بقلم/ فهد بن حذافة

لم أظن لوهلة أن يأتِ حينًا من الدّهر لا أشّجع فيه نادي النصر، فكيف برح من قلبي الآن؟ وأتفهّم عزيزي القارئ حين تلمح عنوان المقالة بأن لك كامل الأحقية في تجاوز قراءته بعد اطلاقك ضحكة هزء صغيرة، ففي الشرق حكومات مهووسة بالتسلّح للحفاظ على عروشها، ميلشيات محمومة تحلم في مشاركة طغاتنا بالسلطة، شلالات من الدماء، جثث مطموسة الملامح تجري فحوصات الدي أن أي لمعرفة هوية أصحابها، وأنا هنا لاجئًا سياسيًا نائيًا في كندا بأقصى الغرب، بغرابة أرفع يافطة “أعد لي النصر يا محمد بن سلمان”، ولكن لعَمري لا أحد يعلم تفاصيل الحكاية التي تثقب قلبي المثقوب، في يوم 4 يناير عام 2020 أذكر جيدًا وثوبي عاليًا وبفرح طاغٍ في إحدى مقاهي الرياض بعد أن تصدى “براد جونز” لضربة الجزاء الأخيرة أمام التعاون ليعلن فيها تحقيق النصر فوزه ببطولة كأس السوبر، وفي ٤ فبراير عام 2020 أي بعد شهر تمامًا، أذكر جيدًا أنّي هبطت من تلك القفزة الجذلة، وعبرت بخطوة ثقيلة وحزينة إلى الأراضي الكندية مقدمًا أوراق لجوئي.

وها أنا من المنفى بأقدامي العالقة منذ 3 سنوات أنظر للنصر، أوقت ساعتي مع نزالاته وأمد بصري إليه بشغف منذ انطلاق صافرة حكم المباراة حتى صافرة النهاية، كان النصر سلوى، وفي حياتنا إن متابعة كرة القدم من ناحية اجتماعية تمثّل تخلّينا قليلاً عن جدّية الحياة ومناغاة محببة تنفّس عن أرواحنا ساعة من مصير واقعنا الذي أوداه بنا ولاة أمرنا بخططهم الفاشلة وجيوبهم الواسعة. وبالنسبة لي كمرء ظن واهمًا أنّه سيسير برفقة النادي الذي أحبّه حتى نهاية العمر.

أزعم أن النصر قبل أصابع محمد بن سلمان كان مرحلة وجدانية متوهجة في نفسي، فقبل أن يقتلعه كما أقتلع كل ما هو ثمين في البلاد، كنت -بتكرار لا أملّه- أقول للرفاق الهلاليين بنبرة تشبه نبرة إلقاء قصيدة: “النصر هو النادي الوحيد في العالم الذي ليس لديه مشجّعين فهو لديه محبّين فقط لأنه بالأصل خُلق شجاعًا، وكونكم تسخرون منّا لجراء أن البعض لا يعرف من أسس النادي فأنا أعلم من أسسه، من أسسه هو الفن والموسيقى والأدب والشعر والقيم الجمالية الكبرى، أمّا عن بطولاتنا الذين تصرحّون عن قلّتها وعن جهلنا بعددها فأنا شخصيًا لا أعرف كم عدد بطولات النصر لسبب بسيط لأن النصر بحد ذاته هو البطولة الأسمى والأهم”.

وبعملية إعادة تصفية وتصنيف ذاتيّة أقوم باستمرار في تفتيش جيوب قلبي وأعلى أكتافي باحثًا عن الأشياء التي علقت معي من الوطن الذي أهدرني، أعالج ذاكرتي، وكان النصر راسخًا مثل حلم، فهو حقًا لا مجازًا صوت طفولتي وخلفية حياتي ونداء البهجة الأوحد، وإن إعراب جملة “كان النصر”: فعل ماضٍ مسروق مبني على ذاكرة طريّة لا تجف، وأسباب سرقها محمد بن سلمان، الظاهر في الإعلام السعودي من أولّه إلى آخره، ولا مساحة للحديث عن علامات نصبه لأن رقعة هذه الزاوية لا تتسع.

في 30 ديسمبر 2022 لقد انبلجت المأساة حين أُعلن أن “كريستيانو رونالدو” سيتقاضى أكثر من مليار ريال من أموالنا لأجل اللعب في نادي النصر بدلاً من أن يُسد بالمبلغ جوع المعوزين وعوضًا عن أن تتأنق الأحياء الشعبية بدلاً من ترهّل مبانيها وطرقاتها ومنشآتها الحكومية ودون أن ينال منها الشباب والشابات المهدرين رواتب تقي أرواحهم من التعب، فقد كان يجب أن أتّخذ قرارًا لأصطف مع الناس وانحاز مع الوطن، تاركًا النصر لمحمد بن سلمان وزمرته، فإنه الآن تشرّع لي فصل جديد من الحياة بكامل غرائبيتها حيث ويا للعجب لم أعد أفرح حين يسجّل النصر هدفًا ولا أحزن حين تُمنى شباكه بهدف، والدليل الدامغ على هجري له هو أنّي اليوم لم أعد أبغض الهلال كغريم تقليدي للنصر ولي، بل أنّي منذ هجري للتشجيع حرصت أن لا أرى مباراة واحدة في الدوري السعودي بعد العملية الحكومية الممنهجة للغسيل الرياضي، إذ يسري حاليًا منعطفًا وتحولاً خطرًا للبلاد لكني أعدّه سلوكًا طبيعيًا فإن بعد مأساة حرب اليمن واغتيال جمال خاشقجي – رحمه الله – من الطبيعي أن نشهد أكبر عملية غسيل سمعة لتنظّف السلطة عنها عار الدماء التي ستبقى أبديةً علامةً ونيشانًا لطغيانها.

فقد كان اللاعب الأكثر شهرة في العالم “كريستانو رونالدو” هو الخاتم الذي عقد فيه النظام السعودي قرانه بوضوح مع الغسيل الرياضي، والأسى في هذا المنعطف أن الأندية الرياضية بما فيها النصر لم تعد اليوم بعد السياسة الجديدة تجلس معنا في مجالسنا الضيقة ومقاهينا المتواضعة ولم تعد تعرفنا ولا نميز دفئها القديم، بل أصبح لها حيّزًا في مجلس الوزراء لتبحث عن فرص إعلانية كي تشحذ قبول العالم بها وبسلطتها الرعناء، فلا شك سيستمر هذا الغسيل الأهوج ولحسن الحظ لو كان عيانًا لطفحت مدننا البائسة كما تغرق مع كل مطرة ولكنه غسيلاً لا يُغرق بل سيجفف بعضًا من آبار النفط ليذهب ريعها استجابةً لأهواء من يأمر ولا يرد طلبه ولا يُناقش عن أولويات الانفاق المالي وجدوى المشاريع التي تلمس احتياجات المواطن المطموس في هذه اللعبة، لا أعني لعبة كرة القدم بل لعبة حكمهم لنا.