التحركات المكوكية التي قادها وزير خارجية قطر عبدالرحمن آل ثاني الذي زار الرياض، ردا على زيارة وفد سعودي للدوحة، ترافقت مع اجتماعات ثنائية لحلفاء الأزمة، إذ حل الرئيس التركي ضيفا على الدوحة، في وقت مقارب لزيارة ولي العهد السعودي لأبوظبي.

وصفت هذه الخطوات بأنها استعراض أطراف الأزمة لأقوى أوراقهم الإقليمية في خضم مفاوضات محمومة، سبق ذلك كله سماح الدول الخليجية المشاركة في حصار الدوحة لمنتخباتها بالمشاركة في البطولة الخليجية الكروية والتي انتهت بفوز أحدها (البحرين) بكأس البطولة.

النشاط الخليجي المحموم اختتم رسميا بدعوة وجهها العاهل السعودي لأمير قطر لحضور اجتماعات القمة الأربعين لمجلس التعاون، والتي عقدت  بالرياض اليوم 10 ديسمبر/كانون الأول الجاري. ورغم أن أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني لم يحضر، لكنه أوفد رئيس وزرائه لينوب عنه.

ولوحظ أيضا خلال الشهر الأخير خفضا للتراشق الإعلامي بين الأطراف، فيما اعتبرها الآخرون مناورة سعودية – إماراتية للتلاعب بالقطريين و”تعشيمهم” بسراب مصالحة لم تتحقق بعد الظروف الموضوعية لإتمامها.

يضاف إلى ذلك تغير نبرة قناة الجزيرة ومواقعها الرديفة تجاه السعودية، وتوقفها عن استضافة المعارضة السعودية بشخوصها القديمة والجديدة على شاشاتها. كما أن عددا من أهم الحسابات الإلكترونية القطرية في موقع “تويتر” قد أعلنت توقفها عن التغريد صراحة توافقا مع المستجدات.

ويلفت الانتباه كذلك، حرص حسابات سعودية مؤثرة في “تويتر” على نشر رسالة تستنهض مبدأ (السمع والطاعة) لولاة الأمر في توصيف المشهد وتحديد آلية الاستجابة والتفاعل مع مستجدات الملف وعدم التعدي على صلاحياته بإبداء موقف مستقل

 

تجاهل أبوظبي

خطوات التقارب والتي كان في مقدمتها تراجع الرياض مصحوبة بأبوظبي والمنامة عن قرار مقاطعة فعاليات بطولة خليجي ٢٤ والتي اختتمت في الدوحة الأحد بفوز بحريني بالكأس للمرة الأولى في تاريخها، فسرته وكالة “بلومبرج” على أنه بادرة مصالحة تلوح في الأفق، أكدها تصريح مسؤول سعودي رفض الكشف عن هويته.

وأيا ما كانت صغر الخطوة للمراقبين من الخارج، فإن ترافقها مع تراجع ملحوظ في حدة الهجوم الإعلامي على الرياض في برامج “الجزيرة” ومواقعها الإلكترونية، قد أعطى الانطباع بأن “تغيرا ما” قد أصاب حالة الجمود التي لازمت خطابا إعلاميا تحريضيا من الطرفين، سخّرت لأجله القنوات الإعلامية وحسابات في مواقع التواصل الاجتماعي.

لكن التهدئة الإعلامية من طرف الدوحة لم تشمل أبوظبي على ما يبدو، لتستمر الانتقادات الموجهة لها بذات الوتيرة، رغم حرص مغردين إماراتيين نافذين على توصيف المصالحة الجارية بأنها شاملة لكافة أطراف الأزمة بما فيها أبوظبي.

وتبدو الإشكالية الكبرى لحلحلة الأزمة في صعوبة تفريغ بالون التعبئة الجماهيرية التي سخّرت لها الرياض وأبوظبي جهود مئات الإعلاميين وعشرات المواقع والصحف، هذا عدا عن آلاف حسابات مواقع التواصل التي رسخت قناعة لدى المتابعين بمسلمات من قبيل (تنظيم الحمدين، الخيانة، دعم الإرهاب، صبر ٢٠ عاما، الحل في الرياض).

وربما أيضا لم يدر بخاطر من ألقى هذه الألغام بخطورة إقناع الملايين في ظل صراع طبيعته (غير صفرية)، إذ يتوقع أن تتطلب الاستدارة المفاجئة في خط التوصيف الإعلامي فترة هدوء، يترقب فيها مخططو التوجيه المعنوي تناسي المتابعين للتوصيفات السابقة ضد الخصم القطري.

 

تفريق بين الخصوم

للمتابع تبدو السياسة الخارجية القطرية وكأنها تفرق منهجيا بين فئات محاصريها الأربع، فبين “دول المركز” التي خططت للحصار وأدارت جل فعالياته وتحملت تبعاته السياسية وهي الإمارات والسعودية، أما “دول الأطراف” التي أيدت وشايعت الإجراءات لضرورات التحالف السياسي وهي في هذه الحالة البحرين ومصر.

منذ اليوم الأول كان الجهد القطري منصبا على ضرورة التعامل الفردي مع دول المركز بمستويات مختلفة من التصعيد والمواجهة مع تجاهل تم للدول الطرفية والأخرى التي أصدرت تصريحات مجاملة هنا وهناك.

ففي الوقت الذي اعتمدت فيه الدوحة على المواجهة القانونية مع أبوظبي -لاستشرافها لمدة صراع طويل وإستراتيجي- حرصت على حصر مواجهتها للرياض على الفضاء الإعلامي بشقيه التقليدي والإلكتروني، وهي التي يمكن التحكم بدرجتها وحدتها بشكل آني.

يأتي ذلك على عكس إجراءات التقاضي الدولية الطويلة والمعقدة، والتي سبق للدوحة أن جربتها أثناء إدارتها لأزمة جزر حوار مع جارتها البحرين أواسط الثمانينات، وهي الإجراءات التي احتاجت ١٤ عاما من التقاضي الدولي المكلف، والذي انتهى في خاتمة المطاف بحكم لصالح البحرين عام ٢٠٠٠.

 

استبدال الزياني

وجوه الأزمة التي احترقت على مدى العامين السابقين والتي تلبست بتخوين الدوحة والمشاركة في حفلات الهجوم الإعلامي كان عليها هي الأخرى أن تغادر المشهد.

في مقدمة المغادرين برز اسم البحريني عبداللطيف الزياني الذي شغل منصب الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي بأداء أقل ما يوصف بـ”الباهت” في مسيرة أمناء المجلس الذي يقارب إتمام عقده الرابع من العمر.

الزياني تقرر استبداله بوزير المالية الكويتي المستقيل نايف الحجرف، ويتوقع أن تكون أول مهام الأمين العام الجديد بعد استلام منصبه عقب المصادقة على ترشيحه في اجتماع قمة الرياض الحالية، السعي لتثبيت إجراءات المصالحة “الهشة”، عبر التركيز على إجراءات بناء الثقة ومتابعة خطوات التهدئة المتبادلة.

انتماء الأمين العام الجديد لدولة محايدة في الأزمة القائمة سيشكل عامل تقوية للأمانة العامة يساعدها في أداء أدوارها القادمة. ويتوقع مراقبون أن يكون على رأس أولويات الحجرف في أيامه المقبلة استحداث آلية فاعلة لإدارة الأزمات والتعامل مع الخلافات بين الدول الأعضاء.

 

من الوسيط؟

منذ بداية الأزمة، شكل الحديث عن الوساطة الكويتية لأزمة إعلامية مقرونة بشكر من قبل القطريين وتجاهل تام من معسكر دول الحصار، فإن الوساطة حسب تصريحات سابقة لأمير الكويت، كان لها دور كبير في منع تفاقم الأزمة وتطورها لهجوم عسكري على الدوحة من قبل جيرانها.

الشكر المتواصل للوسيط الكويتي هذه المرة كان مستغربا في ظل انشغال الكويت بمشاكلها الداخلية وأزمات فساد محتمل ترافق معها تراجع الحالة الصحية لأمير الكويت والتي اضطرته للسفر خارج البلاد لتلقي العلاج.

اللافت في هذا السياق ما أشيع عن ضمانات فرنسية للمصالحة قدمها وزير الخارجية الفرنسي لنظيره الأمريكي في زيارة قام بها الأخير لواشنطن. الضمانة الفرنسية تبدو في حكم الضرورة للدوحة التي ترى في باريس عنصر ثقل مكافئ تمثل ضمانته تأكيدا على جدية واشنطن هذه المرة في التوصل لحل دائم.

 

استشعار الخطر

سعي السعودية للإسراع في حل الأزمة الخليجية رآه البعض منسجما مع الانعطافة القوية في سياستها الخارجية، والتي انتقلت خلال عامين من استعراض العضلات وافتعال المشكلات مع اليمن وقطر ولبنان وكندا والمغرب وسويسرا وألمانيا وتركيا، إلى “واقعية” يقودها وعي بالحجم الحقيقي للقدرات والإمكانات.

وتتزامن خطوات الغزل المتبادل مع الدوحة بزيارة وفود سعودية عالية المستوى يقودها نائب وزير الدفاع السعودي إلى مسقط، في محاولة تحقيق اختراق على صعيد ملف الحوثيين بعد أن شهدت الرياض سابقا توقيع اتفاق بين الحكومة اليمنية والمجلس الجنوبي الانتقالي الذي يسيطر على مقاليد الأمور في عدن.

لعل التساؤل الأهم في ظل هذه التطورات، هل استشعر ولي العهد السعودي الشاب قرب هبوب رياح التغيير بواشنطن والتي قد تؤدي إلى اقتلاع الحليف الموثوق ترامب أو على الأقل تقليل حظوظ إعادة انتخابه رئيسا لفترة ثانية؟ ويتردد أن “التصفير” جاء بعد ضغوط أمريكية بدأت تعلو أصواتها عقب نزع تصريح جاريد كوشنر الأمني وتحجيم دوره في إدارة ملف العلاقة مع الرياض لصالح الجنرال السابق والسفير الحالي جون أبي زيد والذي شغل مقعدا ظل شاغرا منذ تولي ترامب للسلطة مطلع ٢٠١٧.

وبعيدا عن المطالب الـ١٣ التي أعلنتها الرباعية أوائل أيام الحصار، تبدو الرياض في الوقت الراهن أكثر مرونة في التوصل لحل براجماتي تتضمن شكلياته تحقيق مكاسب تضمن لها حفظ ماء الوجه.

وتتصدر هذه المكاسب توقيع اتفاق المصالحة في الرياض مع إيقاف الهجمات الإعلامية وأنشطة مجموعات الضغط في العواصم الغربية الممولة قطريا، وفي مقابل ذلك تتحصل الدوحة على أجواء مفتوحة لمرور طائراتها والسماح بالسلع السعودية للعودة للأسواق القطرية، مع تمكين القطريين والمقيمين من الحج والعمرة بالطرق المعتادة.

ويتوقع أن يظل التوجس القطري قائما من إمكانية عودة الرياض لذات الإجراءات العقابية في أي وقت نتيجة خلاف سياسي في المستقبل. وهنا تبدو الإستراتيجية القطرية مركزة على رمزية (كسر الحصار) بأشكاله كافة وإجراءاته من دون حماس كبير لتوثيق عرى التعاون مع الرياض، فالدوحة في هذه المرحلة لا تريد سوى (كف الأذى)، مما يعني أن سنوات من السلام البارد تلوح في الأفق بين الدولتين.