يوماً بعد آخر يضيق الخناق على النظام الحاكم في السعودية، منذ الصعود المفاجئ لمحمد بن سلمان لولاية العهد في 2016، بعد عزل ابن عمه محمد بن نايف، وإقصاء أبناء العمومة الأكثر كفاءة، ثم سجن بعضهم ومصادرة أموالهم لاحقاً، وهو ما فكك الأسرة الحاكمة وضيع سُنة الإجماع فيها.

وسارع بن سلمان إلى الاستعانة بمستشارين من خارج العائلة الحاكمة للتخلص من أي خطر قد يهدد انفراده بالحكم، ومن أجل إحكام قبضته على السلطة والمؤسسات السيادية في الدولة، بعد أن أصبح وحيداً في قمتها.

وخلق بن سلمان بسبب سياساته القمعية ضد أبناء العائلة المالكة بالسعودية، عدداً من الأعداء، متجاهلاً ما يعنيه تأليب الرأي العالمي ضده وضد بلاده، وفتح أبواب القمع على مصاريعها، وبدأ بالأقربين.

وفي نوفمبر 2017 أطلق دراما فندق الـ”ريتز كارلتون” حيث اعتقل أكثر من اثني عشر من الأمراء الأقوياء مثل متعب بن عبد الله والوليد بن طلال، وعشرات المسؤولين السابقين ورجال الأعمال، تحت ذريعة مكافحة الفساد.

وبعد شهور أطلق سراحهم في تسويات غامضة، ثم بدأ باعتقال العلماء والدعاة وصناع الرأي ونشطاء المجتمع المدني وحقوق الإنسان.

وكانت جريمة اغتيال الصحفي المعارض جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول في 2 أكتوبر الماضي، هي الجريمة التي فتحت عليه عيون العالم وأبواب النقد، وجعلت للمعارضين صوتاً مسموعاً عبر العالم أهلتهم للتخندق في مواجهة معه شخصياً ومع النظام برمته.

 

المجتمع الدولي يوبخ السعودية

وشكل توقيع 36 دولة، بينها جميع دول الاتحاد الأوروبي الثماني والعشرين، في 7 مارس 2019، على توبيخ السعودية في بيان مشترك صادر عن مجلس حقوق الإنسان، بسبب القمع والانتهاكات ضد حقوق الإنسان، الضربة الأشد قوة للدبلوماسية السعودية منذ تأسيس الدولة.

ودعت مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ميشيل باشليه، الرياض للإفراج عن الناشطات المحتجزات اللواتي أكدت تقارير تعرضهن للتعذيب، بعد اتهامهن بالإضرار بمصالح البلاد.

وشهدت المملكة خلال العامين الماضيين أكبر حملة اعتقال طالت المئات من النشطاء والحقوقيين، الذين حاولوا التعبير عن رأيهم الذي يعارض ما تشهده السعودية من تغييرات، وسط مطالبات حقوقية بالكشف عن مصيرهم وتوفير العدالة لهم.

وتعرّض هؤلاء المعتقلون لأشد أنواع الانتهاكات الجسدية والمعنوية؛ منها: التعذيب، والحبس الانفرادي، ومنع أفراد عوائلهم من السفر، في حين قُتل نحو 5 منهم داخل السجون، وأطلق سراح آخرين إثر إصابتهم بأمراض عقلية من شدة تعرضهم للتعذيب، بحسب منظمة “هيومن رايتس ووتش” الحقوقية الدولية.

وأكدت المنظمة في تقاريرها أن المحققين السعوديين عذبوا ما لا يقل عن 4 نساء بالصدمات الكهربائية، فضلاً عن التحرش بهن جنسياً والاعتداء عليهن، وسط تكتم شديد من قِبل السلطات الحكومية.

 

جريمة مقتل خاشقجي

واعتمدت السعودية خلال العقود الماضية على ميزانيتها البترولية الكبيرة في التعامل مع المجتمع الدولي، من خلال تقديم الإغراء للدول بعقد صفقات تجارية كبرى على رأسها عقود شراء السلاح للجيش السعودي.

ويؤكد مراقبون أن الجيش السعودي لم يخض حرباً بمفرده على الإطلاق، في حين كان المجتمع الدولي يجامل المملكة حفاظاً على المصالح وما توفره هذه العقود من فرص تحقق مكاسب لحكومات الدول الغربية وفرص عمل تعول عليها في نجاحاتها أمام شعوبها.

لكن قضية مقتل الصحفي خاشقجي في قنصلية بلاده بمدينة إسطنبول كانت أكبر في حجمها من أن يتجاهلها العالم، أو يغض الطرف عنها أسوةً بالقضايا الأخرى، فكانت الجريمة بمنزلة نافذة فُتحت على ملف حقوق الإنسان في السعودية، إذ ازدادت حدة الضغوط على المملكة منذ ذلك الحين.

وبقي موقف إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب متخلفاً عن المجتمع الدولي، والمؤسسات الأمريكية الأمنية والتشريعية التي أجمعت على إدانة النظام السعودي ممثلاً بشخص ولي العهد.

وتشير جميع الأدلة في مسرح الجريمة والتحقيقات التركية، وعدد من أجهزة الاستخبارات الدولية، ومن ضمنها الأمريكية، إلى تورط بن سلمان ومسؤولين كبار بالدولة في الجريمة.

وشن أعضاء في الكونغرس الأمريكي هجوماً لاذعاً على ترامب، عقب جلسة مغلقة عُقدت الاثنين (4 مارس)، متهمين إياه بالتقاعس عن تحقيق العدالة في القضية.

ووصف العضو البارز في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، السيناتور بوب ميننديز، تعامل إدارة الرئيس ترامب مع الجريمة بـ”المهين”، وطالب الكونغرس بمحاسبة السعودية والمسؤولين عن الجريمة.

وقال ميننديز في تصريحات صحفية: إن “محاولة إدارة ترمب تفسير فشلها في اتخاذ قرار بشأن اغتيال خاشقجي كان مهيناً”.

موقف المشرعين الأمريكيين دفع إدارة ترامب إلى اتخاذ خطوة أكثر تقدماً في إدانة القيادة السعودية، فصعّدت الخارجية الأمريكية في تقريرها السنوي حول حقوق الإنسان لعام 2018، تجاه السعودية، وقالت إن عملاء من الحكومة قتلوا خاشقجي.

وأكد التقرير، الذي نشرته الخارجية الأمريكية الأربعاء (13 مارس)، أن “الرواية السعودية بشأن خاشقجي تغيرت من خروجه سالماً من القنصلية إلى الاعتراف بقتله، الذي يعد أمراً مروعاً، لذلك وجهنا أسئلة إلى السلطات السعودية بشأن وعدها بالتحقيق”.

واتهم التقرير السلطات السعودية بارتكاب عمليات قتل غير قانوني، وإعدامات لجرائم غير عنيفة، وحالات إخفاء قسري، وتعذيب سجناء ومحتجزين، واعتقال تعسفي، وسجناء سياسيين، وقيود صارمة على حرية التجمع، والتنقل، والدين، وغياب الانتخابات الحرة.

 

صوت المعارضة يعلو

وأدت قضية مقتل خاشقجي إلى لفت انتباه العالم لما يجري في الداخل السعودي، بتسليط الضوء على تيار المعارضة بالمملكة، الذي تتنوع أطيافه ما بين إسلاميين وليبراليين وعلمانيين ومنشقين عن الأسرة الحاكمة.

ويرى مراقبون أن فضيحة تورط النظام في الجريمة وفرت شكلاً من أشكال الحماية الدولية جرأت المعارضين على رفع أصواتهم، وبات ظهورهم في وسائل الإعلام أكثر جرأة وكثافة، إذ أدركت المعارضة أن متاعب بن سلمان مع المجتمع الدولي تسببت بتقليم أظافره.

وفي ظل هذه الأجواء التأم شمل معارضي النظام من التيارات المختلفة بمؤتمر في ديسمبر الماضي، ناقشوا خلاله التحديات التي تواجههم، والأولويات التي ينبغي عليهم الاتفاق عليها في مواجهة القمع والتهديدات الداخلية التي تتعرض لها بلادهم.

وتنوعت أطياف المشاركين وخلفياتهم الفكرية والسياسية، وأكدوا ضرورة الاستمرار في الانفتاح في سبيل إحداث تغيير في بنية النظام، وخصصوا جلسة لبحث فكرة استعمال النظام للدين، وترسيخ بعض علمائه أرضية شرعية لمفاهيم تخدم فكرة الدفاع عن تسلط الحكام.

وفي هذا السياق ذكرت صحيفة “إندبندنت” البريطانية، يوم 13 مارس، أن الأمير السعودي المنشق خالد بن فرحان آل سعود أطلق حركة معارضة تحت اسم “حركة حرية شعب شبه الجزيرة العربية”، تدعو إلى تغيير النظام، وتكفل حماية المعارضين الفارين منه.

وكشف الأمير المنشق للصحيفة البريطانية أنه يسعى إلى قيام ملكية دستورية في السعودية، وإجراء انتخابات لتعيين رئيس وزراء وحكومة من أجل محاربة الانتهاكات المزمنة لحقوق الإنسان والظلم في البلاد.

وتواجه السعودية الموقف الدولي تجاه ملفها في حقوق الإنسان، وتحرك المعارضة ضدها، وقضية مقتل خاشقجي، بالصمت وعدم التعليق حتى من قبل رأس دبلوماسيتها متمثلاً بوزير الخارجية.

ويعتبر مراقبون ذلك التعامل ارتباكاً، وسط تسريبات عن سعي الملك سلمان لإعفاء ولي العهد من المسؤولية، أو سعي الأخير لعزل والده والتفرد بالسلطة.

هذا الموقف دفع الأكاديمية السعودية المعارضة، مضاوي الرشيد، إلى تحذير النظام من تحول المملكة إلى دولة منبوذة.

وقالت الرشيد، في مقال بصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، في أكتوبر الماضي: إن “أفعال ولي العهد؛ بدايةً من الحرب الوحشية في اليمن، وإشعال نزاع مع كندا، وحتى آخرها القتل المُرجَّح للصحافي خاشقجي، يشكل خطر أن تصبح السعودية دولة منبوذة”.

وأضافت: “حتماً يدرك الديوان الملكي السعودي، بما في ذلك الملك سلمان، أنه لا يمكن لهذا الوضع أن يستمر، وإذا كان الديوان ذكياً بما يكفي فسيتبنَّى موقفاً حازماً بتنحية الأمير محمد من منصبه، والإقرار بمسؤوليته عن اغتيال خاشقجي ويواجه العواقب”.