على طريقة “القتلة المتسلسلين” الذين عُرفوا في التاريخ بقتلهم أشخاصاً وتقطيعهم وإخفائهم، أو حتى حرقهم ونثر ما تبقى من عظامهم ورمادهم في كثير من الأماكن، لمحاولة إخفاء طريقة القتل وملامح الشخص، حُرقت أجزاء من جثة الصحفي السعودي جمال خاشقجي.
أحد الاحتمالات هو أن تكون جثة خاشقجي قد حُرقت في فرن كبير مثير للشبهة، صُمم بمواصفات محددة وغير معهودة، وُضع في بيت القنصل السعودي محمد العتيبي، ليزيد غموض الاختفاء.
هذا الفرن الذي كُشف عن مواصفاته خلال حلقة من البرنامج الاستقصائي “ما خفي أعظم”، أمس الأحد (3 مارس)، والتي تناولت جريمة قتل خاشقجي، بقنصلية الرياض في إسطنبول يوم 2 أكتوبر الماضي، على يد فريق اغتيال سعودي، أثار استغراباً من دوره في هذه الأحداث.
السلطات التركية تعتقد أنه من خلال هذا الفرن تم التخلص من جثة خاشقجي ومحو جميع آثارها. وأكد ذلك أكثر، ما كشفه البرنامج من شهادة للعامل الذي بنى الفرن بمواصفات محددة وبطلب مباشر من العتيبي، قبل وقت ليس بطويل من مقتل خاشقجي.
ورفض العامل، الذي كان يتحدث باللهجة السورية للبرنامج، الكشف عن هويته.
وقال: “طلب مني القنصل السعودي العتيبي إنو نعملو فرن خبز ومندي، مشان يشوي خواريف في بيته بإسطنبول، ونحن بس بلشنا شغل إجا القنصل وأعطاني ورقة فيها المقاسات المطلوبة للفرن، أنا قلتلو يعني -طال عمرك- ما بدي لا ورقة ولا قياسات، أنا عندي القياسات وأنا بشتغل أفران.. أفران الخواريف معروفة يعني لها سيستم (نظام) نعرفه نحن قياسات معينة وموحدة وكل شي”.
وتابع العامل: “قام قلي لا بتشتغل بهاي الورقة إنت، قلتلو أي متل ما بدك، لما شفت القياسات قلتله هاد مو فرن مندي، فرن صهر قوي جداً، فغضب مني وقلي إنت بتشتغل وما بتناقش، فأنا قلتلو خلص متل ما بدك ما بدي أناقشك، لأنه بالنهاية أنا عامل بدي أشتغل وأعيش، هلأ صارت مهمتي أصنع فرن صهر مو (مش) فرن خواريف”.
هذا الفرن، الذي قد يكون تم التخلص فيه من أجزاء من جثة خاشقجي حرقاً، رصدته السلطات التركية مشتعلاً ثلاثة أيام بعد إدخال الحقائب التي حملت أجزاء الجثة، وكشفت التحقيقات أن طلباً تم من بيت القنصل يوم الجريمة لـ45 كيلوغراماً من اللحم النيء من أحد مطاعم إسطنبول المعروفة، تعتقد السلطات التركية أنها استُخدمت للتغطية على حرق الجثة والتخلص من آثارها.
وبالعودة إلى الفرن الذي وُجد ببيت القنصل السعودي يظهر في صور له وهو بمراحله الأخيرة من البناء، قبل أشهر من الجريمة.
هذه الصور التي كشفها برنامج “ما خفي أعظم” هي أول صور حصرية للفرن من داخل منزل القنصل، والتقطها خلسة الرجل الذي بنى الفرن، ويعود تاريخها إلى شهر أبريل 2018، وهي الفترة التي بدأ فيها خاشقجي التردد على إسطنبول.
قتلة متسلسلون
وعلى الرغم من محاولات إخفاء آثار الجريمة، فإنه لا يزال بإمكان كومة من العظام المحترقة أن تحكي قصة جريمة قتل.
ومن الشائع جداً في هذه الأيام أن تصل الشرطة إلى مسرح الجريمة، فقط للعثور على جثة الضحية التي تم حرقها بشكل لا يمكن التعرف عليه، بحسب موقع “أوفيسر دوت كوم” الأمريكي (Officer.com)، المتخصص في أخبار الشرطة.
ويوضح الموقع في مقال له عن “حرق الأدلة”، اطلع عليه “الخليج أونلاين”، أنه قد يكون الجسم وُضع في حفرة أو قبر ضحل ثم اشتعلت فيه النيران. وقد يكون هذا تكرر عدة مرات، لضمان تدمير الجسم.
ويوضح المقال أنه “في كثير من الأحيان يُعثر على جثة محترقة بسيارة، وتُجعل في وضع تبدو فيه كأنها قُتلت بحادث أو جاءت من منزل أشعلت فيه النيران، ويعتقد الناس عموماً أنَّ حرق الجسد يدمر الأدلة التي توصل إلى كيفية قتل الضحية”.
ولحرق الخشب يلزم نار بدرجة حرارة تتراوح بين 800 و900 درجة مئوية. أما في محرقة الجثث التي من المفترض أن تتحول إلى رماد، فتكون درجات الحرارة أعلى بكثير، وتتراوح بين 1100 و1500 درجة مئوية، ولكنه حتى في هذه الحالة لا تتحلل العظام بالكامل، إذ تتفتت الأجزاء الكبيرة، وفق ما أوضحه الموقع الأمريكي.
ويلجأ القتلة المتسلسلون إلى حرق الجثث بعد عملية القتل، لإخفاء الأدلة، وفق ما قاله الموقع.
وبعض الأمثلة التي ذكرها الموقع الأمريكي تعود إلى عام 2006، والتي وقعت في ولاية ميسوري بمنطقة الغرب الأوسط من الولايات المتحدة، إذ أُلقي القبض على مايكل لي شيفر (33 عاماً)، لقتله سبعة أشخاص، وبعدها مزَّق جثثهم وأحرقها في موقد بغرفة نومه، بعد ذلك نثر شظايا العظام حول فناء منزله الخلفي.
كما ذكر الموقع كثيراً من الأمثلة الأخرى لقتلة متسلسلين، قطَّعوا الجثث وحرقوها وأُخفيت جزئياً، إلا أنه تم القبض عليهم في النهاية بعد العثور على دلائل إدانتهم مما تبقى من الجسد.
ولكن إذا كان القاتل دقيقاً وحطَّم القطع التي لا تحترق، فلن تكون هناك فرصة كبيرة لتطوير المعلومات عن كيفية وفاة الضحية، وفق ما يبينه الموقع الأمريكي. ولكن مع ذلك، فإن معظم جرائم القتل المتهورة، وبعد محاولة واحدة أو اثنتين لحرق الجثة، من المحتمل أن يتخلى مرتكب الجريمة عن محوها ويدفن ببساطةٍ الرفات. في هذه الحالة، قد يتمكن عالم الأنثروبولوجيا الشرعي عند فحص البقايا من تحديد أشياء معيَّنة حول ما حدث للضحية قبل الحريق.
كيف يتم حرق جثة؟
ولتقريب الصورة، يمكن أن نورد مثالاً لأسلوب حرق الجثث الذي تتبعه بعض الديانات أو الدول، للتخلص منها، وبعدها يعطى الرفات أو العظام لأهل الميت، لدفنه.
إذ تُحرق جثث الموتى في درجة حرارة تتراوح ما بين 1400 و1800 درجة فهرنهايت. تساعد الحرارة الشديدة على تقليل الجسم إلى عناصره الأساسية وشظايا العظام المجففة، وفق ما بيَّنه موقع “كريماشين ريسورس” (cremationresource).
وتتم العملية في غرفة حرق الجثث والمعروفة أيضاً باسم “المحرقة”، وفي المتوسط يستغرق حرق جسد بشري نحو ساعة إلى ثلاث ساعات، وعادة ما تكون بقايا الحرق بيضاء اللون.
وجدير بالذكر أنه منذ اغتيال خاشقجي، تشير جميع الأدلة في مسرح الجريمة والتحقيقات التركية، وعدد من أجهزة الاستخبارات الدولية ومن ضمنها الأمريكية، إلى تورط ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ومسؤولين كبار بالدولة في الجريمة.
وفي منتصف فبراير الماضي، كشف تقرير للأمن التركي عن وجود بئري ماء، وفرن من الطين يمكن إشعاله بالحطب والغاز، وذلك في إشارة إلى إمكانية حرق جثة خاشقجي، حسب وكالة “الأناضول” التركية.
ووفق “الأناضول”، يمكن رفع حرارة الفرن إلى 1000 درجة، في حال استخدام الحطب والغاز معاً لإشعاله، وهكذا يتم إخفاء آثار الحمض النووي (DNA) تماماً.
العملية تمت بمشاركة خبير الطب الشرعي السعودي، صلاح محمد الطبيقي (47 عاماً)، وهو أحد أفراد فريق الاغتيال الذي دخل مبنى القنصلية يوم الجريمة، ويتمتع بقدرات علمية تمكّنه من كشف آثار الحمض النووي في العظام المحروقة والمتعفنة.
وفي شهر نوفمبر 2018، كشفت أبحاث السلطات التركية أنّ جثة خاشقجي أُذيبت في برميل من حمض الهيدروكلوريك، وتم تصريف ما تبقّى منها في منظومة الصرف الصحي، حيث وجدت الشرطة آثار الحمض في قنوات الصرف المتفرعة عن منزل القنصل السعودي في إسطنبول، حيث تم التخلص من الجثة بعد نقلها مقطَّعة في حقائب سوداء من القنصلية.
تزامن ذلك مع إعلان النائب العام السعودي أن جثة خاشقجي تم تقطيعها، بعد قتله خلال شجار وحقنه بمادة قاتلة، وأن 5 متهمين أخرجوا جثته من القنصلية بعد تجزئتها.
أليف عبدالله أوغلو – الخليج أونلاين