حمل البيان المكتوب للرئيس الأميركي دونالد ترامب حول قضية خاشقجي رسائل شتى بعضها للداخل الأميركي، وأغلبها لبيت الحكم في السعودية، وأثار البيان لغطا واسعا في الولايات المتحدة، وترك العاصمة واشنطن في حالة أخذ ورد وانقسام وتنازع.

فرأى فريق في البيان نقلة نوعية للأمام فيما يتعلق بموقف الرئيس من حليفه الشخصي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والذي أصبح مقربا من عائلة ترامب خاصة صهره جاريد كوشنر، بينما قرأ فيه آخرون رسالة طمأنة لولي العهد وابتعاد لترامب عن موقف أركان إدارته المنتهي بتحميل مسؤولية قتل جمال خاشقجي لمحمد بن سلمان.

بين الدولة والشخص
لعل أولى الرسائل التي حملها بيان ترامب هي التفريق بين السعودية كدولة وولي عهدها كشخص، حيث شدد على أهمية العلاقات والشراكة الإستراتيجية مع تلك الدولة في مواجهة أخطار مشتركة في منطقة الشرق الأوسط.

وقال ترامب “علاقتنا مع المملكة العربية السعودية.. إنها حليف عظيم في كفاحنا المهم جدا ضد إيران” ثم ذكر أن بلاده “تنوي البقاء شريكا راسخا للسعودية لضمان مصالح بلادنا وإسرائيل وكل الشركاء الآخرين في المنطقة”.

ويعد الفصل بين العلاقات -التي تجمع الدولتين بأبعادها الأمنية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والاستثمارية والتعليمية- رسالة واضحة في بيان ترامب.

وهو إشارة جلية إلى أن هذه العلاقات الإستراتيجية لا تعتمد على بقاء شخص ما بسدة الحكم في الرياض أو حتى واشنطن، كما يعني أيضا أن حدوث عملية تغيير داخل بيت الحكم السعودي لن يتبعه توتر أو اهتزاز بالعلاقات الإستراتيجية بين الدولتين.

لا موقف بعد
وتبدو ثانية الرسائل التي كشفها البيان أن واشنطن لم تتخذ موقفها النهائي بعد بشأن تداعيات قضية خاشقجي، وأن الموقف ما زال في طور التبلور والتشكل.

فبيان الرئيس لم يتبن الطرح السعودي الرسمي حول تحقيقات قتل خاشقجي التي برأت ولي العهد وأدانت مسؤولين آخرين، وترك المجال مفتوحا أمام تغير لاحق قد يطرأ بموقفه، وبدا ذلك جليا في استعداده المتضمن بالبيان للتعاطي إيجابيا مع أي أفكار تقدم له من الكونغرس.

وفي قوله إن “وكالاتنا الاستخباراتية تواصل تقييم المعلومات، لكن من المحتمل جدا أن ولي العهد كان على علم بهذا الحدث المأساوي.. ربما كان يعلم وربما لم يكن يعلم”.

ولم يشر البيان من قريب أو بعيد لما تم تسريبه من تقرير لجهاز الاستخبارات المركزية حول تقييمها الذي انتهى لخلاصة تحميل ولي العهد السعودي مسؤولية مقتل خاشقجي. كذلك تجاهل التسريب الذي خرج عن مسؤول كبير بالخارجية مؤكد اطلاعه على تقرير سي آي أي الذي يدين محمد بن سلمان.

وكانت مساعدة ترامب الأولى حول ملفات وعلاقات واشنطن مع السعودية والخليج العربي قد استقالت يوم الجمعة الماضي احتجاجا على تهاون الرئيس تجاه قضية خاشقجي وعدم رغبته في إلقاء اللوم على محمد بن سلمان شخصيا.

دعم محمد بن سلمان
وجاءت الرسالة الثالثة في بيان ترامب لتحمل إشارات رأى فيها البعض انحيازا لولي العهد السعودي، وخذلانا للقيم الأميركية في الدفاع عن قضايا حقوق الإنسان، وتنصلا من المسؤولية الأخلاقية للولايات المتحدة في قضية كهذه.

ويعتقد العديد من الخبراء الأميركيين وكبار أعضاء الكونغرس من الحزبين الجمهورية والديمقراطي أن الرئيس منح محمد بن سلمان طوق نجاة من المسؤولية عن مقتل خاشقجي.

واعتمد هذا الموقف على تجاهل ترامب لعرض فحوى تقرير الاستخبارات الأميركية من مقتل خاشقجي والذي سربه مسؤولون كبار من داخل سي آي أي لكبريات الصحف الأميركية، والذي يحمل محمد بن سلمان مسؤولية قتل الصحفي.

واعتبر عضو مجلس النواب لويد دوجيت أن بيان ترامب مخز “وتنازل مخز عن القيم الأميركية. ترامب ساعد وتواطأ في قتل السعوديين لمقيم في الولايات المتحدة بالإضافة إلى مساعدته للهجمات على المدنيين اليمنيين”.

أما العضو آدم شيف -الذي سيترأس لجنة الاستخبارات بمجلس النواب بدءا من أول يناير/كانون الثاني القادم- فقد قال “البيان يقوض الاحترام لمكتب الرئيس ومصداقية المجتمع الاستخباري وموقف الولايات المتحدة المدافع عن حقوق الإنسان”.

وقد اتهم كريس ميرفي العضو الديمقراطي بلجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الرئيسَ بالتواطؤ قائلا “بيان كارثي، لقد كتب البيان السعوديون، كلمة كلمة. من الواضح 100% أن السعوديين يملكون الرئيس، والأغلبية الديمقراطية في مجلس النواب عليها الحصول على التفاصيل في أقرب وقت ممكن”.
من ناحيته أشار فريد رايان ناشر صحيفة واشنطن بوست -حيث كان يكتب خاشقجي مقالاته- إلى أن دعم ترامب للسعودية خيانة للقيم الأميركية وفشل في القيادة. ودعا الرئيس تقديم أدلته إذا كانت لديه أسباب للشك فيما خلصت إليه سي آي أي.

بانتظار الكونغرس
ولعل رسالة ترامب الأخيرة تتعلق بتحسبه لتحرك معاكس من الكونغرس، حيث ذكر قبل ختام بيانه أنه يدرك أن “هناك أعضاء بالكونغرس يرغبون، لأسباب سياسية أو غيرها، في الذهاب نحو اتجاه مختلف، وهم أحرار في فعل ذلك. وسأدرس أي أفكار تقدم لي، ولكن فقط إذا كانت متسقة مع الأمن والسلامة المطلقين لأميركا”.

وهكذا يدرك ترامب أن أبواب الكونغرس مفتوحة لعاصفة معارضة لتبرئة ولي العهد السعودي من دم خاشقجي، ويدرك الرئيس أن الكونغرس سيتبنى من جانبه عقوبات مختلفة، من بينها فرض حظر على تصدير السلاح، والبحث في مشروعات قرارات لمحاسبة الرياض، وسيطلب كذلك من ترامب فرض عقوبات على محمد بن سلمان.

إن موقف ترامب لم يحسم ببيانه، بل منح نفسه وإدارته بعض الوقت مع إدراكه صعوبة التستر على ولي العهد السعودي، خاصة بعد خروج تسريبات من وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أي) واحتمال ضغط الكونغرس كي يتم نشرها.

 

الجزيرة