رغم مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والحرب الدائرة في اليمن منذ 5 سنوات، فإنّ باريس مستمرة في بيع الأسلحة للرياض، لماذا؟

الإجابة تضمنها مقال الباحث القانوني والناشط الفرنسي الإيراني الأصل، أردفان أمير أصلاني، بصحيفة “نوفيل إيكونوميست”، مسلطا الضوء على الجدل الدائر في فرنسا حول هذه القضية.

وقال أردفان: منذ 15 أبريل/ نيسان الماضي يحاول قصر الإليزيه ووزيرة الجيوش فلورنس بارلي، من خلال وسائل الإعلام، أو لجنتي الشؤون الخارجية في كل من الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ، إطفاء الحرائق التي أشعلها موقع التحقيقات الاستقصائية “ديسكلوز”، بعد نشره مذكرة “سرية دفاعية” لمديرية الاستخبارات العسكرية (DRM) فيما يتعلق بالوضع الأمني باليمن.

وأوضح أن المذكرة التي يعود تاريخها إلى 25 سبتمبر/أيلول 2018، كشفت عن قائمة الأسلحة التي تم بيعها إلى المملكة السعودية والإمارات والتي كانت عبارة عن دبابات لوكليرك، وميراج 2000، ورادار كوبرا، ومدرعات أرافيس وكذلك طائرات الهليكوبتر كوجار ودوفان.

 

إحراج لماكرون

وأشار إلى أنه وفقا لمذكرة الدفاع السرية، التي شكلت إحراجًا كبيرا لحكومة الرئيس إيمانويل ماكرون، كشفت أن هذه الأسلحة استخدمت في حرب اليمن التي يشنها التحالف العربي تحت قيادة السعودية والإمارات بدعم من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، في اليمن ضد المتمردين الحوثيين المدعومين إيرانيا.

وأكد أن هذا الصراع الدائر منذ 2015، يؤثر بشكل أساسي على السكان المدنيين وأدى، وفقًا للأمم المتحدة، إلى أسوأ أزمة إنسانية بالعالم خلال السنوات الأخيرة.

ونوه بأنه ليس من المستغرب أن العدالة الفرنسية فتحت في نهاية عام 2018 تحقيقًا بتهمة “المساس بسرية الدفاع الوطني” بعد أن علمت مديرية الاستخبارات العسكرية أنه تم “تسريب” المذكرة قبل نشرها.

واعتبر الكاتب أن الكشف عن هذه المعلومات يثير الاشمئزاز لأنها تتعارض مع الخطاب الرسمي الذي ألقاه الإليزيه، وأكده الرئيس ماكرون في 2 مايو/آيار الجاري، وهو أن مبيعات الأسلحة التي تم التعاقد عليها منذ فترة طويلة مع السعودية والإمارات مشروعة ولم يتم استخدامها إلا في أغراض دفاعية فقط ولم تستخدم قط ضد المدنيين.

ولفت إلى أن وزيرة الدفاع الفرنسية فلورنس بارلي جددت تأكيدها في 18 أبريل/نيسان الماضي أنه لا يوجد “دليل على أن الأسلحة الفرنسية الصنع تسببت في خسائر بأرواح المدنيين في حرب اليمن”، وذلك خلال لقاء لها على “راديو كلاسيك”.

 

قنابل ليزرية

وذكر الكاتب بأن البرلمان البريطاني كشف في 14 مارس/ آذار 2018، أن الحكومة البريطانية صدرت إلى فرنسا في عامي 2016 و 2017، مكونات تستخدم في تصنيع “جراب ديموقليس”، وهو نظام للقنابل الليزرية للتحكم عن بعد، تعاقدت عليه بريطانيا لتصديره إلى السعودية، وبحسب مذكرة مديرية الاستخبارات العسكرية التي كشف عن “ديسكلوز” في 15 أبريل/ نيسان، يمكن استخدامها في اليمن.

وتساءل أردفان: إذا كانت حكومة ماكرون تعتبر أنها التزمت بالجانب الأخلاقي في صفقات الأسلحة التي وقعتها مع الرياض، فلماذا استدعت مواجهة الإدارة العامة للأمن الداخلي ما لا يقل عن 8 صحفيين لاستجوابهم خلال 4 أشهر؟

ولفت إلى أن الجميع استنكر محاولات التخويف التي استهدفت هؤلاء الصحفيين ليس في هذه القضية فقط ولكن أيضا بقضية “بينالا”- المعروفة إعلامياً بـ “فضيحة ألكسندر بينالا”، المساعد الأمني السابق للرئيس ماكرون، حيث تم استدعاء مراسلة جريدة “لوموند” آريان شومان، مؤكدا على أن هذه الاستدعاءات مفاجأة وبغيضة، خاصة عندما يكرر الإليزيه التزامه بحرية الصحافة.

وقال الكاتب: “رغم هذه الاستدعاءات بحق الصحفيين، قامت وسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية والمسؤولين المنتخبين من جميع الأطراف بالتمرد بشكل شرعي ضد تزايد هذا النوع من الاستدعاء الذي يعكس الانجراف المزعج للسلطة”.

وبين أن الجدل بشأن مبيعات الأسلحة للسعودية تضخم بشكل كبير في 10 مايو/ أيار الماضي، عندما أجبرت سفينة “بحري ينبع” السعودية، التي كانت تعتزم تحميل أسلحة فرنسية في لوهافر، خالية الوفاض، رغم أن العدالة الفرنسية رفضت معارضة شحن هذه الأسلحة.

وذكر أردفان أن ماكرون استنتج في 12 أكتوبر/ تشرين الأول، أن “القول إن السعودية أصبحت من أكبر زبائن فرنسا خطأ”، مع أن المملكة هي ثاني أكبر عملاء باريس في استيراد الأسلحة بعد الهند، حيث أنفقت 11 مليار يورو على طلبات شراء الأسلحة الفرنسية خلال 9 سنوات، منها حوالي 3.4 مليار تم تسليمها بين عامي 2015 و 2017 ، أي بداية الصراع في اليمن، كما وعدت باريس أيضا بصيانة هذه المعدات.

 

نقص الزبائن

وبررت بارلي للجمعية الوطنية (البرلمان) الحاجة إلى تصدير الأسلحة إلى الخارج “بسبب نقص الزبائن في الاتحاد الأوروبي”، وجادلت الوزيرة أيضًا بأن هذه العقود هي مسألة سيادة وطنية لفرنسا، حيث إنها تسهم في استدامة صناعة الدفاع الفرنسية واستقلالها.

وأكد الكاتب أن رئيس الجمهورية لا يزال يبرر حتى اليوم تصدير الأسلحة بهذه الحجة الاقتصادية، حيث يعتبر أنه “من الغوغائية البحتة المطالبة بوقف بيع الأسلحة للرياض”، رغم شناعة قضية خاشقجي وعار الصراع في اليمن.

ولفت إلى أن موقف فرنسا يأتي في ظل وقف 10 دول أوروبية جميع صادرات الأسلحة إلى السعودية، احتجاجًا على حربها التي تفتقد للقيم في اليمن، ففي البداية قررت ألمانيا تعليق جميع عقود الأسلحة الجديدة مع الرياض وحتى الموقعة بالفعل، وتبعتها كل من النمسا وبلجيكا والدنمارك وإسبانيا وفنلندا والنرويج وهولندا، كما صوت البرلمان الأوروبي مرتين على حظر بيع الأسلحة إلى السعودية، وعلقت كندا أي طلبات جديدة.

وسخر الكاتب من عدم وجود فرنسا “وطن حقوق الإنسان”، في قائمة هذه الدول، مثلها في هذا الشأن كبريطانيا التي استمرت في مساعيها لإنجاز صفقة مقاتلات تورنادو ويوروفيجتر تايفون، التي ينتجها اتحاد شركات ألمانية وبريطانية، في الفرع البريطاني، من أجل السعودية.

وأوضح أنه في حين جدد الألمان تعليق صادرتهم للسعودية لمدة 6 أشهر أخرى، تتفاوض لندن مع برلين للحصول على إعفاء والحفاظ على عقدهم مع الرياض بل ويدعون الدول الأوروبية الأخرى إلى أن تفعل الشيء نفسه.

 

الاقتصاد أولا

وأردف أردفان، هذا الجدل يأتي في وقت يبحث فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن وسيلة للالتفاف على الكونجرس الذي صوت في 13 مارس/ آذار ضد الدعم العسكري لواشنطن للتحالف الذي تقوده السعودية في اليمن، من أجل صفقات بـ 7 مليارات يورو من الأسلحة، لكن السبب الذي أعطاه البيت الأبيض للتغلب على “عداء” البرلمانيين الأمريكيين هو بالطبع “التهديد” الذي تشكله إيران للشرق الأوسط.

وذكر أن مواصلة الولايات المتحدة، الحليف التاريخي السعودية، دعمها للرياض ليس أمرًا مستغربًا، لكن غياب بريطانيا، وحتى فرنسا، عن الدول التي رفضت بشكل قاطع مواصلة صادراتها من الأسلحة للرياض، يثير أسئلة.

وتساءل مجددا هل البعد الاقتصادي يستحق أكثر من احترام القيم؟ مضيفا: “يبدو أن الجواب نعم”، ومع ذلك، سياسة التصدير هذه تتعارض مع القانون الدولي، فالمادة 6 من معاهدة تجارة الأسلحة، التي صادقت عليها فرنسا في عام 2014، تحظر أي بيع للأسلحة عندما يكون هناك شكوك حول استخدامها ضد المدنيين.

وانتقد الكاتب الإجراءات الفرنسية الخاصة بتصدير الأسلحة التي تتم في غموض ودون أي سيطرة ديمقراطية، كما أنها لا تخضع لمراقبة البرلمان على عكس الكثير من الدول الأوروبية، ففي فرنسا يُمنح البرلمان، الذي لا يتدخل في أي مرحلة من مراحل المفاوضات، تقريرًا سنويًا عن أكثر العقود التي أبرمت، حيث تكون المعلومات مجزأة للغاية ولا يتم الكشف عن أي شيء عن أنواع الأسلحة المباعة ولا كميتها ولا الشركات المصنعة لها.

وخلص إلى أن اختيار فرنسا بيع الأسلحة إلى السعودية والتغاضي عن استخدامها، تجعل البلاد قد اختارت أن تضع دبلوماسيتها في خدمة الحرب، وليس السلام، لتغذية أزمة المهاجرين بدلا من الاستجابة بذكاء وإنسانية، فهل أصبحنا وطن حقوق الإنسان، الذي يدعي الفضيلة؟ الجواب محرج.