بقلم: فهد الغفيلي – كاتب سعودي في الشؤون الخليجية
على مدار عقود؛ اتسمت السياسة الخارجية السعودية بالاعتماد شبه الكلي على “القوة الناعمة” المرتبطة بشكل كبير باستخدام المال السياسي، لشراء الحلفاء والتأثير على الدول والجماعات. إلا أن هذه السياسة دخلت مرحلة الموت السريري مع اعتلاء سلمان بن عبد العزيز عرش المملكة، لتموت بعدها تلك السياسة مع تولي ابنه محمد منصب ولي العهد، وتسلمه من والده -بشكل غير رسمي حتى اللحظة- مقاليد السلطة وزمام الحكم الفعلي.
اختلف الخط السياسي في الدولة كلياً في عهد الأمير محمد أصغر أبناء الملك سلمان؛ حيث بدأت السياسة الخارجية السعودية تتخذ منحى يعتمد على القوة العسكرية كما ظهر جلياً في اليمن، وعلى دعم المليشيات الخارجة عن القانون كما هو الوضع في ليبيا.
وقد اتسمت سياسة بن سلمان هذه بفقدان الرؤية الإستراتيجية، التي تمكنها من فهم متغيرات النظامين الدولي والإقليمي والتعامل معهما، ويرجع ذلك إلى أسلوب بن سلمان الاندفاعي والهجومي في آن، علاوةً على افتقاره إلى الخبرة السياسية اللازمة لإدارة دولة بحجم ومكانة السعودية، إضافة إلى عجزه المتكرر عن تحقيق الاتزان بين طموحه الشخصي وبين ما يجب أن تكون عليه السياسة الخارجية للمملكة.
لم تلتزم السياسة الخارجية السعودية -في عهد بن سلمان- بالمحددات التي وضعتها لنفسها والمتمثلة في “تعزيز العلاقات مع الدول الخليجية، ومراعاة حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى، ودعم العلاقات مع الدول العربية والإسلامية والمصالح المشتركة معها، واتخاذ سياسة الحياد بناءً على تعزيز علاقات التعاون مع البلدان الأخرى”.
فقد افتتحت هذه السياسةُ الخارجية السعودية عهدَها بحرب اليمن، ثم بفرض حصار على قطر، وبالسير في خطٍ أُفقي نحو كسب الأعداء واختلاق المشاكل مع الدول وبينها. فخلال سنوات ولاية عهد محمد بن سلمان، ورغم قلتها؛ تدهورت علاقة السعودية مع دولٍ عديدة عربية وإقليمية وغربية.
فقطعت السعودية علاقاتها مع قطر وكندا، وتدهورت أواصر الروابط مع المغرب، وأصبحت العلاقة مع تركيا مبنية على أساس الحذر والحسابات القلقة، والهجمات الإعلامية تارة، والسكوت تارة أخرى. وبنظرةٍ خاطفة؛ نجد أن الشخصنة والتناقض كانا هما المتحكميْن في علاقات السعودية مع تلك الدول.
افتقاد الخبرة والتهوّر والاندفاع لم تكن هي الأسباب الوحيدة المؤثرة فحسب على السياسة الخارجية السعودية الجديدة؛ بل إن هناك عاملا أساسيا آخر أثر عليها، وهو عدم إدراك محمد بن سلمان لمكانة السعودية الدينية والجغرافية والإقليمية والدولية، أو تعمده -على الأقل- تجاهل النظر إلى أبعاد تلك المكانة.
فمنذ الأيام الأولى لتوليه منصب ولي العهد -في يونيو/حزيران 2017- ناصبت السعوديةُ الجماعاتِ الإسلامية العداءَ، ودعمت “صفقة القرن” وقوى الثورة المضادة وتلاعبت بأسعار النفط.
وبالنظر في أبعاد سياسات بن سلمان الخارجية كلاً على حدة؛ فإن دعم صفقة القرن ومحاربة الجماعات الإسلامية ودعم قوى الثورة المضادة أفقد السعودية مكانة القائد في العالم الإسلامي والعربي.
كما أن تلاعب ولي العهد بأسعار النفط سيُفضي -إذا لم يتراجع في الوقت المناسب عما أقدم عليه- إلى تضرر علاقاته مع أميركا، وتحديداً مع ترامب وصهره جاريد كوشنر اللذين يواصلان التستر على جرائمه وفضائحه، وليس أدل على ذلك من تجاهلهما التام لتوجيه أية إدانة له في ملف اغتيال الصحفي جمال خاشقجي بالقنصلية السعودية بإسطنبول في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018.
أما الأمر الذي يجب ألا يغيب عن الأذهان أبداً عند الحديث عن السياسة الخارجية السعودية الجديدة؛ فهو دور ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد الذي صار يمتلك نفوذاً وتأثيراً كبيرين على محمد بن سلمان، لدرجة أن الإمارات باتت اليوم -ولأول مرة في تاريخها القصير نسبياً- تمتلك تأثيراً كبيراً على السياسة الخارجية والداخلية السعودية.
وبدل أن تتصدر الرياض قضايا المنطقة تسعى أبو ظبي لأن تصبح اللاعب الرئيسي، مستغلة الرياض كوكيل لانتهاج سياسة خارجية أكثر طموحاً.
ومن الملامح الأساسية أيضاً لعهد السياسة الخارجية الجديد الهوس بإنشاء التحالفات التي تفتقر إلى رؤية واضحة تُبقي عليها وتُنجحها، فخلال خمس سنوات أنشأت السعودية خمسة تحالفات عربية وإقليمية، ابتدأتها بإنشاء “التحالف العربي في اليمن” الذي ضم عدداً من الدول العربية، ثم بدأ في التآكل تدريجياً منذ اندلاع الأزمة مع قطر، بحيث إنه لم يبقَ من دول التحالف ذاك سوى السعودية والإمارات اللتين باتتا تتقاتلان بشكل غير معلن في اليمن.
هناك أيضاً “التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب” الذي أعلنت السعودية تأسيسه أواخر عام 2015، بهدف محاربة الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره، على أن يضم 41 دولة عربية وإسلامية. وقد وُلد هذا التحالف ميتاً كما هو معلوم، حتى إن بعض الدول استغربت الزجَّ باسمها ضمن أسماء الدول المشاركة فيه.
“الناتو العربي” (ميسا – MESA) هو اسمٌ لتحالف فاشل آخر، بدأ كفكرة طرحها الرئيس دونالد ترامب عام 2018 بهدف مواجهة إيران في المنطقة، لتعلن السعودية في عام 2019 استضافتها اجتماعا يضم أميركا والإمارات والبحرين والكويت وعُمان وقطر والأردن في إطار التحضير لإطلاق “التحالف”، بينما لم تشارك مصر في الاجتماع رغم دعوتها إليه.
وقد بدت فرص تشكيل “الناتو العربي” ضئيلة منذ الإعلان عنه؛ إذ أفرزت الأزمة الخليجية انقساماً عربياً كبيراً وشرخاً سياسياً غير مسبوق في دول مجلس التعاون الخليجي، إضافةً إلى صعوبة اتفاق دول هذا “التحالف” على ملفات وأولويات وتهديدات ذات طبيعة محددة.
“تحالف البحر الأحمر” هو تحالف من المفترَض أن يكون ذا علاقة وثيقة بحرب اليمن، وخاصة مع ازدياد وتيرة التهديدات التي يشهدها مضيق باب المندب، الرابط بين البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب.
كما كان من المفترَض أن يضمن هذا التحالف التنسيق والتشاور بشأن هذا الممر المائي الحيوي، على أن يضم ثماني دول هي السعودية والسودان وجيبوتي والصومال وإريتريا ومصر واليمن والأردن.
لكن هذا التحالف أيضاً اتّسم بتناقض دوله واختلاف أولوياتهم وأهدافهم؛ فالقيادة المصرية مثلاً -وهي الحليف الأقرب إلى السعودية- لا تمتلك ذات الرؤية التي يريد محمد بن سلمان فرضها بشأن التهديدات والمخاطر هناك.
وأخيراً؛ يظهر فشل “التحالف الرباعي” الذي يضم الدول المقاطعة لقطر، وهي: السعودية والإمارات والبحرين ومصر؛ وقد أُنشئ التحالف لتنسيق الجهود والاتفاق على سياسات محددة لمواجهة قطر، حيث اتفقت دول التحالف على وضع 13 مطلباً وربطت إنهاء المقاطعة بموافقة الدوحة على هذه الشروط، وقد فشل التحالف في إجبار قطر على الموافقة على تلك الشروط رغم فرض حصارٍ عليها.
مما لا شك فيه أن ولي العهد السعودي لم يساعد أياً من هذه التحالفات على تحقيق الأهداف المرجوة منه، ذلك أن القاسم المشترك بين هذه التحالفات هو افتقارها إلى رؤية واضحة، واستحالة اتفاق دولها على أهداف مشتركة لها، إضافةً إلى تناقض مكونات هذه الأحلاف؛ فكيف يتم مثلاً إنشاء تحالف ضد قطر وفي الوقت ذاته يتم إنشاء “ناتو عربي” يجمع قطر بدول المقاطعة؟!
أدخل ولي العهد محمد بن سلمان إذن السعودية في حالة من عدم التوازن السياسي، بسبب سياساته القلقة تلك وتحالفاته المضطربة؛ مما تسبب في إغراق البلد في الكثير من النزاعات الإقليمية والدولية، وأدى إلى القتل البطيء لمكانتها الدينية وتأثيرها السياسي، علاوة على خسارتها الكثير من علاقاتها مع دول مجاورة وإقليمية وعالمية.