كانت هناك تقارير إخبارية وبيانات حكومية بين الحين والآخر على مدار العقود الثلاثة الماضية تثير تكهنات بأن السعودية تحاول امتلاك أو تطوير أسلحة نووية.
أحدث المقالات بهذا الشأن جاءت من صحيفة “وول ستريت جورنال” و”نيويورك تايمز” هذا الشهر، وأشارت إلى أن المملكة تعمل سراً مع الصين لتطوير منشآت صناعية يمكنها من خلالها معالجة خام اليورانيوم المستخرج محليًا وتحويله إلى وقود نووي.
احتياج للطاقة النووية
ظل الموقف الرسمي للمملكة الذي تعلن عنه كثيرًا هو أن الشرق الأوسط بأكمله، بما في ذلك إيران و(إسرائيل)، يجب أن يكون منطقة خالية من الأسلحة النووية، لكن الطاقة النووية المدنية مسألة أخرى.
وتقول المملكة إنها تحاول تطوير الطاقة النووية المدنية لأن استهلاكها من النفط لتوليد الطاقة يقلل من كمية النفط المتاحة للتصدير.
ولا يزال تصدير النفط شريان الحياة للاقتصاد السعودي، لكن الحكومة تدرك التنبؤات المؤلمة بتصاعد الاستهلاك المحلي وانحدار القدرة التصديرية قبل منتصف القرن.
تدير السعودية منذ سنوات عديدة مركزًا للأبحاث النووية بشكل علني، وهو يهدف جزئيًا إلى تعزيز قدرة العلماء السعوديين على التعامل مع المواد المشعة وإتقان عملية تخصيب اليورانيوم.
ويقول “المشروع الوطني السعودي للطاقة الذرية” التابع للحكومة على موقعه على الإنترنت أن “اليورانيوم هو أحد العناصر المهمة في الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، كوقود يستخدم في إنتاج الطاقة وتحلية المياه. تمتلك السعودية موارد اليورانيوم التي يمكن استخدامها لإنتاج الوقود النووي لمفاعلات الطاقة الوطنية المستقبلية ولسوق اليورانيوم الدولي”.
تجادل السعودية بأنه ليس من المنطقي شراء اليورانيوم المخصب من الولايات المتحدة أو دول أخرى عندما يمكنها استخدام خامها الخاص، وتوسيع اقتصادها غير النفطي، من خلال تشغيل مصانعها الخاصة لاستخراج الخام والتخصيب.
من الناحية النظرية، من الممكن تطوير محطات طاقة نووية مدنية دون أي ارتباط بالأسلحة، كما فعلت اليابان وكوريا الجنوبية ودول أخرى.
ولكن الشكوك الدولية تحيط بالمملكة، بسبب مزيج من التطورات المشبوهة المحتملة والتصريحات الجامحة لكبار المسؤولين من حين لآخر، حيث كان أحدث تصريح من هذا النوع لولي العهد الأمير “محمد بن سلمان”.
مبررات للشكوك
تجلى المثال الأكثر شهرة لذلك عندما اكتشفت الولايات المتحدة بالصدفة في عام 1988 أن السعودية حصلت سراً من الصين على أسطول من الصواريخ البالستية متوسطة المدى ذات القدرة النووية.
وبعد صدمة من ازدواجية السعودية الواضحة، أجبرت إدارة “ريجان” المملكة على عمل صفقة، حيث يمكن للمملكة بمقتضاها الاحتفاظ بالصواريخ التي لا تحتوي على رؤوس حربية، دون مزيد من الضغط من واشنطن شريطة أن توقع على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية وتلتزم بها، بعد أن كانت السعودية قد رفضت في السابق القيام بذلك على أساس أن (إسرائيل) لم توقع عليها.
بعد عقد من الزمان، قام الأمير “سلطان بن عبد العزيز”، وزير الدفاع آنذاك، بجولة نادرة داخل منشآت الأسلحة النووية الباكستانية، مما أثار الشكوك حول صفقة يمكن للسعوديين من خلالها الحصول على أسلحة نووية بناء على طلب من باكستان مقابل تمويل برنامج الأسلحة الباكستاني، لكن، لم يظهر أي دليل على أي ترتيب من هذا القبيل.
من المنظور العسكري البحت، يمكن أن تمثل الأسلحة النووية إغراء معينًا للسعودية التي تعيش في جوار خطير، حيث تمتلك (إسرائيل) أسلحة نووية ولدى إيران برنامج قادر على تطوير الأسلحة النووية، ورغم أن القوات السعودية المسلحة التقليدية جيدة التجهيز، إلا أنها تتمتع بخبرة قتالية قليلة.
عواقب تفوق المكاسب
لكن العواقب السياسية والاقتصادية السلبية للمملكة إذا سارت في طريق الأسلحة النووية ستفوق بكثير أي مكاسب استراتيجية محتملة.
بصفتها طرفًا في معاهدة حظر الانتشار النووي، ستواجه السعودية عقوبات اقتصادية قوية من الأمم المتحدة والعديد من الدول إذا انتهكت التزاماتها بموجب تلك المعاهدة.
وبما أن المملكة رهنت مستقبلها بالاندماج الكامل في الاقتصاد العالمي، فلا يمكنها تحمل استبعادها مثل كوريا الشمالية. (لم تواجه الهند وباكستان وإسرائيل مثل هذه العقوبات بسبب أسلحتهم النووية لأنهم ليسوا من الدول الموقعة على معاهدة حظر الانتشار النووي).
وجهت ألمانيا بالفعل تحذيراً شديد اللهجة للسعودية، حيث قالت وزارة الخارجية في بيان أصدرته الأسبوع الماضي ردًا على الأنباء الأخيرة: “من الأهمية بمكان أن تمتثل السعودية بالكامل لالتزاماتها بموجب معاهدة حظر الانتشار النووي وأن يخضع برنامجها النووي لمعايير التحقق الدولية للوكالة الدولية للطاقة الذرية”، ومن المؤكد أن الدول الصناعية الأخرى ستتخذ مواقف مماثلة.
علاوة على ذلك، فإن أي إشارة تدل على أن السعودية تسعى للحصول على أسلحة نووية من شأنها أن تنتهك التزامات طويلة الأمد تجاه الولايات المتحدة وتضع حداً لوضع السعودية المتميز في واشنطن.
ففي آخر زيارة قام بها “جورج دبليو بوش” إلى الرياض أثناء رئاسته عام 2008، قامت وزيرة خارجيته “كوندوليزا رايس”، والأمير “سعود الفيصل”، وزير الخارجية آنذاك، بتوقيع “مذكرة تفاهم” بشأن التعاون النووي المدني؛ تتضمن “الالتزام المشترك بالحفاظ على أعلى معايير عدم انتشار الأسلحة النووية والسلامة والأمن”.
أكد السعوديون في تلك الوثيقة عزمهم على “الاعتماد على الأسواق الدولية لخدمات الوقود النووي كبديل للسعي للتخصيب وإعادة المعالجة”. في المقابل، ستسمح لهم الولايات المتحدة بشراء أي يورانيوم مخصب يحتاجونه للأغراض السلمية.
تتفاوض السعودية والولايات المتحدة منذ سنوات حول اتفاقية تعاون نووي، تُعرف باسم “اتفاقية 123″، والتي من شأنها أن تسمح بدخول مثل هذا الترتيب حيز التنفيذ.
عند التوقيع على “اتفاقية 123″، ستقوم الولايات المتحدة، كما وعدت في مذكرة التفاهم لعام 2009، ببيع اليورانيوم المخصب وتكنولوجيا المفاعلات مع إمدادات وخدمات أخرى لأجل برنامج نووي مدني.
كانت الولايات المتحدة تطلب من السعوديين قبول ما يعرف بـ “نموذج أبوظبي” أو “المعيار الذهبي” لـ”اتفاقية 123″، حيث وافقت الإمارات، التي بدأت مؤخرًا إنشاء أول محطة للطاقة النووية فيها، على التخلي عن طرفي دورة الوقود النووي، وهكذا لن تقوم الإمارات بتخصيب اليورانيوم الخاص بها أو إعادة معالجة وقودها المستهلك.
إذا أصر السعوديون على التخصيب، فمن المحتمل أن يحرموا من إمكانية إبرام “اتفاقية 123” مع الولايات المتحدة، مما سيتطلب منهم الحصول على جميع معداتهم وتقنياتهم من مكان آخر، مثل فرنسا أو روسيا التي بنت أول مصنع لإيران، أو الصين.
أما إذا تجاوزت المملكة ذلك وظهر دليل واضح على أن المملكة لا تسعى فقط للحصول على القدرة على التخصيب وإنما الأسلحة، فإن رد فعل الكونجرس سيكون سلبيًا للغاية، وربما يصل لدرجة منع السعودية من شراء المزيد من الأسلحة الأمريكية.
وإذا جاء أي رئيس أمريكي آخر غير “دونالد ترامب”، سيفقد السعوديون الوصول إلى التدريب الأمريكي الذي شكل دعامة رئيسية لقواتهم العسكرية والأمنية لما يقرب من نصف قرن.
بالإضافة إلى ذلك، فإن أي إشارة إلى أن السعودية تسعى لامتلاك أسلحة نووية ستضع المملكة على قائمة أهداف (إسرائيل)، وسيتحقق ما حذرت منه الولايات المتحدة عندما اكتشفت الصواريخ الصينية، حيث قال مساعد وزير الدفاع آنذاك “ريتشارد أرميتاج” للسفير السعودي في ذلك الوقت: “أريد أن أهنئكم. هذا هو قانون العواقب غير المقصودة. لقد وضعتم السعودية بشكل مباشر في حزمة أهداف الإسرائيليين، إذا حدث أي شئ خطر في أي مكان في الشرق الأوسط، فستضربون أولاً”.
وقال المعهد الإسرائيلي لدراسات الأمن القومي في تحليل لتقارير “تايمز” و”وول ستريت جورنال”: “لا يمكن لـ(إسرائيل) أن تظل غير مبالية بشأن التطورات النووية المتسارعة في السعودية”.
وبحسب مراقبين، فقد ابتعدت السعودية و(إسرائيل) عن المواجهة منذ عدة سنوات، واقتربتا من التعاون أو على الأقل التسامح، ولن يربح السعوديون شيئًا من تقويض هذه العملية. كما إنه في ظل انشغال السعودية الشديد بالتعامل مع اليمن وإيران، لا تستطيع تحمل خوض معركة مع (إسرائيل) ستخسرها بالتأكيد.
في “قمة الأمن النووي” التي عقدها الرئيس “باراك أوباما” عام 2010، أعلن المندوب السعودي، الأمير “مقرن بن عبد العزيز”، أنه “لا يمكن إرساء الأمن والاستقرار في أي منطقة من خلال المساعي لامتلاك أسلحة الدمار الشامل”، فهل ما زال السعوديون يؤمنون بذلك؟