أحمد سلطان
نشرت الأحد الماضي 1من ديسمبر، جريدة “وطني” التابعة للكنيسة المصرية صورًا، قالت إنها لأول قداس مسيحي يُقام في الرياض بالسعودية، بدعوةٍ رسمية من الديوان الملكي السعودي، ووفقًا للجريدة، فإن القداس الذي ترأسه الأنبا مرقس، مطران الكنيسة الأرثوذكسية المصرية، أُقيم على هامش زيارة طويلة للوفد المسيحي تستمر إلى 17 من ديسمبر الحاليّ.
وقد أثار القداس جملةً من التساؤلات المنطقية، خاصة أن السعودية، ذات الخصوصية الإسلامية تمنع – وفقًا لتقرير رسمي نشرته وزارة الخارجية الأمريكية عام 2008 عن الحريات الدينية في المملكة Religious Freedom” International Saudi Arabia – بناء الكنائس، ولا تمنح جنسيتها إلا للمسلمين، ويقتصر الحضور المسيحي فيها على الجاليات الأجنبية، ذات الأغلبية الكاثوليكية الرومانية، في حين أن القداس الذي أُقيم لأول مرة، يخص الطائفة الأرثوذكسية، ومن المعلوم أن أحاديث نبوية صحيحة تنهى صراحةً عن وجود أي دين، غير الإسلام، في جزيرة العرب، باعتبارها أرضًا مقدسة يسري عليها ما لا يسري على غيرها.
تهيئة الرأي العام
في الفترة الأخيرة، أقدم ولي العهد السعودي والحاكم الفعلي للمملكة محمد بن سلمان، الذي يبشر بشرق أوسط جديد، على جملةٍ من اللقاءات النوعية بقياداتٍ مسيحية متنوعة:
– في 14 من نوفمبر 2017، التقى الملك سلمان وولي العهد بالبطريرك الماروني اللبناني بشارة الراعي بالرياض، في زيارة وُصفت بـ”التاريخية”، وقيل وقتها إن ولي العهد وعد البطريرك بإعادة ترميم كنيسة “الجبيل” وبناء كنيسة جديدة لأول مرة بالسعودية، وفي 5 من مارس الماضي، التقى ولي العهد بالبابا تواضروس الثاني بمقر الكاتدرائية المرقسية في القاهرة، على هامش زيارة رسمية لمصر، أثنى فيها على جهود الكنيسة في “محاربة الإرهاب”، ووجه خلالها دعوةً رسمية للبابا، لزيارة المملكة.
أما أحدث اللقاءات، وربما أهمها، هو لقاء الشهر الماضي، الذي جمع ولي العهد بوفد إنجيلي أمريكي في الرياض، لخص تفاصيله أحد حاضريه جويل روزنبرغ، الذي قال لقناة “آي ٢٤” الإسرائيلية الناطقة بالعربية إن ولي العهد ينوي بناء كنائس بالمملكة قريبًا، ولكنه بحاجة إلى بعضٍ من الوقت، كي يمهد الأمر للرأي العام في بلاده، ويبحثَ عن تأويلات شرعية للنصوص التي تحول دون ذلك، مع رجال الدين.
يتضح من هذه اللقاءات المهمة والنوعية التي تمت في وقت قصير، أن الأمير الشاب يعتبر أن تكثيف الحضور المسيحي في المملكة جزءٌ من مشروعه الإصلاحي، دون تحيز لتوجه مسيحي بعينه، وأن الأمر يتطلب فقط قدرًا من الوقت، نظرًا لاعتبارات ثقافية واجتماعية، والسؤال هنا: لماذا تعجلت القيادة السعودية وأقدمت على هذه الخطوة الكبيرة الآن؟
كلمة السر: خاشقجي
فرضت حادثة اغتيال الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بتركيا نوعًا من الحصار السياسي على المملكة، بعد أن اعترف المسؤولون السعوديون بقتله، تزامن ذلك مع ضغوط حقوقية دولية على الحكومات الغربية لمعاقبة ولي العهد السعودي، باعتباره الرجل الأهم، وصاحب الكلمة النافذة في المملكة.
وفي ظل أحاديث عن احتمالية تعرض الأمير الشاب للمساءلة القانونية خلال رحلته لحضور “قمة العشرين” بالأرجنتين، لم تجد القيادة السعودية حلاً أفضل من قيام الأمير بجولة خارجية للبلاد العربية، تخفيفًا للحصار، وتجنبًا لأي مخاطر قد تمس الأمير في رحلته.
ويبدو أنه قد تم الاتفاق على استضافة السعودية القداسَ المسيحي في أثناء زيارة الأمير لمصر خلال جولته العربية، فقد وصل ابن سلمان القاهرة في 26 من نوفمبر، وأُقيم القداس في 1 من ديسمبر، وقد تزامن القداس مع وجود ابن سلمان في الأرجنتين، بما يشي بأن إقامة القداس في هذا الوقت، يأتي في سياق السعي لتخفيف الضغوط على المملكة، ومخاطبة الرأي العام الغربي باللغة التي يفهمها.
أما عن الطرف الضيف (الكنيسة المصرية) فإنها تعيش حالةً من الانسجام والتوافق مع النظام المصري، أحد أبرز حلفاء النظام السعودي، منذ الانقلاب العسكري يوليو 2013؛ فتحشد الأقباط في الداخل لحضور الانتخابات المحلية في مصر، وتحشد رعاياها في الخارج دعمًا لزيارات الرئيس ومسؤولي النظام، أما السيسي، فلم يغب منذ استيلائه على الحكم عن حضور القداس السنوي بالكنيسة، ملتحمًا بشعبها في “بيت الله”، على حد تعبيره، مبشرًا إياهم بمزيد من التسهيلات في بناء الكنائس، وبين هذا وذاك، تسمع تصريحات من البابا يدعو فيها للصبر على قيادة البلاد ودعمها، التي كان آخرها: “فيه حاجات بتحصل ومشاريع ضخمة بس لازم نصبر، ده اللي بيزرع نواية بيستنى 20 سنة لما تبقى نخلة وتطرح بلحة”.
وعبر الوسيط المصري، وتلاقيًا مع توجهات ولي العهد الجديدة، نشأت حالةٌ من الود والدفء بين الكنيسة المصرية متمثلةً في البابا تواضروس، والدولة السعودية متمثلة في ابن سلمان، تجلت هذه الحالة في آخر تصريح رسمي للبابا، أثنى خلاله على جهود “الأمير المُنفتح”، وأنه “ينظر بكل إعجاب وتقدير للتطورات الكبيرة التي تشهدها الحياة في المملكة”، مؤكدًا تلبيته دعوته لزيارة المملكة.
كيف أنتجت حركة 3 من يوليو واقعنا الحاليّ؟
بشكل أكثر عمقًا، فإن القيم الجديدة التي لم تعتد عليها السياقات العربية مثل: شيطنة الإسلام السياسي والعمل على إنهائه تمامًا واعتباره أبًا للأفكار الجهادية والتطبيع العلني مع “إسرائيل” وتفكيك البنى الاجتماعية والثقافية التقليدية للإسلام – التي يُعتبر قداس الحرمين الأخير أحد آثارها؛ هي وليدة مشهد 3 من يوليو، ولا يمكن فهمها أبدًا بمعزل عنه، ذلك المشهد الذي أعاد الروح مجددًا لمثلث: الإمارات، السعودية، مصر، الذي أدرك جيدًا خطورة الربيع العربي وقيمَه على مصالحه؛ فقيم 3 من يوليو هي الوجه الآخر المضاد تمامًا لقيم الربيع العربي.
التأويل الديني في خدمة السلطة
وفقًا لروزنبرغ، فإن ابن سلمان يعي جيدًا أن الدين الإسلامي وخصوصية بلاد الحرمين الثقافية وقيم مجتمعه المُحافظة، التي طالما تبنتها الدولة، تقف الآن حجر عثرة أمام سياساته الجديدة، لا سيما في ملف الحضور المسيحي في المملكة، فقد ورد عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “لا يجتمع في جزيرة العرب دينان”، وقال: “أخرجوا المشركين من جزيرة العرب”، برواية البخاري ومسلم؛ فكيف يتفق هذا مع خطط بناء الكنائس وإقامة الطقوس المسيحية؟ يقول روزنبرغ إن ولي العهد رأى أن تأويل “جزيرة العرب” بـ “مكة والمدينة”، تخريجٌ شرعي، ستمليه السلطة على رجال الدين.
وبذلك، يتضح أن منهج النظام السعودي لتمرير سياساته الجديدة، التي تعارض الثوابت الإسلامية، ينبني على ركيزتين:
1- اعتقال ومنع ومصادرة كل الأصوات المتمسكة بمبادئها الدينية التقليدية.
2- تقريب واحتضان الأصوات التي تجيد “التأويل” و”التخريج” وتوظيف الدين لخدمة توجهات الحاكم.
خاصة أن السياسات الجديدة تتعارض تمامًا مع ما كان ما يُروَج له في السابق، فلم تعد قيادة المرأة للسيارة حرامًا، ولم يعد هناك ما يمنع من فتح المحلات التِجارية في أثناء الصلاة، وأصبحت السينمات والحفلات المُختلطة حاجةً عصرية، وتحريمها مرهونٌ بسياق تاريخي واجتماعي وثقافي مُحدد.
القيم في خدمة المصالح
الغريب في كل هذا أن ثمة فصام ملحوظ بين ما تدعيه الأنظمة العربية الحاكمة من تبنٍ لقيم المواطنة والإصلاح الديني والاجتماعي، التي قد تتخذ لأجلها إجراءات شكلية، بيد أن نواياها وممارساتها الجذرية لا تبشر بذلك أبدًا.
فالسيسي الذي يطالب دومًا بـ”تجديد الخطاب الديني”، ويدعو العالم للتعلم من تجربته في توحيد المصريين، ويقول إنه كان سيبني معابد يهودية لو أن هناك يهودًا بمصر، بما قد يوحي بتبنيه قيمًا علمانية وليبرالية، هو نفسه من يُصادر المجال العام تمامًا ويعتقل مرشحي الرئاسة ويخطط للبقاء في السلطة إلى الأبد، وابن سلمان الذي يُبشر بشرق أوسط جديد وإصلاحاتٍ ثورية، هو نفسه من أرسل فريقًا لاغتيال صحفي سعودي معارض بقنصلية بلاده في الخارج، ويعتقل آلافًا من المعارضين.
ويُفسر الباحث محمود هدهود، هذه الظاهرة بأن هؤلاء الأشخاص، في الحقيقة، غير جادين في تبني أي من هذه القيم، فلا السيسي علماني ولا ابن سلمان إصلاحي، ولكن الظرف التاريخي وشبكة المصالح والصراعات، هي التي تُوجههم إلى ذلك، حينها، تصبح مفاهيم مثل الليبرالية والعلمانية محايدةً، معزولةً عن السياق الذي أنتجها، قابلةً للتوظيف واكتسابِ دلالات جديدة.