب إعلان إرسال قوات أمريكية إلى المملكة لمواجهة التهديدات الإيرانية، حيث قال: “نحن نرسل المزيد من القوات إلى المملكة العربية السعودية، المملكة حليف جيد ونتفق معهم جيداً، وهم لاعب مهم في الشرق الأوسط”.

وأضاف: “علاقاتنا جيدة جداً (بالسعودية)، ويشترون بمئات المليارات من الدولارات بضائع منا وليس فقط معدات عسكرية”، مشيراً إلى أن تكلفة “المعدات العسكرية (التي تشتريها الرياض) تبلغ نحو 110 مليارات دولار، وهذا يعني الملايين من الوظائف”.

وتابع ترامب قائلاً: “نحن سنرسل قوات وأشياء أخرى إلى الشرق الأوسط لمساعدة المملكة العربية السعودية، ولكن هل أنتم مستعدون؟ المملكة العربية السعودية وبناء على طلبي وافقت على الدفع مقابل كل ما نفعله، وهذه سابقة”.

جاء إعلان ترامب هذا بعد ساعات من إعلان وزير الدفاع الأمريكي، مارك إسبر، أن بلاده ستنشر 3 آلاف جندي أمريكي في السعودية، ومنصات صواريخ باتريوت، فضلاً عن طائرات مقاتلة وقطع بحرية.

واتهم الوزير الأمريكي، في مؤتمر صحفي، إيران بالوقوف وراء الهجمات التي استهدفت أرامكو، وقال: “إن الإيرانيين هم المسؤولون عن هجوم أرامكو بدون شك، وهناك أدلة على ضلوع طهران”.

واعتبر أن السعودية “شريك مهم لنا في المنطقة، ونحن ملتزمون بحماية شركائنا”، لكنه استطرد قائلاً إن بلاده “لا تسعى للصراع مع النظام الإيراني، لكننا نحتفظ بقدرات للرد على أي تهديدات”.

وقبل المؤتمر الصحفي ذكر المتحدث باسم البنتاغون، جوناثان هوفمان، أن وزير الدفاع، مارك إسبر، أقر نشر القوات الإضافية التي تشمل سربين من الطائرات المقاتلة، وبطاريتين من طراز باتريوت، فضلاً عن منظومة ثاد الدفاعية.

 

الحروب سوق السلاح المربح

لم تعلن السعودية أيّ تكلفة لعملياتها العسكرية في اليمن، لكن تقارير دولية وخليجية تناولت هذه التكلفة بأرقام متفاوتة.

مجلة “فوربس” الأمريكية قالت، بعد 6 أشهر من اندلاع الحرب، إن تكلفة الأشهر الستة بلغت نحو 725 مليار دولار، أي إن التكلفة الشهرية تصل إلى 120 مليار دولار.

تقدير آخر جاء في دراسة نشرتها جامعة هارفارد الأمريكية، أشار إلى أن تكلفة الحرب تصل إلى 200 مليون دولار في اليوم الواحد.

أما صحيفة “الرياض” السعودية فقدَّرت أيضاً، في تقرير سابق لها، تكلفة تشغيل الطائرات السعودية المشارِكة في الحرب بنحو 230 مليون دولار شهرياً، متضمّنة تشغيل الطائرات والذخائر المستخدمة والاحتياطية، وثمن قطع الغيار كافة والصيانة وغيرها.

من جانبه قدّر موقع “دويتشه فيله” الألماني تكلفة تشغيل الطائرات السعودية المشارِكة في الحرب، ويبلغ عددها 100 طائرة، بمبلغ 175 مليون دولار شهرياً.

وفي ظل هذه الأرقام التي يصعب إيجاد مقاربة بينها وبين التكلفة الحقيقية، لكن يمكن قياس العمليات السعودية في اليمن على أخرى شبيهة نُفِّذت خلال السنوات القليلة الماضية، وكانت تكلفتها معلنة.

ومعظم تكلفة الحرب في الحالة اليمنية يستهلكها سلاح الجوّ، فالتحالف الذي تقوده السعودية لم يتدخَّل في اليمن برّياً حتى الآن.

وأشار المتحدث السابق باسم التحالف، اللواء أحمد عسيري، في تصريحات أدلى بها لصحيفة “التايمز” الأمريكية، إلى أن عدد الطلعات الجوية التي نفّذها طيران التحالف في سماء اليمن بلغ أكثر من 90 ألفاً.

واعتماداً على هذا الرقم، وقياساً على تكلفة الطلعة الجوية الواحدة للطائرات الأمريكية المشارِكة في الحرب ضد تنظيم “الدولة” في سوريا والعراق، التي تُقدّر بـ84 ألف دولار إلى 104 آلاف دولار، فإن التحالف أنفق على الضربات الجوية في اليمن خلال عامين 7 مليارات و560 مليون دولار، إلى 9 مليارات و360 مليون دولار.

ووفق تقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، في 15 سبتمبر 2014، فإن تكلفة الطلعة الجوية لطائرة أمريكية واحدة من قاعدة إنجرليك الجوية في تركيا، لقصف أهداف “داعش” شمالي العراق، تُقدّر بما بين 84 ألفاً و104 آلاف دولار، بما يشمل ثمن القنابل والوقود والتكاليف التشغيلية كافة.

تلك الأرقام تؤكد أن السعودية أنفقت عشرات مليارات الدولارات منذ عام 2015 في حربها باليمن، وتشير التقارير إلى أن الولايات المتحدة كانت المصدر الأكبر للسلاح للسعودية.

في حين تؤكد صحيفة “ميدل ايست آي” البريطانية، في تقرير موسع نشرته في أبريل الماضي، أنه منذ اندلاع حرب اليمن أبرمت الولايات المتحدة الأمريكية صفقات مع السعودية والإمارات لا تقل قيمتها عن 68.2 مليار دولار، شملت الأسلحة النارية والقنابل وأنظمة الأسلحة والتدريب العسكري.

 

السعودية أكبر سوق للأسلحة الأمريكية

في مارس الماضي، ذكر معهد ستوكهولم لأبحاث السلام أن السعودية جاءت كأكبر مستورد للأسلحة في العالم؛ خلال الفترة بين 2014 و2018.

وأشار المعهد إلى أن الولايات المتحدة تصدرت الدول في حجم بيع الأسلحة، مبينة أنها باعت أسلحة لما لا يقل عن 98 دولة، أكثر بكثير من أي مورد رئيسي آخر، تضمنت “أسلحة متقدمة؛ مثل الطائرات المقاتلة، والصواريخ قصيرة المدى، والصواريخ الباليستية، وعدد كبير من القنابل الموجهة”.

وبحسب التقرير، ذهب أكثر من نصف المبيعات الأمريكية إلى منطقة الشرق الأوسط؛ حيث حصلت المملكة العربية السعودية وحدها على 22% من إجمالي المبيعات الأمريكية، ما يجعلها السوق الأكثر أهمية بالنسبة لأمريكا.

وكانت المملكة العربية السعودية أكبر مستورد للأسلحة في العالم خلال هذه الفترة، حيث استحوذت على 12% من الواردات العالمية.

عشرات المليارات تلك التي تنفقها السعودية على شراء السلاح هي ما دفع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إلى بذل مجهود كبير تحمّل في سبيله سيل الاتهامات من قبل الكونغرس ليبيع أكبر كمية من السلاح لهذا البلد.

وهو ما دعاه إلى الانزواء خلف حجة الخطر الإيراني الذي يجب مواجهته من خلال وجود قوة عسكرية أمريكية كبيرة في منطقة الخليج، ولا ضير في هذا بالنسبة إليه ما دامت السعودية توافق على دفع كل تكاليف هذه القوات.

فضلاً عن هذا فإن النسبة الكبرى من صفقات السلاح ستكون من نصيب الولايات المتحدة؛ وهو ما يحقق شعار عقلية التاجر الذي يدير البيت الأبيض: “وظائف وظائف وظائف”.