منذ صعود ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في سلم السلطة مع استلام والده لسدة الملك، وهو يسعى لتحويل المملكة من بلد يعتمد كلياً على النفط إلى دولة لها اقتصاد قوي ومتنوع؛ لكن خططه لم يكتب لها النجاح المطلوب.
وترزح المملكة العائمة على بحر من النفط تحت عجز وصل إلى 50 مليار دولار في ميزانية عام 2020، في ظل انخفاض أسعار النفط الخام عالمياً، والذي تسبب بتحويل الميزانيات الفائضة التي تعتمد على النفط في بعض دول الخليج العربي إلى ميزانيات عاجزة.
وبعد ثلاث سنوات من المناقشات والتسريبات والتأجيل، طرحت السعودية شركة “أرامكو” أكبر مؤسسة نفطية في العالم في (17 نوفمبر 2019)، 1.5 من أسهمها للاكتتاب العام، وحددت قيمة السهم الواحد قبل التداول بقيمة 32 ريالاً أي (8.53 دولارات)، غير أنه يأتي على نطاق أصغر بكثير مما كانت قد خططت له في الأساس في ظل تلكؤ الشركات الأجنبية والكبرى عن الاستثمار فيها، وانحسار المشاركة، وإن كانت واسعة، على المؤسسات والأفراد المحليين.
ما قيمة “أرامكو” الحقيقية؟
لكن خلال السنوات السابقة كان هناك قصة عالقة حول “القيمة” الحقيقية لشركة “أرامكو”، والتي قدرها بن سلمان بتريليوني دولار، فيما شككت الكثير من التقارير الاقتصادية في ذلك.
ففي عام 2017 كشفت صحيفة “فاينانشال تايمز” الأمريكية أنه “يصعب تصديق” أن قيمة أرامكو تصل إلى تريليوني دولار، وهو الرقم الذي تعتمده الجهات الرسمية السعودية.
وقالت الصحيفة التي أجرت بحثاً معمقاً عن الشركة، إن قيمة أرامكو الحقيقية تتراوح بين “881 ملياراً إلى 1.1 تريليون دولار”.
وخلص استطلاع أجراه بنك “EFG Hermes ” في مارس 2017، إلى أن آراء مستثمرين ومديري صناديق مالية، تقدر أن قيمة أرامكو “تتراوح بين تريليون وتريليون ونصف التريليون دولار عند فتح المجال لبيع أسهمها للعموم”.
لكن ما يستحق التساؤل: كيف قفزت قيمة “أرامكو” فعلاً إلى قيمة نحو تريليوني دولار في أول وثاني أيام تداولها (11و12 ديسمبر 2019)؟
فقد ذكرت وكالة “رويترز” أن سعر سهم شركة النفط السعودية العملاقة قفز 10% إلى 35.2 ريالاً (9.4 دولارات) في بداية تداول الأسهم بالبورصة المحلية في اليوم الثاني للتداول.
لكن الخبير المالي الدولي “جورج هاي” قال في مقال نشرته الوكالة: إن “المعيار المهم هو ما سيحدث بعد ستة أشهر من الآن وليس مدى ارتفاع السعر الحالي عن تقييم أرامكو في الطرح العام الأولي والذي بلغ 1.7 تريليون دولار”.
وأضاف أن “ثمة أسباباً كثيرة لارتفاع قيمة شركة تحاشاها معظم المستثمرين الدوليين بسعر الإصدار عند 1.7 تريليون دولار إلى 1.9 تريليون دولار لتقترب قيمتها من التقييم الذي كان بن سلمان يرغبه وهو تريليونا دولار”.
ولفت إلى أن السعوديون لم يدرجوا للتداول في البورصة سوى 1.5% من أسهم الشركة، أي نصف التوقعات الأولية.
وأوضح هاي أنه “رغم أن تجاوز طلبات الاكتتاب في طرح أرامكو العام الأولي الأسهم المطروحة بمقدار 4.65 مرات ربما كان مرده سعي المكتتبين لضمان الحصول على نسبة التخصيص المرغوبة أكثر منه طلباً حقيقياً، فقد كان ما يكفي من هذا الإقبال طلباً حقيقياً، مبيناً أنه “وفي مستهل التداول بلغ عدد الأسهم التي شملتها التعاملات 25.6 مليون سهم بالمقارنة مع طلبات المشترين التي بلغت 200.5 مليون سهم”.
وأشار إلى أن الطلب المحلي كان له دور كبير، وقد وجد المستثمرون الأفراد الذين اشتروا ثلث الكمية المطروحة حافزاً للاحتفاظ بالأسهم ستة أشهر في وعد توزيع أسهم مجانية.
ونقل الكاتب عن صحيفة “فايننشال تايمز” قولها: إن “الرياض ربما تكون قد شجعت صناديق الاستثمار المحلية والعائلات الثرية على دعم الطرح الأولي”.
وقال الخبير في الشؤون المالية العالمية: إنه “سواء كان دافع المستثمرين هو الخوف أو الشعور الوطني أو الطمع فثمة أسباب منطقية لاستمرار دعم السعر؛ إذ رتبت السعودية يوم الجمعة (6 ديسمبر 2019) لصدور تعهد من منظمة البلدان المصدرة للبترول وحلفائها لخفض الإنتاج، وهو ما يُفترض أن يمنع انهيار سعر النفط وسط النمو الاقتصادي الضعيف العام المقبل”.
وشدد على أنه “من ناحية أخرى لدى صناديق التحوط قاعدة تداول بسيطة مفادها: اشتر الآن ثم حول الأسهم إلى صناديق الاستثمار الخاملة التي ستشتريها حتى إذا ارتفعت قيمة أرامكو عن تريليوني دولار عند إدراج الشركة في مؤشرات صناديق الأسواق الناشئة مثل (إم.إس.سي.آي) وكانت قيمة الأسهم التي شملها التداول يوم الأربعاء (11 ديسمبر 2019) نحو 240 مليون دولار فحسب”.
ويرجح الكاتب أن يتراجع سهم أرامكو بمجرد أن تتبدد هذه العوامل، “لكن حتى في ذلك الحين قد يكون من الصعب التعرف على القيمة العادلة”.
وأوضح أنه قد استحوذ مستثمرون محليون على أكثر من ثلاثة أرباع الطرح بعد تخفيضه، في حين يملك معظم الباقي حلفاء مقربون مثل أبوظبي.
وقال هاي إنه “إذا كان ولي العهد يريد لأرامكو أن تتراوح قيمتها حول تريليوني دولار فسيتحفظ هؤلاء المستثمرون في التخلص من السهم؛ لكن عند هذا المستوى ستتضاءل على الأرجح فرص عملية بيع ناجحة في المستقبل للمستثمرين الأجانب، وهو الأمر الذي كان إحدى النقاط الأساسية في المشروع”.
الحجم ليس معياراً
ورغم الحملة الإعلامية الواسعة التي أطلقتها المملكة في ظل ارتفاع قيمة الشركة حيث تصدرت عناوين مثل: “أرامكو تعتلي عرش العالم”، و”أرامكو .. الوعد يتحقق”، فهناك خفايا لم يذكرها الإعلام المحلي والمقرب من الرياض.
حيث نقلت “رويترز” عن المحللين لدى “برنشتاين” قولهم: إنهم “وضعوا قيمة أرامكو عند نحو 1.36 تريليون دولار، وذلك بالمقارنة مع قيمة سوقية لعملاق الطاقة الأمريكي إكسون موبيل تقل عن 300 مليار دولار”.
وكتبوا: “أرامكو السعودية هي أكبر شركة نفط في العالم وأكثرها ربحية؛ لكن الحجم ليس كل شيء”، مشيرين إلى خطر تباطؤ نمو صافي الربح إذا ظلت أسعار النفط مستقرة (بانخفاضها الحالي).
وقالت برنشتاين: إنه “يتعين تداول أسهم أرامكو بخصم لا علاوة فوق أسعار أسهم كبرى شركات النفط العالمية، إذ إن حوكمة الشركة هي مبعث الخطر الرئيسي بالنسبة للمستثمرين في ظل امتلاك السعودية أكثر من 98% من الشركة”.
من جانبه قال تيم لاف، مدير الاستثمار لأسهم الأسواق الناشئة لدى مؤسسة (جي.إيه.إم): إنه “بغض النظر عن التقييم، أحد أهم الاعتبارات بالنسبة للصناديق التي تدار بشكل نشط سيكون المعايير البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركة”.
وفي مذكرة صدرت يوم الخميس (12 ديسمبر 2019)، قال زاكاري سيفاراتي الرئيس التنفيذي لـ “دلما كابيتال” في دبي والتي استثمرت في الطرح الأولي إن “أداء السعر الأولي يؤيد فرضيتنا أن أرامكو حددت سعر طرحها الأولي بخصم لإفساح المجال أمام الصعود خلال التداول ولإتاحة الفرصة للمستثمرين الإقليميين للاستفادة من إدراج درة التاج”.
ونقلت الوكالة أيضاً عن متعامل في الرياض (طلب عدم ذكر اسمه) أن أغلب التداولات المبكرة كانت على نطاق صغير، بين ألف و1500 سهم، مضيفاً أن هذا يشير إلى أن بعض المستثمرين الأفراد كانوا “فرحين بربح ستة ريالات للسهم”.
من جانبها قالت آرثي تشاندراسكاران، مديرة المحفظة في “شعاع كابيتال” التي مقرها أبوظبي، إنه من السابق جداً لأوانه الخروج باستنتاجات، مضيفة أنه “يجب ألا نتعمق كثيراً في قراءة التراجعات الحاصلة خلال اليوم، دعونا لا ننسى أن المستثمرين الأفراد ما زالوا يهيمنون على أكثر من 93% من السوق، ومثل أي طرح أولي، ستحدث عمليات تخارج من جانب مستثمرين اشتروا الأسهم لاقتناص أرباح سريعة من الإصدار”.
فيما يعتقد محلل مالي في منطقة الخليج (طلب عدم الإفصاح عن هويته للوكالة) أن تعاملات المستثمرين في المنطقة قد تكون مدفوعة بنظرة السعودية نفسها لقيمة أرامكو، وقال: “سيفكر المستثمرون: لماذا تصعد أكثر… بينما يقيمها مالكوها بتريليوني دولار؟”.
غياب الثقة
ولفتت صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية في تقرير موسع حول اكتتاب أرامكو وضعف الإصلاحات في السعودية، نشر يوم الأربعاء (11 ديسمبر 2019)، إلى أن “المملكة لا ينقصها رأس المال إنما الثقة”.
وذكرت الصحيفة نقلاً عن رجل أعمال مطلع على شؤون الأسرة الملكية قوله: إنه “كان بوسع محمد بن سلمان أن ينشر في البلاد طاقة الأمل بدلاً من طاقة الخوف… وألا يحيط نفسه بحاشية توافقه كل ما يقول. وكان من الممكن للقطاع الخاص في السعودية أن يجمع ما بين 200 و300 مليار دولار أمريكي؛ وما يعوزه ليس رأس المال وإنما الثقة”.
وأردف مؤكداً مخاوف رجال الأعمال السعوديين: “رأينا أصدقاءنا يحبسون في فندق ريتز، وشهدنا عجز الحكومة عن تسديد الفواتير المستحقة لنا عليها؛ والآن تريد منا أن نذهب إليها ونستثمر فيها؟”.
وأكّدت الصحيفة أن “هناك حالة من خيبة الأمل في الأوساط الرسمية السعودية لأن الأمير محمد لم يحظَ من وجهة نظرهم بالثناء الكافي على ما قدمه في التعامل مع منظومة اقتصادية قائمة على الدولار البترولي وتولي الدولة شؤون جميع مواطنيها”.
وبينت الصحيفة أنه لا يمكن بعد الحكم على الأثر الملموس للإدراج المخفض لأسهم أرامكو، حيث قال أحد المسؤولين التنفيذيين العاملين في الخليج: “الحكومة تنقل المال السعودي من مكان إلى آخر، وكل خوفي أن يتم استخدامه للاستثمار في الخارج، كالاستثمار في سوفت بنك الياباني؛ في الوقت الذي يفترض فيه خلق قطاعات داخل البلاد”.