نبيل البكيري – كاتب وباحث يمني، رئيس تحرير دورية “مقاربات”.
لا يزال اتفاق الرياض بين الحكومة اليمنية والمجلس الجنوبي الانتقالي، الموقع في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، حبراً على ورق، رغم كل الضغوط والدفع باتجاه تطبيقه.
لكن نظراً لأنه جاء من خارج سياق الأزمة والحرب كلها، فهو يمثل محطة مهمة من محطات الحرب والسياسة السعودية في اليمن، ومحصلة طبيعية لفشل هذه السياسات، وانكشاف الأجندات المستترة هناك.
قد يقول بعضهم إن هذه الأزمة التي آل إليها اتفاق الرياض جاءت من خارج رغبة السعودية وإراداتها، وسياساتها في اليمن. وهذا في المنطق السياسي والاستراتيجي هو ما يفترض أنه صحيح، لكنه في المنطق السياسي للسعودية الراهنة واقع لا يمكن أن تخطئه العين، في ظل التحولات الكبيرة والدراماتيكية التي تعيشها القيادة السعودية الحالية.
وذلك منذ بدء أزمة الانتقال السياسي في أروقة الأسرة الحاكمة، والذي بدأ بإطاحة جناح محمد بن نايف، خصم حكام أبوظبي، الذين خلت لهم، بإزاحته، أجواء الرياض والتحكّم بقرارها السياسي، إذ يعكس ما يجري اليوم في اليمن جزءا مهما من حقيقة ما يعتمل في المشهد السياسي الداخلي لصناع القرار في العربية السعودية التي يكرّس كل شيء فيها اليوم لاعتلاء محمد بن سلمان الحكم فيها بعد أبيه.
ومن هذه النافذة، تسللت الإمارات، وقدمت نفسها لبن سلمان جسر عبور له في الغرب إلى عرش المملكة، وهذه مقولة غير دقيقة سياسياً، في أبسط تجليات المنطق السياسي، بالنظر إلى المقارنة بين حجم التأثير السياسي لكلا البلدين في المنطقة والمنظومة الدولية ككل، فالسعودية كبيرة ووازنة قطعاً. وربما يغفل فريق محمد بن سلمان هذه الحقيقة، أو يتغافل عنها، تمريراً لأجندات أبوظبي في الرياض.
وبقدر ما يعبّر اتفاق الرياض بين الأشقاء الأعداء في اليمن عن هزالٍ يمني واضح، بغياب قيادة يمنية محترمة، محدثاً فراغاً كبيراً على كل المستويات، فإنه أيضاً يعبر، ببساطةٍ متناهية، عن حجم تورّط السعودية في الملف اليمني، وسوء إدارتها هذا الملف.
فقد أدت كل السياسات الخاطئة للمملكة إلى النتائج العكسية والكارثية والمدمرة جداً، على كل الأصعدة، بالضد لأمنها القومي والاستراتيجي في اليمن، والداخل السعودي أيضاً.
وسواء كانت هذه السياسات أجندات مخفية أم سياسات قصدية واستراتيجية لصانع القرار السعودي، فإنها، في المحصلة، ليست في صالح المملكة وأمنها الاستراتيجي الذي يفترض أن يكون من أولى أولوياته وجود دولة يمنية آمنة ومستقرّة وموحدة.
لأن كل ما ستؤول إليه أوضاع اليمن، سلباً وإيجاباً، فإن السعودية هي المعني الأول به خيراً أو شراً، كما كتب صاحب هذا المقال منذ أول لحظات التواطؤ مع مليشيات الحوثي، لما كانت محصورة في جبال مران في صعدة في عام 2014.
ومن هنا، اتفاق الرياض هو محصلة فشل سياسي وعسكري كبير للمملكة، وتعبير واضح عن تراجع تأثيرها ونفوذها في اليمن الذي كان يمثل حديقة خلفية لها، طوال العقود الماضية، حيث ظل النفوذ والسياسة السعوديان هما سيدا الموقف في كل المراحل، صعوداً وهبوطا.
لكن الرياض تعجز اليوم، كما نرى، عن تحقيق أبسط هدفٍ لها في المشهد اليمني الراهن، لا نقول إسقاط الانقلاب الذي تدخلت لإسقاطه، إنما عجزها التام عن ضبط العلاقة بين من يفترض أنهم حلفاؤها في حرب اليمن المعلنة منذ خمس سنوات، الشرعية والمجلس الانتقالي.
عدا عن هذا، غدا التأثير والنفوذ الإماراتي في اليمن، جنوباً وشمالاً، سيد الموقف، وهو النفوذ الذي تديره أبوظبي باحترافية شديدة، بالتوافق والاتفاق التام مع النفوذ الإيراني الذي تمثله جماعة الحوثي.
فالإمارات اليوم هي صاحبة القول الفصل فيما يتعلق بما يسمى المجلس الانتقالي جنوباً، وكل المليشيات التابعة لها هناك، وما تسمى المقاومة الوطنية والقوات المشتركة في الساحل الغربي، رغماً من إعلانها مراتٍ انسحابها من المشهد اليمني كلياً، فيما لا تزال صاحبة القول الفصل هناك، أمام تراجع الدور والنفوذ السعودي وتلاشيهما.
وبالعودة إلى اتفاق الرياض الذي استبعد تماماً نجاح تطبيقه على الأرض، أولاً لأنه ينتاقض مع كل أدبيات السياسة ومرجعياتها في اليمن، من الدستور والقانون، والمبادرة الخليجية، وقرارات مجلس الأمن الذي تحدث تقرير لجنة خبرائه، في يناير/ كانون الثاني الماضي، عن أن الاتفاق جاء لتقويض الشرعية المعترف بها دولياً.
عدا عن ذلك، إنه يتناقض مع أبسط حقائق بواعث أزمة الصراع جنوباً، وهو إرادة الانفصال وإرادة اليمن الاتحادي، رغم أن إرادة الانفصال غير يمنية قطعاً في ظل انكشاف حاملي مشروع الانفصال مجرد جماعة عدمية، لا تمتلك قرارها بيدها، وإنما هي جماعة مسلحة تنفذ أجندات المموّل.
وإلى ذلك، ثمّة فشل المجلس الانتقالي في التحول جهة مسؤولة عما يعلنه كما رأينا، وانكشافهم في موضوع الإدارة الذاتية التي كشفت عن أنهم عاجزون وفاشلون، ومن دون أي إرادة أو خيال سياسي، فضلاً عن قرار.
الجانب الآخر في الموضوع أن الاتفاق جاء، أساساً، تعبيراً عن عجز سعودي واضح في تحقيق أي استقرار واضح في المناطق التي يُفترض أنها تحت حماية نفوذ المملكة، من خلال الشرعية الحليفة لها، بل كشف الوضع عن عجز سعودي حتى عن حماية الشرعية، كما أظهرت، في الوقت ذاته، ميلاً سعودياً، أو لنقل انحيازاً واضحاً لصالح ما يسمى المجلس الانتقالي.
وهو ميل تعبير عن عجز في التحكّم بهذه الكيان الذي صنعته الإمارات وموّلته وتتحكّم بقراره، وأن محاولة السعودية الظهور بمظهر احتواء هذا الكيان لا يستقيم وعجزها عن تنفيذ اتفاق الرياض الذي ترعاه، وتقدم تنازلات كبيرة لتطبيقه، من خلال الشرعية لصالح المجلس الانتقالي.
ختاماً، يؤشر كل ما تبذله السعودية من جهود إلى حالة عجز واضح في سياساتها تجاه اليمن، والمنطقة عموماً، يتمثل في تراجع تحصد نتائجه ومكاسبه دولة الإمارات الصغيرة، نفوذاً ما كان لها أن تحققه، لولا مظلة النفوذ السعودي المتراجع لصالحها!
وهذا ينبئ بمصير سيئ ليس لمسألة ترتيب خلافة الحكم في المملكة فحسب، بل تهديداً لوجودها السياسي بالأساس، وهو المصير الذي ستكون تداعياته كارثيةً على كل المستويات، فيما يتعلق بمنظومة الأمن الخليجي خصوصا، والعربي عموما، في ظل الانهيارات المتواصلة لمنظومة الدولة الوطنية العربية منذ نشأتها في منتصف القرن الماضي، ما لم تتم مراجعة هذه السياسات العبثية التي تدار بها دولة بحجم المملكة، والدفع بها إلى مغامرات كارثية، عواقبها وخيمة على المنطقة العربية كلها من المحيط إلى الخليج.