بعد توقيع اتفاقية التطبيع بين إسرائيل والإمارات في عام 2020، اعتقد الكثيرون أن السعودية ستكون الدولة العربية التالية في مسار التطبيع. وفي الواقع، لطالما كان أفراد العائلة المالكة السعودية حريصين على التواصل مع الإسرائيليين خلف الأبواب المغلقة. لكن وزير الخارجية السعودي قال إن الرياض لن توقع اتفاق سلام مع إسرائيل حتى يتم التوصل لحل للقضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين.
تشعر القيادة السعودية بالقلق من أن تطبيع العلاقات سيضر بصورتها في بلد لا يزال الجمهور فيه يقاوم هذا التوجه التطبيعي. وعلى عكس الحكام العرب الذين ينفتحون على إسرائيل منذ عقود، كان الجمهور العربي مترددًا في التفاعل مع الإسرائيليين، ناهيك عن الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود. لذلك فضل القادة العرب جعل علاقاتهم مع الإسرائيليين في إطار غير معلن أو رسمي.
ويعود تعاون القادة العرب مع الإسرائيليين إلى عقود حتى قبل إنشاء دولة إسرائيل. وفي أوائل القرن العشرين، عرف الهاشميون في الحجاز (الذين تعاونوا مع الإمبراطورية البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى وطمحوا إلى إنشاء مملكة عربية في غرب آسيا) أن البريطانيين لديهم خطة مختلفة لفلسطين ومع ذلك ظلوا يعلنون الثورة العربية ضد العثمانيين في عام 1916.
وفي حديثه عن التمرد العربي، قال الدبلوماسي البريطاني “هنري مكماهون” إنه لم يقدم وعودا لملك الحجاز (الشريف حسين) بأي شيء سوى تحرير العرب من الأتراك. وقال “مكماهون” إن الملك فهم الموقف البريطاني ووافق عليه.
وفي عام 1938، التقى رئيس الوكالة اليهودية، “ديفيد بن جوريون”، بالسفير السعودي في لندن لمحاولة كسب موافقة الملك “عبدالعزيز آل سعود” على إقامة دولة يهودية في فلسطين. وبعد عام، اقترح “جون فيلبي” (كان يشغل منصب مستشار الملك) على رئيس المنظمة الصهيونية العالمية إنشاء دولة يهودية على ساحل فلسطين مقابل 20 مليون جنيه إسترليني.
ونفى الملك “عبدالعزيز” تورطه في الصفقة المحتملة بعد أن سربها “فيلبي” لوسائل الإعلام، لكن الحقيقة أنه كان على استعداد لعقد هذه الصفقة حتى منذ الحرب العالمية الأولى لأنه كان يحتاج إلى مساعدة بريطانية ضد العثمانيين وكذلك الأسلحة البريطانية للاستيلاء على الحجاز في الغرب وعسير في الجنوب وحائل في الشمال. كما أعرب “عبدالعزيز” عن قلقه من توسع نفوذ الحاكم الأردني الأمير “عبد الله الأول بن حسين” ليهيمن على كل فلسطين.
وهناك العديد من الأمثلة الحديثة على التعاون بين السعوديين والإسرائيليين. فبعد انقلاب 1962 الذي أطاح بالنظام الملكي في اليمن وأدى إلى تدخل مصر لمساعدة الجمهوريين الجدد، توصلت السعودية إلى اتفاق مع إسرائيل لتزويد الملكيين اليمنيين بالسلاح.
وتفاخر العديد من رؤساء الوزراء الإسرائيليين باجتماعاتهم السرية مع المسؤولين العرب. وفي عام 2020، كشف وزير الدفاع الإسرائيلي “بيني جانتس” أنه زار سراً جميع الدول العربية، بما في ذلك الجزائر، التي قالت باستمرار إنها لن تتعامل مع الإسرائيليين. ولسنوات عديدة، قاد الأمين العام السابق لمجلس الأمن القومي السعودي الأمير “بندر بن سلطان” جهودًا لإقامة علاقات سرية مع إسرائيل، بالتنسيق مع رئيس الموساد الإسرائيلي في ذلك الوقت “شبتاي شافيت”.
وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، تولى “بندر”، وهو لا يزال سفيرا للسعودية في واشنطن، مهمة تنسيق العلاقات بين الأجهزة الأمنية السعودية ووكالات الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية لمواجهة “القاعدة” والميليشيات الشيعية المدعومة من إيران في المنطقة الشرقية الغنية بالنفط. وفي لقاء مع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق “إيهود أولمرت” في عمان أثناء حرب إسرائيل مع “حزب الله” عام 2006، اقترح “بندر” أن تقوم إسرائيل بتدمير “حزب الله” مقابل تحمل السعودية تكلفة الحرب.
كان هناك العديد من الزيارات السرية التي قام بها مسؤولون إسرائيليون رفيعو المستوى إلى السعودية على مدى العقد الماضي لتنسيق الأمن ضد إيران. والتقى رئيس الوزراء السابق “بنيامين نتنياهو” مع ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان”، وكذلك وزير الخارجية الأمريكي السابق “مايك بومبيو”، في نوفمبر/تشرين الأول 2020، بالرغم أن وزير الخارجية السعودي نفى لاحقًا هذا الاجتماع. وقد فتح التعاون بين البلدين على الجبهة الأمنية الباب أمام شركة “NSO” الإسرائيلية للتكنولوجيا لتزويد السعودية ببرنامج التجسس “بيجاسوس”.
وبالرغم من عمق العلاقات السرية للسعوديين مع إسرائيل، فقد اتخذوا علنًا موقفًا مناهضا لإسرائيل في الساحتين الإقليمية والدولية. وعندما وقعت مصر اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل عام 1978، كانت السعودية من أشد المنتقدين وقطعت العلاقات الدبلوماسية مع مصر، متهمة القاهرة بخيانة للعرب.
وقد اقترحت السعودية مرارًا خطط سلام لحل الصراع العربي الإسرائيلي، لكن إسرائيل رفضتها باستمرار. وفي أغسطس/آب 1981 قدم ولي العهد السعودي الأمير “فهد بن عبدالعزيز” خطة سلام تطالب إسرائيل بالانسحاب من جميع الأراضي التي احتلتها بعد حرب 1967 مقابل تأكيد الرياض حق جميع دول المنطقة في العيش بسلام. ووصفت وزارة الخارجية الإسرائيلية المشروع بأنه مشروع لتدمير إسرائيل على مراحل.
وفي عام 2002، اقترح الملك “عبدالله بن عبدالعزيز” مبادرة السلام العربية، التي رفضتها إسرائيل لأنها تتطلب إقامة دولة فلسطينية مقابل الاعتراف بها وتطبيع العلاقات معها.
في غضون ذلك، لم يعارض السعوديون اتفاقية التطبيع الإسرائيلية الإماراتية. وقال وزير الخارجية السعودي إن الرياض ترحب بأي تطور من شأنه أن يوقف ضم إسرائيل للأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، بعد أن قال الإماراتيون إن الاتفاق يعالج هذه القضية، رغم نفي إسرائيل ذلك. كما رحبت الصحافة السعودية بالاتفاق معتبرة أنه قد يحمل آفاقا إيجابية بالنسبة للقضية الفلسطينية.
بدأت العلاقات الإسرائيلية السعودية تتطور علناً في عهد الملك “سلمان”. وفي فبراير/شباط 2014، شارك رئيس المخابرات السعودية السابق الأمير “تركي الفيصل” في مؤتمر ميونخ الأمني إلى جانب وزيرة العدل الإسرائيلية السابقة “تسيبي ليفني”. كما حضر “الفيصل” لقاء آخر مع رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية السابق “عاموس يادلين” الذي دعاه لزيارة القدس والصلاة في المسجد الأقصى ومخاطبة الشعب الإسرائيلي في الكنيست.
وعلى مدى سنوات، أقامت السعودية وإسرائيل علاقات اقتصادية عبر أطراف ثالثة لنقل المنتجات الزراعية والتكنولوجية الإسرائيلية إلى السوق السعودية عبر الضفة الغربية والأردن وقبرص. لكن في يوليو/تموز الماضي، فتحت السعودية مجالها الجوي أمام الخطوط الجوية الإسرائيلية، في خطوة اعتبرها رئيس الوزراء “يائير لابيد” الخطوة الرسمية الأولى نحو التطبيع مع الرياض.
ويأتي تحرك إسرائيل نحو توسيع اتفاقيات التطبيع كجزء من خطتها لتوسيع مجالها الاستراتيجي والأمني. ويعد دور السعوديين هنا محوريا بشكل يفوق الإماراتيين بالطبع، وتعرف أبوظبي ذلك.
وبالنسبة لإسرائيل، يعد التطبيع مع السعودية هو الجائزة الكبرى. وإذا تمكنت من تحقيق ذلك، فلن تكون بعد الآن دولة صغيرة محاطة ببحر من الأعداء، بل ستكون قوة إقليمية يمكن للدول العربية أن تتجمع حولها. وبالنسبة للسعوديين، بالرغم أنهم متخلفون عن دول الخليج الأخرى في الانفتاح على الغرب، فإنهم يدركون أهمية هذه الخطوة إذا كانوا يريدون تسويق أنفسهم كمركز للاستثمار الأجنبي.
ويشعر السعوديون أن بلادهم أصبحت أضعف مع تراجع الولايات المتحدة، لا سيما بالنظر إلى نظرة الرئيس “جو بايدن” لإيران كشريك محتمل في الشرق الأوسط. لذلك تميل السعودية نحو إسرائيل للتعويض عن خسارتها لواشنطن كشريك وحليف موثوق.
وفي عام 2011، قال الملياردير السعودي الأمير “الوليد بن طلال” إنه يؤيد هجومًا إسرائيليًا على إيران. وقال لاحقًا إنه سيفخر بأن يصبح أول سفير لبلاده في إسرائيل. وفي عام 2017، زار “محمد بن سلمان” تل أبيب لمناقشة القضايا الإقليمية والمشاركة الإسرائيلية في مشروع نيوم العملاق على ساحل البحر الأحمر. وبالرغم أن “بن سلمان” فضل إبقاء الزيارة سرية، فقد أرسى الأساس للتعاون في الشؤون السياسية والعسكرية والاقتصادية.
ويقدر الاقتصاديون الإسرائيليون أن الصادرات الإسرائيلية ستزيد بنسبة 30% إذا استوردت السعودية 10% فقط من احتياجاتها من إسرائيل. وفي عام 2019، وافق “بن سلمان” على خطة تسمح للعرب الإسرائيليين بالعمل والعيش في المملكة دون إبراز جواز سفر. وفي وقت سابق من هذا العام، وصل العشرات من ممثلي قطاعي الأعمال والتكنولوجيا إلى الرياض لمناقشة الصفقات الاستثمارية.
وفي السر، يعرب “بن سلمان” عن قلقه من التطبيع الرسمي خوفًا من إدانته من وسائل الإعلام العربية لإقامته علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، بالنظر إلى ادعاء السعوديين بأنهم حماة الإسلام والأوصياء على اثنين من المواقع الدينية المقدسة لدى المسلمين.
وتتنافس السعودية على النفوذ في العالم الإسلامي مع تركيا وإيران، وتعتقد أن اتفاق سلام مع إسرائيل سيضعف نفوذها من هذا المنظور. لكن التسامح الشعبي مع التطبيع يتزايد في السعودية، وكذلك في الإمارات والبحرين. لكن من المتوقع أن تستغرق العملية بعض الوقت حيث ينتظر كلا البلدين ظهور ظروف أكثر ملاءمة.
وعموما، فإن المصالح الأمنية والاقتصادية للبلدين أصبحت على المحك، وقد أقر “بن سلمان” علنًا بحق إسرائيل في الوجود، وهاجم القيادة الفلسطينية متهما إياها بالفساد وسوء الإدارة وتفويت فرص صنع السلام ونكران الجميل للمساعدات المالية السخية التي تقدمها الرياض.
ويحتاج “بن سلمان” إلى إسرائيل لمساعدته على تحقيق أهدافه التنموية، حتى إنه أطلق مشروع نيوم بالقرب من حدودها الشمالية الغربية لتسهيل حركة الإسرائيليين إلى المدينة الضخمة الجديدة وتشجيع التعاون الاقتصادي، ويريد “بن سلمان” بالفعل التوصل إلى اتفاق تطبيع مع إسرائيل لكن ربما ينتظر اعتلاء العرش.