د. عبد الله العودة
منذ الربيع العربي، أبانت الشعوب العربية قدراً هائلاً من التقدم، بينما كشرت الأجهزة الاستبدادية عن أنياب التخلف والهمجية. ولم تكن حالة جمال خاشقجي إلا نموذجاً على سردية الربيع العربي تلك: السردية التي تكشف تقدّم الشعوب وتخلّف المستبدين.
حسب رواية الشهيد الكاتب جمال خاشقجي -رحمه الله-، ففي عام 2011م عندما كان الملك عبد الله بن عبد العزيز في المغرب في فترة نقاهته، وأثناء صخب الأحداث الإقليمية المرتبطة بالربيع العربي، تداعت الأسرة المالكة بتوجيهٍ من الملك عبد الله آنذاك وأقيم اجتماعٌ كان يفترض أن يرأسه الأمير سلطان، ولكن بسبب وضعه الصحي أيضاً فقد رأس ذلك الاجتماع الأمير نايف -رحمهم الله جميعاً-. وكان غرض الاجتماع تناول موضوع التعامل مع استحقاقات الربيع العربي وقضايا الحقوق والحريات، والديمقراطية والثورات المجاورة، وكيف يجب أن تتعامل المملكة العربية السعودية مع كل ذلك.
ومع أن تفاصيل ذلك الاجتماع وتوصياته لم تكن معلنة، فإن الأستاذ جمال يؤكد من مصادره في الديوان الملكي وقتها أن أهم مقترحات ذلك الاجتماع كان “تبني المشاركة الشعبية عبر مجلس شورى منتخب شعبياً”. وبرغم أن الحضور كان محصوراً على الأمراء النافذين، فإن هذا المقترح لاقى قبولاً من معظم الأمراء الذين شهدوا ذلك الاجتماع باستثناء شخصين: الملك سلمان بن عبد العزيز الذي كان أميراً حينها، والأمير خالد الفيصل.
ذلك الاقتراح المهم والذي تم إجهاضه في مهده، يبيّن استعداد شريحة مهمة وكبيرة بل والأغلبية حتى داخل العائلة الحاكمة في السعودية، فضلاً عن العوائل السعودية الأخرى والشعب السعودي العظيم، لتبنّي الخيار الشعبي وقبول الشراكة السياسية والإصلاح الدستوري المهم واعتماد الآليات الشورية في القرار.
وذلك الاجتماع لم يكن يتيماً، ولا فريداً؛ ففي لحظات مختلفة من التاريخ السياسي السعودي كانت هناك رغبات وتصريحات مختلفة من قِبَل أمراء نافذين وملوك سابقين نحو تبنّي الحكم الشورَوِيِّ والمشاركة الشعبية، مما يعكس حضوراً دائماً لفكرة اللجوء إلى الناس.
هل كان هناك إدراك بأن الحل يجب أن يكون في الإصلاح الدستوري، وضرورة اللجوء إلى الشعب في تقرير مصيره؟ أو كانت مناورة سياسية مؤقتة وحلّاً شكلياً؟ لا يهم ما دام هناك اعتبارٌ لدور الناس وقناعةٌ بحتمية إشراكهم في القرار للتعامل مع الأزمة الآلية.
قد يكون الربيع العربي كما نعرفه خفّ وَهَجُه وخَبَا أثره في الظاهر، إلا أنه مزروع في باطن الأمة يجري منها جريان الدم، يحرث فيها الأسئلة الدائمة حول حقوق الشعوب. فالسؤال الحتمي الذي سيبقى كابوساً يراود كل المستفردين بالسلطة؛ هو كيف لك أن تَحكم الناس وتقرر مصائرهم وتوزّع ثرواتهم وتستجدي منهم الضرائب والأموال وتستجلب منهم النفع ثم لا تشركهم في إدارة شؤونهم؟!
لقد كان حل الإصلاح الدستوري خشبة إنقاذٍ متفقاً عليها بين كل الأطراف تقريباً، وحلّاً مقبولاً حتى لدى أغلبية الأسرة الحاكمة في السعودية التي تدرك أن أهم ضمانة لها هي اللجوء لأهم عنصر في البلاد: الشعب، والتي تدرك أن أعظم تحالف هو التحالف مع القوى الشعبية، وأنّ أرسَخ مصالحة هي المصالحة مع الناس وقيمهم. لماذا يتم تجاهل الحل الأهم في العالم والحل الأوضح: الحلّ الذي يقضي باللجوء إلى الشعب والناس وإشراكهم في مصائرهم وتدعيم وجودهم؟
إشراك الناس في مصائرهم وإنشاء آليات دستورية للتمثيل الشعبي هو الإصلاح الأقل كلفة والأكثر أماناً. والذين يقفون ضد هذا الخيار يفضّلون أن يبقى الوطن على كفّ عفريت وفي مهب ريح المفاجآت العاصفة التي تنتابنا بين فينة وأخرى؛ بسبب الاستبداد المطلق في القرار الاقتصادي والاجتماعي والديني والسياسي. أليس من العدل أمام هذا الشعب السعودي الشريف الذي يشارك في صناعة الميزانية ويشارك من جيبه في تنويع مصادر الثروة للبلد، أن يشارك في إدارة هذه الميزانية عبر ممثلين منتخبين يشرفون على عدالة توزيع الثروة والميزانية ويمارسون رقابة شعبية تكافح الفساد بشكل حقيقي وعبر أدوات شعبية مستقلة، لأنه لا يمكن للجهات القديمة التي سمحت بالفساد وشاركت فيه أن تشارك في مكافحته والحرب عليه، ففاقد الشيء لايعطيه -كما يقول العرب.
الإصلاح الدستوري سيكون هو الدعامة الحقيقية لأي إصلاح اقتصادي واجتماعي وديني، فالإصلاحات هذه المرة ستكون بعيدة المدى وتحت إشراف شعبي يضمن فيه الاستقرار المستدام الذي يتكئ على الشعب، لأن أي إصلاحات مهما كانت جيدة حينما تتكئ على جهد الفرد فإنها أولاً: تخضع لعوامله الشخصية ونزعاته ونزغاته.
لا يمكن للفرد المستبد أن يكون إصلاحياً ببساطة لأن الإصلاح يبدأ من مكافحة الاستبداد، فعبارة “الاستبداد الإصلاحي” أو “المستبد العادل” متناقضة في ذاتها تماماً كأن تقول”الظلم العادل ” أو “الحق الباطل”.
ولم تكن فكرة “الاستبداد الإصلاحي” مستخدمة إلا أثناء حملات الاستعمار للترويج للشخوص الاستبدادية. كانت أسطورة “الاستبداد الإصلاحي” تقوم أساساً على احتقار “الشرقيين” والعرب والمسلمين، فهم حسب ذهنية الوصاية الاستعمارية لا تصلح لهم الحريات والمشاركة الشعبية؛ إذْ أنّهم شعوبٌ “همجية” و”متخلفة” ولذلك يكون عبء التنوير -حسب هذه الأسطورة الاستعمارية- على كاهل المستبد “المستنير”.
ومنذ الربيع العربي، أبانت الشعوب العربية قدراً هائلاً من التقدم، بينما كشرت الأجهزة الاستبدادية عن أنياب التخلف والظلم والتعسف والهمجية. ولم تكن حالة الشهيد الحر الأستاذ جمال خاشقجي إلا نموذجاً ومثالاً مهمّاً وحديثاً جدّاً على سردية الربيع العربي تلك: السردية التي تكشف تقدّم الشعوب وتخلّف المستبدين، فحادثة القنصلية المشؤومة كشفت عن تحضر وتقدم وتفوق خطاب خاشقجي صاحب النبرة الهادئة واللغة اللطيفة واللسان العذب، بينما كشف خصومه وأعداؤه عن همجية وتخلف وبربرية، فنحن هنا أمام مستبد ظالم متخلف، مقابل شعب متعلم متقدم متفوق على أنظمته وأجهزة الاستبداد فيه.
لذلك، لكي نضمن إصلاحاً حقيقيّاً وتنمية مستدامة يجب أن نعقد ذلك على أعناق الشعوب ونكِل ذلك إلى اختيارها الحر وإرادتها .. ولن يكون كل ذلك إلا بإصلاح دستوري يحفظ منجزات الوحدة ويحترم العائلة، بينما وهو العنصر الأهم – يقدّم الشعب كشريك حقيقي يعبّر عن نفسه في مؤسسات شعبية تمثّله وتخضع لإرادته.