عندما صحا العالم صبيحة الـ 23 من يناير/كانون الثاني 2015، كان الخبر الأكثر تصدرا بوسائل الإعلام الدولية: سلمان بن عبد العزيز يُتوج ملكا للسعودية ويصدر قرارات مهمة بينها تعيين ابنه ذي الـ 29 عاما وزيرا للدفاع.

يومها كان الأمير محمد بن سلمان وافدا على عالم السياسة، إذ يحمل شهادة بالقانون الخاص وسبق أن عمل في شركات تجارية، ولم يمض على التحاقه بالديوان الملكي سوى بضعة أشهر.
وبينما كانت مراكز صنع القرار الدولي تتحرى المعلومات عن وزير الدفاع الصغير، ظهر الأمير محمد يمسك بيده علبة كبريت وما إن يضرم النار في منطقة حتى يشعلها في منطقة أخرى أكثر خطرا وأوسع نطاقا.

يوم الـ 26 من مارس/آذار 2015 شن بن سلمان عاصفة الحزم ضد جماعة الحوثي في اليمن، لتتحول إلى حرب مدمرة أودت بحياة عشرات الآلاف ودمرت مدنا شيدت قبل مئات السنين.

وصبيحة الـ 29 من أبريل/نيسان من ذات العام، بدأ الأمير الشاب رحلته على متن قطار السلطة متجها نحو العرش، فصدر مرسوم جديد بتعيينه وليا لولي العهد.

ومن منصبه الجديد، أصبح بن سلمان يدير حربين: خارجية ضد اليمن، وداخلية ضد استقرار المملكة السعودية، معتمدا على توجيهات من ولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد، وفق العديد من التسريبات.

وعندما وصل الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مطلع عام 2017، أطمان الأمير الشاب إلى مستقبله السياسي وأوحت إليه ذاته بأن ضخ المال في خزائن واشنطن سيمده بالقوة لإشعال المزيد من الحرائق وسحق كل من يعترض طريقه إلى التتويج ملكا لدولة تنتج يوميا 11 مليون برميل نفط.

واصل بن سلمان صب الجحيم على اليمن. وبعد أن كان يعتزم طرد الحوثيين من صنعاء، استنجد بالسودانيين لحماية السعودية من الحوثيين الذين يمطرون نجران بالقذائف وتصل صواريخهم إلى العاصمة الرياض.

حرق الخليج
وفي الخامس من يونيو/حزيران 2017 أضرم الأمير النار في مجلس التعاون الخليجي فأعلن القطيعة مع قطر وحاصرها برا وبحرا وجوا، وسارت في ركبه مصر والبحرين والإمارات.

وبالتوازي مع جبهتي قطر واليمن، هوى بمعول الهدم على البيت السعودي في الـ 21 من ذات الشهر، فانقلب فجرا على ابن عمه -الضليع في شؤون الأمن- ولي العهد ووزير الداخلية حينها الأمير محمد بن نايف.

وبعد أن أصبح وليا للعهد، شن بن سلمان حملة اعتقالات ضد العديد من الأمراء بتهمة ضلوعهم في الفساد بينما تقول التقارير إنه أطاح بهم وأذلهم لكونهم يمثلون تهديدا لطموحه في اعتلاء العرش.

كان ذلك مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2017. وفي ذات التاريخ أيضا احتجز رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري الذي قيل إنه تعرض للتعذيب وأُجبر على الاستقالة من منصبه، مما أدخل السعودية في أزمة قوية مع لبنان.

ولم تنته الأزمة إلا عندما غضب رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون وحطت طائرته بالرياض، وحينها أطلق بن سلمان سراح الحريري وتبرع بمئة مليون دولار لقوات الساحل التي تشرف عليها باريس.

انشغل بن سلمان بالشأن الداخلي من أجل تعزيز نفوذه بينما ترك لقواته مهمة إمطار اليمن بالقذائف، وللجيش السوداني مسؤولية تأمين المملكة من توغل الحوثيين.

ولما يزيد على ثلاث سنوات أطبقت السعودية الحصار على اليمن، فتفشى الجوع وأدت الكوليرا وحدها لوفاة حوالي ثلاثة آلاف معظمهم من النساء والأطفال.

وحينما بدأت سياسات وزير الدفاع وولي العهد تثير استياء السعوديين، قرر تحييد أبرز المفكرين والناشطين عن المشهد، فزج بهم في السجون خوفا من أن يقولوا لمواطنيهم: هذا الأمير نزق ويوشك أن يحرق بلاد الحرمين.

إسرائيل والسينما
وحسب تقارير عربية وغربية، فإن بن سلمان كان يستهتر بكل هذه المخاطر ويعتمد على ثلاث ضمانات: تقربه من إسرائيل، سخاؤه المالي تجاه ترامب، إجراءاته الانفتاحية الجديدة بالمملكة من قبيل افتتاح دور السينما والسماح للمرأة بقيادة السيارة وتنظيم الحفلات الموسيقية.

وفي مناسبات عديدة، تمكنت الرياض من إجهاض قرارات أممية صيغت لإدانتها في اليمن وفرضت منطقها على المبعوثين الدوليين، رغم تسبب الحرب والجوع في موت أكثر من 85 ألف طفل يمني تحت سن الخامسة.

وفي مارس/آذار الماضي، جاب بن سلمان عواصم الغرب، فاحتفت به باريس ولندن ثم حل ضيفا على واشنطن وصورته الكاميرات منكسرا بينما يطْلعه سيد البيت الأبيض على أسعار بعض الأسلحة، ويخاطبه قائلا: أنتم أثرياء جدا. بالنسبة لكم هذا مجرد فتات.

وفي هذه الرحلة، التقى الأمير الشاب بقادة اللوبي اليهودي وأكد لهم عزمه توطيد العلاقات مع الدولة التي تقوم على أرض عربية مغتصبة وتقتل الفلسطينيين يوميا وتمنع عنهم الغذاء والدواء.

ووفق تسريبات فإن بن سلمان خاطب قادة اليهود في نيويورك قائلا “أولويتنا إيران وليست القضية الفلسطينية. الفلسطينيون أضاعوا الكثير من الفرص وعليهم قبول ما يعرض عليهم. وإلا فليصمتوا ويتوقفوا عن التذمر”.

وخلال وجوده في الولايات المتحدة، نشطت شركات الدعاية في تغييب محنة اليمن عن الأضواء وركزت على تجميل وجه الأمير الشاب ببعض المساحيق من قبيل الانفتاح ودور السينما والحفلات الموسيقية.

لكن بن سلمان لم يحسن استخدام الماكياج، وقد شاهده العالم على هيئته بدون رتوش عندما أوقد نارا جديدة في تركيا فجرح كبرياء الرئيس رجب طيب أردوغان وتورّط في خصومة أبدية مع صحيفة واشنطن بوست.

في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، دخل الصحفي السعودي جمال خاشقجي قنصلية بلاده في إسطنبول للحصول على وثيقة لإتمام زواجه من امرأة تركية كانت تنتظره بالخارج.

لم يعد جمال، وأنّى له ذلك، فقد وجد أمامه فريقا أمنيا من أصدقاء بن سلمان، وبعد أن أوسعوه شتما وضربا قتلوه وقطعوا جثته على أنغام الموسيقى ثم تخلصوا منها.

وبعد إنكار لأسابيع، اعترفت السعودية بالجريمة وتقطيع الجثة، لكنها أنكرت ضلوع الأمير الشاب في القضية وأعلنت اعتقال عدة أشخاص قالت إنهم “قدحوا من رؤوسهم” عندما قطّعوا صحفيا ستينيا يكتب في واشنطن بوست ويتحدث للقنوات المؤثرة من قبيل الجزيرة وبي بي سي وسي أن أن.

الجراحة التجميلية
ولأن إنكار الرياض ودفاع ترامب لم يقنعا الكونغرس ولم يجبرا كبرياء أردوغان، أدرك كفلاء بن سلمان أن المساحيق لم تعد مجدية وأنه لا مناص من إخضاعه لجراحة تجميلية تحوله من مجرم حرب إلى بطل سلام.

وعلى نحو سريع، بدأ بن سلمان يبحث عن مخرج من حرب اليمن لغسل يديه من دماء الأطفال في مدارس الحديدة وصنعاء وصعدة ومدن أخرى، ومن تبعات قصف المستشفيات وصالات الأفراح ومجالس العزاء.

وفي الخميس الماضي، توصل طرفا الصراع إلى وقف لإطلاق النار في الحديدة المطلة على البحر الأحمر، بعد محادثات استمرت أسبوعا في مدينة ستوكهولم السويدية برعاية الأمم المتحدة.

وتعليقا على الاتفاق، قال المسؤول الأممي فرحان حق إن الأمين العام أنطونيو غوتيريش شعر بأن دور ولي السعودي كان مهما في التوصل للاتفاق، وإن الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي أيضا لعب دورا مهما في هذا الإطار.

وعلى الفور حاول السعوديون تحويل الاتفاق إلى نصر يتوج محمد بن سلمان بطلا للسلام، بينما لا يزال تقطيع جثة خاشقجي يتفاعل في وسائل الإعلام ويثير مخاوف زعماء العالم إزاء مستقبل أكبر بلد مصدر للنفط على مستوى العالم.

وفي حسابه على تويتر، كتب وزير الخارجية السعودي عادل الجبير “المملكة بقيادة سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وسيدي سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان يحفظهما الله سعت للوصول إلى الحل السياسي المستند إلى المرجعيات الثلاث وعلى رأسها قرار مجلس الأمن 2216”.

ومن جانبه، رأى الكاتب السعودي عبد الرحمن الراشد أن المكاسب الميدانية للقوات المدعومة من السعودية والإمارات أجبرت الحوثي على القبول بالتفاوض وتوقيع وقف إطلاق النار.

تفنيد وتهكم
لكن المفكر الكويتي عبد الله النفيسي سارع إلى تأكيد زيف هذا الطرح بالقول “الحوثي لم يتراجع قيد أنملة عن صلفه: مطار صنعاء له وميناء الحديّدة له وانقلابه مشروع فلماذا هذا الاحتفاء بمفاوضات السويد؟ هذه غواية وليست مفاوضات”.

أما اليمني عبد الرحمن أبو طالب فتهكم من محاولة السعوديين “تحويل الهزيمة إلى نصر” قائلا إنهم كانوا يتعهدون بطرد الحوثي وانتهى بهم المطاف إلى أن يتباهوا بالنصر في المفاوضات ويقولون “سنحرر الحديدة عاجلاً أم آجلاً”.

كذلك، سخر آخرون من تصوير بن سلمان بطلا للسلام. وكتب حساب “نحو الحرية” الذي يتهم بالشأن الحقوقي في المملكة “النظام السعودي يسفك الدماء في اليمن ويحاصر الأشقاء في قطر ويتآمر على الأحرار في تونس ويفتعل الأزمات في لبنان ويدعم السيسي الذي يحاصر غزة… ثم يزعم بكل وقاحة أنه ينشر السلام..”.

وليس من الوارد -في نظر مراقبين- أن تصدر المنظمات الحقوقية صك غفران لولي العهد لمجرد أنه قبل بوقف إطلاق النار في مدينة عجز عن السيطرة عليها بعد أشهر من الحصار والقصف من الأرض والجو.

ورغم مساعي جاريد كوشنر صهر الرئيس الأميركي لتغيير “ملامح” محمد بن سلمان، هناك أطراف عديدة لا تبدو مقتنعة بمحو خطايا الأمير وتحوله في طرفة عين إلى حمامة سلام.

وبالأمس الجمعة، صعّد الرئيس التركي من لهجته تجاه الرياض وقال إن السعوديين يعرفون من أمر بقتل خاشقجي وإنهم يرفضون تسليم المتهمين حتى لا يكشفوا السر، في اتهام واضح لولي العهد بقتل الصحفي.

وفي الكونغرس الأميركي، تبنى الشيوخ قرارين: أحدهما يؤكد القناعة بأن محمد بن سلمان أمر بإزهاق روح خاشقجي، والثاني يطالب بوقف تسليحه ودعم حربه في اليمن.

وفي تأكيد لمواقفه السابقة، قال السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام -في مقابلة مع فوكس نيوز- إن الأشخاص الذين تورطوا بمقتل الصحفي غادروا السعودية وارتكبوا الجريمة بأمر وتوجيه من ولي العهد.

سيد أحمد الخضر
الجزيرة