حمد العجمي

خاص: التغريب السياسي هو محاولة استلهام الفكر السياسي الغربي في الحكم ونقله إلى الدول العربية والإسلامية.

والتغريب السياسي يأتي على مستوى الفرد والأمة أيضًا، فالتغريب على مستوى الفرد هو استلاب ثقافته وهويته ويعد الخطوة الأولى في سبيل تغريب واستلاب ثقافة المجتمع ككل. فالتغريب الثقافي والحضاري يتسلط – بداءةً – على الفرد، حتى إذا ما تمكَّن من نفسه، وانتشرت آثارُه على نطاق أوسع في مجتمع إسلامي، فإنه يستحيل إلى ظاهرة اجتماعية علاوة على كونه ظاهرة فردية ويصبح مصيره مفتوحاً على النهاية.

والتغريب السياسي يعني نقل التجربة الغربية بأسسها وقيمها وأفكارها السياسية إلى البلاد العربية والإسلامية.

وابتداءً تجب الإشارة إلى أن الفكر بشكل عام هو انعكاس للواقع في زمن معين يحاول المجتمع بقيادة مفكريه الخروج من أزماته وتطويره بحيث تصبح هناك منظومات أفضل لإدارة الواقع. والفكر السياسي الغربي هو إفراز طبيعي لواقع ديني واجتماعي واقتصادي في سياق تاريخي محدد. وكان التحدي الأكبر في تلك الحقبة الزمنية هي سيطرة الكنيسة على كافة مقدرات السلطة والمال حتى أصبحت حجر عثرة أمام تقدم المجتمع في كافة مجالات الحياة حتى النظريات العلمية منها.

هذا الصراع مع الكنيسة الغربية في سياقه المجتمعي هو الذي أنتج منظومات فكرية مثل العلمانية والليبرالية، ووضع أسسًا لمنظومة حكم تحدد مجال العلاقات بين المجتمع والنظام وموقع الدين والأخلاق منها. لذا فما يمكن وصفه بمنظومة الفكر السياسي الغربي كان نتيجة صراع طويل بين الكنسية والمجتمع، وصراع بين الحكام كملوك وأباطرة والمجتمع، وصراع بين طبقات كادحة وطبقة برجوازية متنفذة … إلخ، الإشكالية ليست مع الفكر الغربي من حيث هو غربي فتلك هي منظومتهم يتحاكمون لها كيفما شاءوا، لكن الإشكالية الأكبر هي محاولة عولمة تلك المنظومة الفكرية في الحكم والأخلاق وجعلها المعاير الوحيد للتحضر والتقدم وفرضها على الشعوب والأمم فرضًا، إن عملية التغريب تجاه الدول الإسلامية والعربية هي بمثابة ثوب تم تفصيله بمقاسته لتناسب جسد صاحبه، ثم يراد للناس جميعًا أن تعدل من أجسامها ليصلح لها الثوب نفسه.

وإذا نظرنا إلى الواقع السياسي في المملكة العربية السعودية، نجد أن ثمة عملية تغريب سياسي واضح تجرى داخل النظام السعودي خلال الأعوام الأخيرة، فأصبحت فكرة الدولة المصلحية التي تسعى لتحقيق مصالحها دون النظر إلى موقعها كدولة رائدة لعموم المسلمين بوجود الحرمين الشريفين فيها يتقلص ويجاهر ساستها ورموزها بهذا الأمر.

فالمملكة العربية السعودية كان ينظر إليها وما زال – وإن تضرر هذا الدور في السنوات القليلة الماضية -، على أنها الداعم الأساسي للقضايا العربية والإسلامية، سواء في المحافل الدولية أو بتقديم الدعم المادي للمشاريع التي تخدم الجاليات الإسلامية في مختلف دول العالم. بدأت بالتخلي عن هذا الدور، وإعلاء شأنه المصلحية في مفهومها الوطني الضيق.

فعلى سبيل المثال، كتب المستشار بالديوان الملكي السعودي، تركي آل الشيخ، في تغريدة له على تويتر، في مارس 2016 تعليقًا على تصويت المملكة للملف الأمريكي في استضافة كأس العالم على حساب الملف المغربي وإن كانت القضية ليست ذات بعد سياسي كبير إلا أن التصريح يشي بعقلية ورؤية من يديرون السياسة في المملكة وكيف استحوذ عليهم الفكر السياسي الغربي في النظر للقضايا السياسية يقول: “لم يطلب أحد أن ندعمه في ملف 2026، وفي حال طُلب منا سنبحث عن مصلحة المملكة العربية السعودية، واللون الرمادي لم يعد مقبولاً لدينا”.

ويقول تركي آل الشيخ أيضا في حوار له مع شبكة بلومبيرغ: إن “قرار دعم أمريكا، يرجع بالأساس إلى ترجيح مصالح السعودية، على أي اعتبارات أخرى”، مردفًا أن نسخة كأس العالم لسنة 1994، التي أقيمت في الولايات المتحدة الأمريكية، هي “من أفضل نسخ كأس العالم التي شاهدها في حياته”، على حد تعبيره .

ومن جهة أخرى فقد خطت العلمانية خطوات متسارعة في الأعوام القليلة الماضية. فالسعودية الجديدة لم تسمح فقط بهذه التحولات العلمانية السريعة بل تعمل على دفعها الى حدها الأقصى. المهم في كل ذلك ألا يقترب أحد من المنطقة المحرمة: أي التحديث السياسي، بما هو تقييد وضبط للحاكم في مجال السلطة والمال.

الإشكالية أن النظام السعودي أصبح يفرض العلمانية قصرا على المجتمع ودفعها لتصل إلى أعلى المستويات وتصبح دولة رائدة في المنطقة في تصدير العلمانية “الجاري اليوم هدم للصورة النمطية السابقة عن المملكة، ورسم صورة أخرى والبدء من جديد، إرضاء للغرب من أجل الاستمرار في الحكم، مهما كلف الثمن، ولو كان الصدام مع معتقدات وقيم المجتمع”.

فمنذ تولي الأمير “محمد بن سلمان آل سعود”، ولاية العهد في السعودية في يونيو2016، تسير الرياض بخطوات كبيرة نحو قطع صلة المملكة بالصفة الدينية والاتجاه نحو “علمنة قسرية”.

ومن هذا المنطلق فإن هناك الكثير من الأشياء التي تشهدها السعودية للمرة الأولى في تاريخها، منها إعلان عن “روزنامة الترفيه”، التابع للهيئة العامة للترفيه في السعودية (حكومي)، عن إقامة حفلات غناء ورقص واستضافة الساقطين من المغنيين والموسيقيين العرب والأجانب والاحتفاء بهم في بلاد ما كان لأحد أن يتخيل منذ بضعة سنوات أن تطأ أقدامهم تلك البلاد الطاهرة.

كما شهدت المملكة انطلاق أول حفل للأوبرا تحت عنوان “عنتر وعبلة”، ويأتي الإعلان عن مشروع دار الأوبرا، بعدما وافق مجلس إدارة “الهيئة العامة للمرئي والمسموع” السعودية، على إصدار تراخيص لفتح دور للعرض السينمائي في المملكة العربية السعودية، وذلك بعد 35 عاماً من الحظر.. ولأول مرة في تاريخ السعودية أيضا، سمح للنساء حضور مباراة كرة قدم، ويسمح للنساء البالغات بدخول ملاعب كرة القدم في السعودية للتشجيع في ثلاث مدن رئيسة هي “الرياض وجدة والدمام”.

كما نظمت السعودية أول بطولة إسكواش للنساء، كما استضافت مدينة جدة بطولة الجامعات لكرة السلة للنساء، بحضور أكثر من ثلاث آلاف امرأة للتشجيع في المدرجات.

أما في شهر سبتمبر من عام 2017، سمحت السلطات السعودية للمرة الأولى للنساء بحضور احتفالات العيد الوطني للبلاد مع عائلاتهم على مدرجات “إستاد الملك فهد الدولي” في الرياض.

وفي 27 سبتمبر 2017، أعلنت الهيئة العامة للرياضة بالرياض، إتاحة مشاركة النساء السعوديات في فعاليات اليوم العالمي للمشي، الذي أقيم في 29 سبتمبر من نفس العام وكانت هذه هي المرة الأولى التي تشارك فيها النساء في المهرجان وهن يجرين في الطرقات أمام عامة الناس.

وفي أكتوبر من العام 2017، بدأت القناة الثقافية السعودية سهرة فنية لسيدة الغناء العربي “أم كلثوم”، كما أذاعت إحدى الحفلات الغنائية للمطرب “عبد الحليم حافظ”، وذلك بعد توقف عن إذاعة الحفلات الطربية، خصوصا النسائية، منذ نحو 3 عقود. إضافة إلى السماح للنساء بقيادة السيارة.

تؤشر كل تلك الأحداث إلى أي مدى يتبنى النظام السعودي العلمانية الغربية، ومحاولة زرعها في المجتمع السعوي.

وفي إطار فرض الليبرالية الفردية الاجتماعية لا السياسية نجد أن الدولة السعودية تدفع المجتمع نحو دعم هذا النمط الغربي، فالإصدار الجديد من المملكة قام على أفكار دعم الحرية الفردية حيث يروج ولي العهد السعودي لنفسه أنه المصلح الذي دعم الحريات الشخصية والفردية مثل السماح للمرأة بقيادة السيارة وتخفيف القيود على حرية الملبس وسحب صلاحيات هيئة الأمر بالمعرف والنهي عن المنكر، وفتح السينمات وإنشاء الأوبرا.

والإشكالية أن هناك سعيًا حثيثًا داخل المملكة للتمكين لليبرالية الفردية ظنًا من محمد بن سلمان أنه يمكن الفصل بين الليبرالية الفردية والليبرالية السياسية بحيث ينشر الأولى ويمنع الثانية، وهذا وفقا للسنن الاجتماعية وعلم الاجتماع السياسي محال. فالرغبة الجامحة لدى ولي العهد في فرض الليبرالية الغربية على المجتمع قصرًا، سيصطدم حتماً بالمعتقدات الدينية المترسخة لفترات طويلة لدى المجتمع السعودي. وسيتمايز السعوديون إلى تيارين أحدهما محافظ ويمثل المجتمع، والآخر ليبرالي ويمثل الدولة والنخب المحيطة بها. لذلك سيكون من المتوقع تفجر صراع بين التيارين مما ينشئ حالة من عدم استقرار داخل المملكة.