منذ تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الرئاسة في يناير عام 2017، ظل منصب السفير في السعودية شاغراً دون ممثّل للولايات المتحدة في بلد يحظى باهتمام وعلاقات تقليدية مثل الممكلة، ليقع الاختيار على الجنرال المتقاعد جون أبي زيد، الذي يجمع صفاتٍ دبلوماسية إلى جانب العسكرية، وخاض 6 حروب في أقلّ من 3 عقود ونصف.

وترك الرئيس الأمريكي العديد من المناصب شاغرة في إدارته، لكن ارتدادات عدم وجود سفير للولايات المتحدة في الرياض برزت واضحة خلال الأزمة الدبلوماسية التي نشبت بين واشنطن وحليفتها التقليدية في الشرق الأوسط؛ على خلفيّة جريمة قتل الصحفي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده بإسطنبول، في 2 أكتوبر 2018.

وفي 14 نوفمبر 2018، رشح ترامب الجنرال جون أبي زيد سفيراً للولايات المتحدة في السعودية، ليملأ بذلك منصباً ظل شاغراً منذ مطلع العام 2017، في وقت تتصاعد فيه ضغوط المؤسسات التشريعية والأمنية والسياسية الأمريكية على الرياض؛ على خلفيّة قتل خاشقجي، والحرب في اليمن، وتزايد الانتهاكات الحقوقية ضد المخالفين لسياسات ولي العهد، محمد بن سلمان، وأيضاً تصفية الخصوم.

استراتيجية العلاقة
وخلال جلسة الاستماع الأولى له أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، تعهّد جون أبي زيد بالضغط على السعودية من أجل تحمّل مسؤوليتها في جريمة قتل الصحفي جمال خاشقجي.

وقال أبي زيد، الأربعاء (6 مارس 2019)، إنه سيضغط في هذا الملف مؤكداً أنه سيعمل على تحقيق الشفافية والمساءلة في قضية مقتل خاشقجي بالتنسيق مع الخارجية السعودية.

وأشار إلى أن هناك تحديات تشوب العلاقة الأمريكية مع السعودية؛ مثل حرب اليمن، وقتل خاشقجي، والانتهاكات بحق النشطاء، التي بدأت منذ أكتوبر 2017.

وشدد المرشح لمنصب السفير في الرياض على أنه يجب أن تكون هناك محاسبة على قتل خاشقجي، لافتاً إلى أنه لا بد للمسؤولين السعوديين أن يجدوا طريقاً للسلام في اليمن.

وحين سؤاله كيف سيتعامل مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي أدت سياساته المتهورة إلى توتر العلاقات مع واشنطن، أكد أبي زيد أن العلاقات مع السعودية أكبر من “ولي العهد”، وتشمل العلاقة مع الملك والحكومة ووزارة النفط وغيرها.

وقال أيضاً: “لا نقبل المشاكل الكبيرة في السعودية، ومن ضمنها قتل خاشقجي وتعذيب الناشطين واحتجازهم”.

ويحتاج السفير الجديد إلى الحصول على موافقة مجلس الشيوخ على تعيينه هذا، قبل أن يتسلّم مهامه الدبلوماسية في الرياض.

وقُتل خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول التركية، في أكتوبر الماضي، بعد اختفائه لساعات، قبل تقطيع جثته وإخفائها.

وتشير جميع الأدلة في مسرح الجريمة، والتحقيقات التركية، وعدد من أجهزة الاستخبارات الدولية ومن ضمنها الأمريكية، إلى تورط ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، ومسؤولين كبار بالدولة في الجريمة.

حفيد مهاجر لبناني وجنرال مخضرم
ولد الجنرال أبي زيد بأبريل عام 1951، في كاليفورنيا، لكنه ينحدر من أصول لبنانية، وهو حفيد مهاجر مسيحي، ويتكلّم العربية بطلاقة، وقد أمضى 34 عاماً في صفوف الجيش الأمريكي، وكان قائداً للقيادة الأمريكية الوسطى، واضطلع بدور بارز في الحرب الأمريكية على العراق، إلى جانب حرب واحتلال غرينادا في البحر الكاريبي، وحرب الخليج والبوسنة وكوسوفا وأفغانستان.

وبدأ مهنته العسكرية عام 1970، مع فرقة المشاة المظلّية رقم 504 في “فورت باراج”، واختير في العام نفسه من بين وحدات النخبة لتدريب القوات الخاصة الأردنية.

في العام 1973 عُيّن ضابطاً مساعداً في قوات المشاة لدى تخرجه في الأكاديمية العسكرية، حيث كان يطلَق عليه لقب “العربي المجنون”، كما تشير بعض التقارير الصحفية.

وقاد الجنرال المتقاعد، عام 1983، مجموعة من وحدات خاصة خلال الغزو الأمريكي لجزيرة غرينادا، كما قاد، عام 1991، اللواء الثالث في الفرقة المجوقلة 325 التي أدّت دوراً رئيسياً في عمليات ما تعرف بـ”بروفايد كومفورت” في حرب الخليج.

وقاد أيضاً، عام 1999، فرقة المشاة الأولى التي تُدعى “بيغ رد وان”، والتي أدّت دوراً مركزياً بالحرب في كوسوفا، وحصل على ميدالية الخدمة المتميزة وخدمات التفوق الدفاعي والنجمة البرونزية، وغيرها من الميداليات والجوائز العسكرية.

وفي يوليو 2003، تسلّم أبي زيد مهامه في القيادة المركزية للقوات الأمريكية المسؤولة عن قوات بلاده في العراق و24 دولة تشمل الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وأفريقيا، ليتقاعد بعدها من الخدمة العسكرية عام 2007، بعدما قضى 34 عاماً في السلك العسكري.

رحلته الأكاديمية
بعد تخرج أبي زيد (67 عاماً) في أكاديمية ويست بوينت العسكرية، التحق بالدراسة في الأردن، ثم بدأ مشواره في الدراسات العليا في أمريكا، وأعدّ خلال دراسته بجامعة هارفارد أطروحة حول الشرق الأوسط، وآليات اتخاذ القرار في السعودية، لا سيما في المجال الدفاعي، ويمتلك خبرة واسعة بشؤون المنطقة بحكم عمله فيها.

وبعد توليه مهامه على رأس القيادة الأمريكية الوسطى، عُرف عن أبي زيد احتواء كافة شرائح المجتمع العراقي، ولقاءاته بهم؛ من سياسيين وعسكريين وشيوخ قبائل وفصائل شعبية قاتلت عناصر القاعدة إلى جانب القوات الأمريكية.

وخلال لقاءاته المتعدّدة مع الأطراف العراقية، يكون أبي زيد عسكرياً عندما يتطلّب الأمر حزماً وقوة، ويكون دبلوماسياً عندما يكون في مفاوضات؛ أحياناً للهروب من تعقيدات وتناقضات الشارع العراقي، كما أحسن التعامل بأريحية مع زعماء القبائل وشرائح المجتمع العراقي خلال اجتماعاته الرسمية ولقاءاته، وكان مطّلعاً بشكل كبير على التدخّلات الخارجية في العراق، أو ما يسميها بـ”التمرّد الكلاسيكي”.

“التمرد السني” وبداية النفوذ الإيراني
اعتمد أبي زيد في العراق استراتيجية تقضي تدريجياً على الفصائل المسلّحة في محافظات العراق الشمالية والشرقية والغربية ذات الغالبية السنية، حيث تشكّلت أثناء قيادته ما عُرف حينها بقوات “الصحوة”، وهي فصائل مسلّحة سنية دُرّبت بحرفيّة للانخراط في مواجهة تنظيم القاعدة.

وتولّى الجنرال دايفيد بترايوس، قائد القوات الأمريكية في العراق حينها، إدارة هذه الفصائل بالتعاون مع شخصيات سياسية وقبلية عراقية.

لكن بترايوس حينما كان يُشكّل ويدير هذه الفصائل العشائرية حتى في مناطق محيط بغداد بحجة تقنينها رسمياً وتولّيها حفظ الأمن في البلاد، لم يشكّل شيئاً من هذا في المناطق الشيعية التي تسيطر عليها مليشيا جيش المهدي التابعة لرجل الدين مقتدى الصدر، أو حتى المليشيات الشيعية المرتبطة بالأحزاب السياسية ورئاسة الوزراء، حينما كان نوري المالكي رئيساً للحكومة.

خطوات بترايوس باحتواء ما يسمّيه “التمرّد السني” في العراق انتهت بتسليم قوات “الصحوة” السنية إلى الحكومة العراقية بقيادة المالكي، التي بدأت بتصفية رموزها من اعتقال وتعذيب وإخفاء وإعدام؛ بحجة الانتماء للفصائل “الإرهابية”، بينما كان بترايوس قد تولّى خلافة جون أبي زيد في خريف عام 2008، وبدأ بتصفية ما يطلق عليه السنة في العراق “المقاومة المعتدلة”، وهو ما جعل الساحة فارغة أمام تمرّد المليشيات التابعة للأحزاب الموالية لإيران.

ومنذ ذلك الحين ارتبط بذاكرة العراقيين، لا سيما السنة، أن قيادة القوات الأمريكية التي كان يتزعّمها جون أبي زيد، ومن ثم دايفيد بترايوس، كانوا على اطلاع واسع على التدخّلات الخارجية في العراق، وبذكاء أبعدوا بغداد عن محيطها العربي؛ بعد استدراج العشائر السنية التي وجدت نفسها لاحقاً أمام نفوذ أحزاب شيعية موالية لإيران تتحكّم في جميع مفاصل الدولة العراقية، وتواجه (العشائر)- لاإرادياً- حكومة طائفية وإقصاء يعرفون أسبابه لكن لا يمكن تداركه أو الرجوع إلى الخلف.

وكان أبي زيد أكّد، بعد تقاعده عام 2007، “إمكانية التعايش مع إيران نووية كما تم التعامل في الماضي مع الاتحاد السوفييتي الذي كان يمتلك أسلحة نووية”.

في حين وصف سلوك طهران بـ”العقلاني”، وهو موقف يتعارض مع سياسة ترامب الذي انسحب من الاتفاق النووي المبرم بين إيران والدول الكبرى، وفرض عقوبات اقتصادية شديدة على طهران.

وبعد ترشيح ترامب له، يُطرح التساؤل حول إمكانية أن يمثّل الجنرال أبي زيد “حمامة سلام” تنقل الرياض إلى برّ الأمان؟ أم أنه سينقل تجربة “الصحوات” ونتائجها في العراق إلى بلد جديد؟.. الأشْهُر والسنوات القادمة كفيلة في كشف ذلك.

ياسين السليمان – الخليج أونلاين