على مدار العقد الماضي، ركزت دول مجلس التعاون الخليجي على الاستثمار في الأحداث الرياضية كجزء من استراتيجية التنويع الاقتصادي بعيدا عن الوقود الأحفوري.
وفي العام الماضي، أنشأ صندوق الاستثمارات العامة في السعودية بطولة جديدة للجولف تسمى “LIV Golf” كمنافس لـ”رابطة لاعبي الجولف المحترفين” الأمريكية.
وردا على ذلك، قامت الرابطة الأمريكية بتعليق عضوية اللاعبين الذين سجلوا للمشاركة في البطولة الجديدة، كما فرضت “بطولة موانئ دبي العالمية للجولف” و”الجولة الأوروبية للجولف” غرامات على الأعضاء الذين شاركوا في البطولة المدعومة سعوديا.
ومن أشهر الرياضيين المنشقين “فيل ميكلسون”، الذي اعترف أن لدى السعوديين سجلا مروعا في مجال حقوق الإنسان، لكنه قال إن هذه “فرصة لا تتكرر في العمر”.
ووصفت منظمة “العفو” الدولية اللاعبين الذين وقعوا عقودا مع “LIV Golf” بأنهم “اختاروا بأنفسهم أن يكونوا أداة للغسيل الرياضي السعودي”.
ويشير هذا المصطلح إلى استغلال الرياضة لتحويل انتباه الجمهور بعيدا عن الأنشطة الحكومية المثيرة للجدل وتحسين صورة الأنظمة الاستبدادية.
ويؤكد المسؤولون السعوديون أن الاستثمارات في الجولف والرياضات الأخرى، خاصة كرة القدم، مدفوعة بشغف حقيقي للرياضة متجذر في الثقافة الرياضية المحلية.
ومع ذلك، تظل الحقيقة أن المنافسة بين السعودية وقطر والإمارات تعيد تشكيل عالم الرياضة الدولية، وتسمم البيئة التي يتنافس فيها اللاعبون المحترفون ضد بعضهم البعض.
تكتيك التشتيت
تعد كرة القدم هي الرياضة الأكثر شعبية في السعودية، ويوجد في البلاد أكثر من 150 نادي كرة قدم.
وفي عام 1956، أنشأت الحكومة الاتحاد العربي السعودي لكرة القدم، في ذروة الحرب الباردة بين الدول العربية وطفرة القومية العربية وبروز الرئيس المصري “جمال عبد الناصر” كزعيم عروبيّ قوي.
وخلال هذا الوقت، أثار الانقسام بين الملك “سعود” وولي العهد الأمير “فيصل” القلق داخل المملكة. وبدأت الأفكار السياسية العالمية تتسلل إلى المجتمع السعودي مع دخول آلاف العرب المغتربين إلى البلاد؛ مما أدى إلى ظهور حركة يسارية سعودية متأثرة بصعود شركة النفط العملاقة “أرامكو” التي كان لها تأثير ليبرالي على البلاد.
وكان الأمر الأكثر إثارة للقلق بالنسبة للعائلة المالكة السعودية هو تزايد المطالب لتحويل الدولة إلى ملكية دستورية.
وسعت الحكومة والمؤسسة الأمنية لصرف انتباه الجمهور عن السياسة باستخدام الرياضة كوسيلة للتشتيت. لذلك أدخلت الحكومة بطولتين سنويتين لكرة القدم: كأس ولي العهد في عام 1956، وكأس الملك في عام 1957.
وفي الآونة الأخيرة، أدت المخاوف من تمدد الربيع العربي إلى زيادة هائلة في التمويل السعودي للأحداث الرياضية.
وفي عام 2013، انضم كأس السوبر السعودي إلى القائمة المتزايدة لأحداث كرة القدم الكبرى في المملكة.
وفي عام 2017، ألغىولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” كأس ولي العهد واستبدله بدوري الأمير “محمد بن سلمان”.
الدوافع الاقتصادية
ولا يعد الهدف الوحيد من هذه الاستثمارات هو مجرد الإلهاء، بل إن هناك دوافع اقتصادية رئيسية، ترتبط أيضا بالتنافس طويل الأمد بين دول مجلس التعاون الخليجي.
وكان أحد أهداف مجلس التعاون الخليجي عند إنشائه في عام 1981 هو دمج اقتصادات الدول الأعضاء، لكن بدلا من تخصص كل دولة في مجال مختلف للإنتاج ثم تبادل السلع، قاموا بتكرار منتجات وخدمات بعضهم البعض؛ مما قلل بشكل كبير من إمكانية التعاون الاقتصادي.
وعلى سبيل المثال، عندما تستثمر السعودية في مجمع بتروكيماويات، فإن دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى تبني منشآت مماثلة، حتى لو كانت غير مجدية اقتصاديا بسبب قلة عدد سكانها.
وامتدت المنافسة لتشمل بناء الموانئ والمطارات الدولية وشركات الطيران والجامعات، وتوسع ذلك النمط ليشمل الساحة الرياضية.
وفي عام 2005، أنشأت قطر مجمع “أسباير زون” الرياضي بمساحة 250 هكتارا في الدوحة.
وفي عام 2010، تم الإعلان عن استضافة كأس العالم لكرة القدم 2022. وأثار ذلك منافسة شديدة مع الإمارات والسعودية حول من يمكنه جذب المزيد من الاهتمام في عالم الرياضة.
وفي حين ركزت قطر على الرياضة كجزء من جهود القوة الناعمة لوضع نفسها على خريطة العالم وكبح جيرانها الخليجيين الذين يجمعهم معها تاريخ مضطرب، فقد كان تركيز أبوظبي والرياض على الرياضة مدفوعا بالاعتبارات الاقتصادية إلى حد كبير.
وحصل “طيران الإمارات” في دبي على حقوق رعاية العديد من فرق كرة القدم علي رأسها أرسنال وريال مدريد.
وفي الوقت نفسه، رعت شركة “الاتحاد” الإماراتية (الخطوط الجوية الوطنية لدولة الإمارات) نادي مانشستر سيتي وبطولة “HSBC” للجولف وفورمولا 1.
وقبل 3 سنوات، استضافت السعودية مباراة ملاكمة بين “أنتوني جوشوا” و”آندي رويز” بتكلفة 50 مليون دولار، إيذانًا بسياسة رياضية طموحة تتمحور حول مشروع مدينة نيوم، وهي مبادرة ضخمة قيد الإنشاء منذ عام 2019 تضم مدينة رياضية حديثة للغاية. كما يدرس المسؤولون تأسيس نسخة سعودية من كأس العالم “فيفا”.
وفي العام الماضي، استحوذت السعودية على نادي نيوكاسل يونايتد ببريطانيا مقابل 400 مليون دولار.
وقال وزير الرياضة السعودي “عبد العزيز بن تركي”: “السماء هي سقفنا عندما يتعلق الأمر باستضافة الأحداث الرياضية”.
غسيل رياضي للسمعة؟
يتم تمويل العديد من الاستثمارات الرياضية السعودية، بما في ذلك بطولة “Liv Golf”، من خلال صندوق الاستثمارات العامة الذي تم إنشاؤه في عام 1971، وأصبح يدير أصولا تصل قيمتها إلى 480 مليار دولار.
وتشمل بعض استثماراته المهمة البنك الوطني السعودي وشركة الاتصالات السعودية، كما إنه مسؤول عن “رؤية 2030” التي تضم مبادرة نيوم.
ويبلغ مجموع الاستثمارات السعودية في “LIV Golf” ملياري دولار، وهي جزء من حملة “رؤية 2030″، وفي حين أن الشروع في هذه المبادرات مدفوع جزئيًا برغبة في الحصول على مكانة رفيعة، فإن هذه المشاريع لها قيمة اقتصادية بالفعل.
على سبيل المثال، تستطيع بطولة “LIV Golf” توليد إيرادات إعلانية مهمة باعتبارها حدثا رياضيا رئيسيا يضم لاعبين معترف بهم دوليا.
وليس هناك من ينكر أن القتل الشنيع للصحفي السعودي “جمال خاشقجي” شوه صورة ولي العهد السعودي، وأنه الآن يخوض حملة لإعادة تأهيل صورته العامة.
لكن من غير الصحيح الادعاء -كما يفعل البعض في وسائل الإعلام الغربية- أن الاستثمار في “LIV Golf” هو مجرد غسيل رياضي للسمعة.
هناك سطحية في الانتقادات التي تم توجيهها إلى “LIV Golf”، خاصة تلك المتعلقة بأن السعودية تحاول بذلك أن تشتت الأنظار عن سجلها الحقوقي المروع.
وينبع الجدل حول “LIV Golf” في الغالب من حقيقة أن السعودية لديها موارد مالية وفيرة تمكنها من التغلب على منافسيها في جذب أفضل اللاعبين في العالم.
وتصل قيمة الجائزة المالية إلى 25 مليون دولار، منها 20 مليون دولار للألقاب الفردية (الفائزين الثلاثة الأوائل)، في حين تُقسم الـ5 ملايين دولار الباقية على الفرق الثلاثة الاولى، ويبدو هذا هو السبب في تهافت نجوم اللعبة على المشاركة في “LIV Golf” حتى لو كلفهم ذلك الانسحاب من عضوية أعرق هيئة تنظيمية لمحترفي الجولف في العالم.
وعلى عكس كرة القدم، تعتبر لعبة الجولف نشاطا مرتبطا بالأثرياء خاصة في الدول المتقدمة.
ويكمن التهديد الحقيقي في قدرة “LIV Golf” على إرباك الوضع الراهن في صناعة راسخة؛ فمن خلال جذب أفضل اللاعبين في عالم الجولف وكذلك معجبيهم ومجتمعاتهم، تهدد “Liv Golf” باحتكار هذه الرياضة.
وبعيدا عن ذلك، فإن “رؤية 2030” لا تقدم أي خطط جديدة أو مبتكرة لتحويل المملكة إلى اقتصاد منتج، وتعد الأهداف الرئيسية الثلاثة للرؤية -مجتمع نابض بالحياة واقتصاد مزدهر وأمة طموحة- غير منطقية في بلد تتزايد فيه الانقسامات القبلية، ويعتمد فيه الاقتصاد على المغتربين بشكل رئيسي.
وتركز المملكة على الأنشطة المتعلقة بالسياحة والترفيه (بما في ذلك الرياضة) التي لا تتطلب مشاركة السعوديين أنفسهم. لذلك قد تهيمن السعودية على صناعة الجولف، ولكنها لن تجلب الحداثة إلى البلاد نفسها.