تقرير خاص:
حتى الآن تعد “القبيلة” هي العماد الأساسي للمجتمع السعودي، فالمجتمع السعودي يتم تعريفه حتى الآن وفقًا للمصطلح السيسيولوجي بأنه (مجتمع قبلي)، وكان للقبيلة دور هام بداخله بدءًا بتأسيس المملكة مع المؤسس الأمير عبدالعزيز بن سعود، مرورًا بكافة ملوك المملكة الذين كانوا يقتطعون أموالاً سنويًا لأمراء ومشايخ القبائل لضمان ولائهم، وعدم الخروج عليهم، وكانوا يبجلون مشائخ القبائل ويحترمونهم.
حتى جاء “ابن سلمان” ليقلب الأمر رأسًا على عقب، فمشروع ولي العهد التغريبي اصطدم بتقاليد القبيلة وأعراف المجتمع السعودي، لذا قام بتهميش الشيوخ والرؤساء داخل القبائل، كما أوقف الأموال التي تمنح لهم سنويًا تحت اسم “الشرهات”، ما زاد من حنق القبائل وشيوخها على “ابن سلمان” وحكمه.
القبائل وحروب تأسيس المملكة:
لاشك أن للقبائل دورا هاما وكبيرا في تأسيس المملكة، مع الملك المؤسس عبدالعزيز بن سعود، ففي بدايات القرن الماضي أسس الملك “عبدالعزيز” حركة “إخوان من أطاع الله”؛ والتي كانت عبارة عن حركة دينية تلتزم بالتعاليم الوهابية، وكان لها دور كبير في إرساء دعائم المملكة السعودية في بداياتها، وكان جل المنضمين لتلك الحركة هم جنود من قبيلتي “مطير” و”عتيبة”؛ بالإضافة لبعض القبائل الأخرى، وتمكن رجال القبائل من إسقاط الحاميات العثمانية في شرق الجزيرة العربية، وإسقاط دولة الشريف حسين في الحجاز، ومن ثم إسقاط إمارة آل رشيد في حائل، المنافس التقليدي لأسرة آل سعود في المنطقة.
ثم عقب استتباب الأمور للملك “عبدالعزيز”، أراد “إخوان من أطاع الله” شن الغارات على بادية العراق والكويت في تحدي لأوامر الملك “عبد العزيز” بوقف الهجمات، حيث إن السلطنة النجدية – وقتها – ملتزمة بمنع الغزو بين قبائل نجد والعراق وفقًا لمعاهدة بحرة الموقعة عام 1925، إلا أن “إخوان من أطاع الله” كانوا ينظرون إلى ما يفعلونه في العراق على أنه جهاد، وفي عام 1926 اجتمع ثلاثة من كبار قادة “إخوان من أطاع الله”، وهم فيصل بن سلطان الدويش وسلطان بن بجاد وضيدان بن حثلين، في بلدة الأرطاوية حيث تضامنوا فيما بينهم على نصرة الدين ومواصلة قتال المشركين.
وانتهت الحركة بقمعها من قبل الملك “عبدالعزيز” في معارك “السبلة” و”أم رضيمة” بمساعدة بريطانية، وإصدار الملك “عبد العزيز” أوامر بتجريف قرى القبائل المتمردة وعلى رأسها قرية الغطغط، واعتقال زعيمي التمرّد، وهما الشيخ فيصل الدويش شيخ قبيلة “مطير”، والشيخ سلطان بن بجاد آل حميد، شيخ قبيلة عتيبة، وإيداعهما السجن.
القبائل بعد تأسيس المملكة:
عقب انتهاء تمرد “إخوان من أطاع الله”، قام الملك “عبد العزيز” بإنشاء جيش من رجال القبائل الموالين له ولم يتمردوا عليه، وأضاف لهم أبناء وأحفاد القبائل المتمرّدة له بعد وفاة آبائهم لضمان ولائهم، وأعاد دمجهم داخل هذا الجيش الذي كونه، والذي تحول بعد ذلك لـ(الحرس الوطني السعودي)، والذي ضم آلافا من رجال القبائل المدربين والمسلحين، وكان تابعًا للملك “عبدالعزيز” مباشرة، يرافقه في ذلك مستشاره “عبد العزيز التويجري”، ومن ثمّ ابنه المستشار “خالد”.
وكانت وظيفة ذلك الجيش أو الحرس الوطني بعد ذلك، هو إيجاد صلة بين النظام السعودي والقبائل، حيث كانت كل قبيلة حسب حجمها تمنح ألوية كاملة تسمى بالأفواج، إذ تملك كل زعامة قبلية لواءًا كاملاً من أبناء قبيلتها الموالين للنظام فقط، وعقب وصول “عبد الله بن عبد العزيز” لسدة الحكم كملك للبلاد، تحوّل الجهاز إلى جهاز خاص لحمايته وحماية ابنه، الأمير “متعب بن عبد الله”، الذي أصبح وزيرًا للحرس الوطني قبل أن يُعزل ويسجن على يد “ابن سلمان”.
“ابن سلمان” وحرب مستعرة على القبائل:
بدأ عهد “ابن سلمان” بخطة تغريبية استهدفت كافة شرائح المجتمع السعودي، وهو ما اصطدم بتعاليم وأعراف القبائل، وقد ظهر ذلك في اعتقال شيوخ أكبر القبائل السعودية وهي: “مطير”، “عتيبة”، “شمر” و”عنزة”، فقد قام “ابن سلمان” باعتقال “سعود الدويش” رئيس شركة الاتصالات السعودية وأحد زعماء قبيلة مطير، ضمن حملة اعتقالات “الريتز كارلتون”، قبل أن تفرج عنه بعد إجراء تسوية مالية معه.
كما اعتقلت السلطات السعودية “فيصل بن حميد” شيخ قبيلة “عتيبة”، إحدى أكبر القبائل في الجزيرة العربية، على خلفية تغريدات انتقد فيها فعاليات هيئة الترفيه، قبل أن يقوم بحذفها.
وكذلك استدعت السلطات السعودية الشاعر “سفر الدغيلبي” وهو من قبيلة عتيبة أيضَا، على خلفية قصيدة اعتبرت تلميحًا إلى نقد رئيس هيئة الترفيه “تركي آل الشيخ”، قبل أن يقوم الأخير بنشر قصيدة تتغزل بشكل غير مسبوق بالملك سلمان وولي عهده!
وانتشر خلال الفترة الأخيرة خبر اعتقال الشاعر المسن “عايد رغيان الوردة” الذي ينحدر من قبيلة الشرارات، المنتشرة في جزيرة العرب، بعد نشره أبياتًا هاجمت هيئة الترفيه، جاء فيها:
“عصرا به الترفيه هو والملاهي.. نجهل تعاليمه ولو حط له شيخ
أنا بدوي ياليتني احفظ شياهي.. وأبقى على الفطرة عوايد وتاريخ
والدين واضح بالحكم والنواهي.. ومن لا سقى زرعه تموت الشماريخ
وأهل السعودية رجالا دواعي.. جود ومعزة بالمراجل مطانيخ”.
واعتقلت السلطات أحد أبناء قبيلة “سبيع”، وهو الشاعر “حمود بن قاسي السبيعي” بعد نشره قصيدة، قال فيها:
“يا تركي آل الشيخ دخلت الرذيلة والمجون..
والصابر الله ينصره.. والراضي الله يلعنه
أفسدت مالا يفسده الشيطان في خمسة قرون..
وحـققـت مالا حققووه أعـداء العقيدة في سنة”.
انتهاءً بمقتل الحارس الشخصي للملك سلمان، اللواء عبد العزيز الفغم الذي ينحدر من قبيلة “سبيع”، بعد تلميح معارضين إلى أن مقتل “الفغم” جاء على يد السلطات وليس كما ذكرت الرواية الرسمية، أنه قتل برصاص أطلقه صديقه على إثر خلاف شخصي بينهما.
أسباب تخوف “ابن سلمان” من القبائل:
يعد تخوف “ابن سلمان” من تغير ولاء شيوخ القبائل لأمراء آخرين داخل الأسرة الملكة، أهم هاجس، وخصوصًا أنّ الكثير من الأمراء كان يغدق الأموال والمناصب على هؤلاء الشيوخ وقراهم التي يحكمونها، والتي تسمّى في السعودية باسم “الهجرة”.
والأمر الثاني تاريخ بعض زعامات تلك القبائل في التمرد على “آل سعود”، لذا قد يستغلون الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردية التي وصلت لها المملكة حاليًا لصنع زعامات شعبية.
لكنّ الإجراءات المشدّدة ضدّ القبائل في السعودية لم تقتصر على اعتقال بعض الشيوخ المتمردين وذوي الصوت العالي فحسب، بل امتدت إلى قطع المنح والعطايا عن جميع شيوخ القبائل بحجة العجز الاقتصادي.
كذلك بعض القبائل تملك روابط أسرية مع فروعها لها في دول الخليج مثل الكويت وقطر، وبعد الأزمة مع قطر، قامت الأجهزة الأمنية السعودية بملاحقة شيوخ القبائل الحاملين لجنسيات أخرى، حيث قامت بالضغط على الكويت لتسليم الأمير “نواف طلال الرشيد”، الذي يحمل الجنسيتين السعودية والقطرية، وهو أحد أمراء قبيلة شمّر، وأسرة آل رشيد المنافسة تاريخياً للأسرة السعودية الحاكمة، وسط مطالبات من “لجنة حقوق الإنسان القطرية” بالكشف عن مصيره.
والآن تقف المملكة في مفترق طرق، بين احترام القبائل أو المضي قدمًا في سحقها، وكلا الطريقين يحمل الكثير من الدلالات على بقاء المملكة، أو افتراق تلك القبائل وعودتها كما كانت، فسحق القبائل ليس في مصلحة الأسرة السعودية المالكة، وبقاؤها مرهون بالحفاظ على دور القبائل ومكانتها الاجتماعية.