عداء طويل” بين السعودية وإيران بدأ عام 1943 واستمر إلى الوقت الراهن، رغم سقوط الأنظمة في “بلاد الملالي”، وتعاقب الملوك في “أرض الحرمين”، حتى باتت الرياض وطهران مرادفا لكلمة “عداء”، في إطار التجاذبات والنزاع بين القوتين الإقليميتين.
ومنتصف 2021، تواترت أحاديث عن وجود تقارب بين الرياض وطهران في وجهات النظر بشأن عدد من القضايا والأزمات التي شهدت تباينات جمة، مثل الأزمة في اليمن، والحرب السورية، والأوضاع في لبنان.
واستندت الأحاديث إلى عدد من المؤشرات، أهمها تصريحات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الإيجابية تجاه طهران وتطلعاته إلى “إيجاد أرضية مشتركة”.
لكن بعد أشهر من محادثات سرية وعلنية، عادت الأمور إلى “المربع صفر”، بعد أن خرج مسؤولون إيرانيون ينددون بـ”التباطؤ السعودي” في التفاوض، بالإضافة إلى مهاجمتهم سياسة الرياض في تعاملها مع لبنان، ما أظهر مؤشرات فشل “الإطار التصالحي” بين البلدين.
رغبة تتلاشى
في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، أعلن المتحدث باسم لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية بالبرلمان الإيراني، محمود عباس زاده مشكيني، أنه “توجد مؤشرات قوية على أن رغبة السعودية بترميم العلاقات مع إيران آخذة في التلاشي”.
وأضاف: ” رأينا إشارات من السعوديين كانت علامة على اهتمامهم بإعادة بناء العلاقات، لكن هذه الإشارات تضاءلت، بل وانعكس الأمر في بعض الحالات”.
وأكد مشكيني أن “إيران دولة مستقرة، ونظامها السياسي يقوم على إرادة الشعب ويسعى للتواصل مع الدول التي تتمتع باستقرار سياسي، ونأمل أن تستقر مواقف هذه الدول بشكل واضح”.
ولم تقف تصريحات التباعد بين الطرفين عند هذا الحد، ففي 31 أكتوبر/تشرين الأول 2021 صرح وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، أن “السعودية تتحرك ببطء في محادثاتها مع إيران”.
واعتبر عبد اللهيان، في حوار مع صحيفة “إيران اليوم”، أن “سلوك الرياض تجاه طهران لم يكن بناء خلال السنوات الأخيرة”.
وأوضح أن “المحادثات مع السعودية جرت بوساطة عراقية عقب قرار تم اتخاذه على المستوى الوطني، وبالتنسيق مع جميع الإدارات وأجهزة السياسة الخارجية المسؤولة، لكننا شعرنا بأن السعوديين يماطلوننا”، وفق قوله.
الأزمة اللبنانية
لا يمكن الفصل بين المحادثات السعودية الإيرانية المتعثرة، وتصاعد الأزمة الخليجية اللبنانية مؤخرا، حيث ذكرت صحيفة “الديار” اللبنانية نقلا عن مسؤول إيراني رفيع المستوى في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 أن “طهران المعنية بالرسائل السعودية على الساحة اللبنانية رفضت أي مقايضة أو تنازل على خلفية التصعيد السعودي الممنهج في بيروت”.
وأضافت الصحيفة أن “المسؤول الإيراني (لم تسمه) أبلغ الفرنسيين أن ما سبق وحاول السعوديون فرضه على طاولة الحوار الثنائي لن يحصلوا عليه عبر (الابتزاز) الأمني والاقتصادي والسياسي”.
تصعيد الرياض تجاه بيروت، يأتي عقب تصريحات وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي في لقاء على قناة “الجزيرة” القطرية، حول حرب اليمن، ما أثار حفيظة المملكة.
وقبل تعيين قرداحي وزيرا للإعلام في 10 سبتمبر/أيلول 2021، قال في مقابلة متلفزة سجلت في 5 أغسطس/آب، وبثتها “الجزيرة” في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، إن “الحوثيين في اليمن يدافعون عن أنفسهم ضد اعتداءات السعودية والإمارات”، وهو ما دفع الرياض لقطع العلاقات مع لبنان، وتخفيض شكل المحادثات مع طهران.
وجاء تصعيد السعودية تجاه لبنان ضاربا وقع مباحثات منذ أشهر مع إيران، كانت تهدف إلى تطبيع علاقتهما المقطوعة منذ أكثر من 5 سنوات وتخفيف حدة المواجهة بينهما في الشرق الأوسط
ومنذ عقود تنتهج القوتان “سياسية متخاصمة”، حيث كانت السعودية حليفة تقليدية للبنان، إلى أن تراجع دورها تدريجيا خلال السنوات الماضية، بسبب تعاظم دور “حزب الله”، القوة العسكرية والسياسية الأبرز، الذين تقدم دورها هناك على حساب الرياض.
ولطالما سعت الرياض إلى مقارعة الدور الإيراني بدعم الجماعات المضادة لسياستها، كجماعة “الحوثي” في اليمن التي تشن هجمات على منشآت السعودية النفطية، وبعض جماعات الشيعة في العراق، وكذلك “حزب الله”.
سلام بارد
الأكاديمية الأردنية، المتخصصة في الشأن الإيراني، فاطمة الصمادي، وصفت المباحثات السعودية الإيرانية الأخيرة بالقول إن “عودة العلاقات الدبلوماسية لن تعقبها حلول كبيرة لملفات الخلاف، بل قد لا تتعدى مساحة السلام البارد بينهما”.
وذكرت في ورقة تحليلية، نشرها “مركز الجزيرة للدراسات” في 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، بعنوان “المعقد والأكثر تعقيدا في المحادثات السعودية الإيرانية” أن “طبيعة الخلافات بين إيران والسعودية لا تقتصر على مجال واحد أو قضية بعينها، بل تتنوع لتشمل التنافس الإقليمي والمكانة والتأثير على مستوى العالم الإسلامي”.
إضافة إلى “قضايا الطاقة وطبيعة العلاقات الخارجية وغيرها من العناوين التي تأتي محكومة بإطار أيديولوجي متباين في أفضليات وتوجهات السياسة الخارجية لدى كل منهما”.
وأكدت الصمادي أن “قطع العلاقات الذي جرى قبل 5 سنوات لم يكن بمشكلة عابرة في العلاقة، بل كان مؤشرا على أزمات يمكن تصنيفها بين المعقد والأكثر تعقيدا”.
أما التقارب الذي كان منتظرا فوضعته الصمادي في إطار التنافس بين الجانبين “ليكونا القوة الإقليمية الأكثر تأثيرا في المنطقة”.
وقالت: “تتجلى خلافاتهما في أكثر من ملف شائك في سوريا واليمن وفلسطين والعلاقة مع واشنطن وغيرها، ومع ذلك تظهر تجربة العقود الماضية أن العلاقة بينهما قد شهدت محطات تعاون إستراتيجي، ولذلك فإن الاحتمالية قائمة لإحداث تقارب قد لا يكون واسعا وسريعا ولكنه يقلص من مستوى الصراع للشروع بمحادثات وتسويات في بعض الملفات”.
عداء تاريخي
في إطار أحاديث الشد والجذب بين السعودية وإيران، تظل “التصريحات العدائية” التي أطلقها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في مايو/أيار 2017، تجاه طهران حاضرة في الأذهان، عندما قال متوعدا: “لن ننتظر حتى تصبح المعركة في السعودية، بل سنعمل لتكون عندهم في إيران”.
كانت تلك التصريحات تعبر عن “سياسة مواجهة حاسمة” أقرها ابن سلمان تجاه “خصمه الألد” إيران، ومن ورائها جماعة “الحوثي”، الحديقة الخلفية للمملكة، وأكبر تهديد يضرب عمقها الإستراتيجي.
وبالعودة إلى تاريخ الأزمات بين البلدين التي تعود إلى تباينات عرقية ومذهبية وسياسية، فقد كانت العلاقات دائما تتسم بالاحتقان الشديد، حتى قبل الثورة الإيرانية عام 1979، التي كانت تخشى الرياض من نتائجها وتصديرها للخليج والعالم العربي.
وفي عام 1943، بدأ طريق الأزمات عندما انقطعت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين إثر إعدام السلطات السعودية أحد الحجاج الإيرانيين.
وبسبب الحجيج الإيراني أيضا، قطعت السعودية العلاقات الدبلوماسية مع إيران عام 1987 بعد مصرع أكثر من 400 شخص، معظمهم إيرانيون بسبب الأعمال التخريبية التي قام بها حجاج إيران من قطع الطرق في مكة وإشعال النيران بالمركبات والممتلكات العامة وقتل حجاج آخرين، أثناء أدائهم الحج، وهو ما عرف تاريخيا باسم “أحداث مكة 1987”.
واستمرت القطيعة الكاملة حتى عام 1991 عندما حدث “توافق مبدئي”.
ومطلع عام 2015 قطعت الرياض العلاقات، بعد الهجوم على البعثات الدبلوماسية السعودية في إيران.
واستمر الحال حتى 28 أبريل/نيسان 2021، عندما أرسل ولي العهد السعودي، وأقوى رجل في البلاد، مجموعة رسائل تتبنى منهجية الرياض نحو خصومها في المنطقة العربية، وتحديدا إيران، التي هي أشد أعداء المملكة.
وقال ابن سلمان إن “إيران دولة جارة، ونطمح لإقامة علاقة طيبة ومميزة مع طهران، ولا نريد أن يكون وضعها صعبا”.
وأضاف: “لدينا معها مصالح، وإشكالاتنا في التصرفات السلبية التي تقوم بها، مثل البرنامج النووي، أو دعمها لمليشيات خارجة عن القانون ببعض دول المنطقة، أو برنامجها للصواريخ الباليستية، ونعمل مع شركائنا في المنطقة والعالم لإيجاد حلول لهذه الإشكاليات، ونتمنى أن نتجاوزها، وأن تكون علاقة طيبة وإيجابية فيها منفعة للجميع”.
إلا أن الحديث بدأ يذهب “أدراج الرياح” مع بوادر ومشاهد الجمود في المحادثات بين البلدين.