ينظر الكثيرون إلى استئناف السعودية للعمليات في اليمن بعد اندلاع الاشتباكات الحكومية مع “الحوثيين” مرة أخرى في يناير/كانون الثاني، على أنه إجراء أمني جيوسياسي للحفاظ على ما تبقى من سلطة للرئيس اليمني الشرعي.
ومع ذلك، تعد أفعال المملكة تجاه جارتها الجنوبية نتاجا ثانويا للقومية المفرطة في الرياض، التي دفعت السعودية لخوض مغامرتها في السياسة الخارجية.
وقد توسع هذا الحماس منذ أن أصبح “محمد بن سلمان” وليا للعهد في 2017. ومنذ ذلك الحين، قمع الأمير الشاب معارضي النظام والناشطين الحقوقيين، بينما قاد حملة تطهير طالت شخصيات ملكية ووزراء ورجال أعمال سعوديين جاءت تحت مسمى حملة “مكافحة الفساد”، وقد رسم ذلك صورة جديدة للمملكة. وكانت وسائل التواصل الاجتماعي والحملات الإعلامية حاسمة في تعزيز هذا الوجه الإصلاحي للمملكة.
وبالرغم أن هذه القومية تعتبر ظاهرة جديدة، على النقيض من صورة المملكة التقليدية المحافظة للغاية، فقد كانت الروايات القومية السعودية هي التي دفعت السياسات التوسعية للملكة منذ تأسيسها عام 1932.
وخلال الخمسينات والستينات، ركزت السياسة الخارجية على مواجهة القومية العربية المصرية التي روج لها “جمال عبدالناصر”.
واعتبرت السعودية أن اليمن جزء من أراضيها، وسعت لدمجها تحت لواء المملكة والتأثير على سياساتها، لجعلها أكثر اعتمادا على الرياض. فقد سعت إلى ثورة مضادة ضد الثورة الجمهورية المدعومة من مصر في شمال اليمن عام 1962، ومولت نمو السلفية في البلاد منذ الثمانينيات.
وقد استخدمت الرياض الدين كأداة لأجندة “السعودية أولا” الخاصة بها.
ومع ذلك، منذ عام 2015، تطورت في المملكة القومية الإصلاحية ذات الميول العلمانية بالتزامن مع الموجة العالمية الحالية من القومية الشعبوية، حيث تعطي العديد من الدول أولوياتها لمصالحها الوطنية الخاصة.
وبصفته القائد الشاب لهذه الدولة ذات القومية المفرطة، فقد تخلى “بن سلمان” عن السياسات الخارجية التقليدية، واتخذ إجراءات أكثر جرأة وعدوانية تجاه اليمن وقطر وإيران.
وقد حاولت “رؤية 2030” رسم صورة جديدة للملكة مع السعي لإنشاء طرق جديدة للاستثمار وتقليل اعتمادها على النفط. وأكدت هذه الرؤية القومية السعودية الجديدة التي نتحدث عنها. وتهدف تلك الرؤية إلى تقليل الانطباع النموذجي عن السعودية كمملكة محافظة للغاية، ومنحها بدلا من ذلك صورة “حديثة” جديدة لجذب المستثمرين.
وتسببت هذه الطفرة القومية أيضا في تعزيز الجانب العسكري حتى تصبح المملكة قوة إقليمية مهيمنة. وأصبحت السعودية أكبر مستورد للأسلحة في العالم من عام 2014 حتى عام 2018، حيث زادت مشترياتها بنسبة 192% مقارنة بالفترة 2009-2013. كما كانت هناك تكهنات بأن الرياض تعمل على تطوير قدراتها النووية الخاصة لمحاربة إيران.
وبالرغم أن المملكة قالت إن خطتها للتطوير النووي سلمية، وأنه من المرجح أنها تسعى إلى الحصول على التكنولوجيا النووية وليس قنبلة فعلية في هذه المرحلة، قال “بن سلمان” عام 2018: “بلا شك، إذا طورت إيران قنبلة نووية، فإننا سوف نحذو حذوها في أقرب وقت ممكن”.
وقد اعتبرت المملكة تمرد الحوثيين في سبتمبر/أيلول 2014 بمثابة توسع لوكيل إيراني يهدف إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة.
وبحثا عن طريقة لإخماد التمرد الحوثي في اليمن، تدخل “بن سلمان” في مارس/آذار 2015 كوزير للدفاع السعودي في ذلك الوقت. لذلك يُنظر إليه على أنه مهندس الحرب السعودية في اليمن.
وبالرغم من إضرار التدخل الكارثي باستقرار اليمن وصورة المملكة، إلا أن عملية “عاصفة الحزم” غرست إحساسا أكبر بالحماسة القومية داخل المملكة، الأمر الذي شجع بدوره جهودها الحربية. والآن ترفض الرياض أي شكل من أشكال الانسحاب لتجنب قبول الهزيمة وفقدان ماء الوجه أمام المواطنين.
ويتضح هذا الحماس القومي في المواقف السعودية تجاه تركيا. ويُظهر تغيير المملكة لمصطلح “الإمبراطورية العثمانية” إلى “الاحتلال العثماني” في الكتب المدرسية عداءها تجاه أنقرة في عهد “رجب طيب أردوغان”، الذي تعتبره الرياض منافسا إقليميا آخر.
وفي الوقت الذي تقوم فيه السعودية بسحق كل معارضة لنظامها في الداخل، أدت حساسيتها المفرطة للنقد إلى الكثير من العدوانية مع الدول الأخرى إقليميا وعالميا.
علاوة على ذلك، بينما تسعى المملكة إلى وضع نفسها كزعيم لمجلس التعاون الخليجي، فقد عقدت العزم على حصار قطر وشيطنتها. ودفع نهج الدوحة المستقل عن السياسة الخارجية للرياض والإمارات ومصر والبحرين إلى فرض حصار عليها منذ يونيو/حزيران 2017، لإجبار قطر على الانسجام مع بقية دول مجلس التعاون الخليجي.
ومن خلال تقديم نفسها كقوة استقرار ضد دعم قطر المزعوم للإرهاب، تستخدم الرياض الخطاب القومي لتبرير معارضتها لجارتها. وأثار هذا الشعور انقسامات أكبر في مجلس التعاون الخليجي.
ودفعت رغبة الرياض في الحفاظ على صورة عالمية إيجابية إلى اتخاذ إجراءات غير منطقية تجاه حلفائها الغربيين أيضا. وفي أغسطس/آب 2018، دخلت المملكة في خلاف دبلوماسي كبير مع كندا، بعد أن عبرت وزارة الخارجية الكندية على “تويتر” عن قلقها بشأن اعتقالات الرياض للعديد من المجتمع المدني وناشطات حقوق المرأة.
وردت السعودية بطرد سفير كندا وإنهاء العلاقات التجارية معها، وانتقدت ما وصفته بتدخل كندا “العلني والسافر في شؤونها الداخلية”.
ويمكن لمثل هذا الخطاب القومي أن يضر بالرياض على المدى الطويل. فلقد قوض إلى حد ما صورتها الدبلوماسية. وإلى جانب مشاريعها العدوانية ضد اليمن وقطر، أضرت فظائع أخرى، مثل مقتل “جمال خاشقجي” في إسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول 2018، بجهود حملة العلاقات العامة للترويج لصورة السعودية الجديدة.
وقد أدى هجوم صاروخي على منشآت “أرامكو” النفطية في سبتمبر/أيلول الماضي إلى دفع الرياض إلى حد ما إلى اتخاذ موقف دبلوماسي أكثر مرونة تجاه إيران و”الحوثيين”. ومن الواضح أن الهجوم جاء بمثابة صدمة للمملكة، حيث أظهر أن سياساتها كانت تأتي بنتائج عكسية ويمكنها أن تعرض الاقتصاد السعودي للخطر.
في النهاية، يتضح للمملكة أن مواصلة موقفها القومي والعدواني المفرط في المنطقة وخارجها قد يزيد من عزلتها ويضر بصورتها.