أنهى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الجدل الدائر حول نجاعة خططه “الإصلاحية” و”غير المنطقية”، إذ أقر بطريقة غير مباشرة خلال اجتماع مع رجال ومستثمرين مؤخراً، بفشل مشاريع “نيوم”، معترفاً بعزوف الاستثمار عن أبرزها.
حديث بن سلمان، الذي أقر فيه أيضاً بفشل “مشاريعه العملاقة”، وفق ما ذكرت صحيفة “فاينانشال تايمز”، الأربعاء (12 ديسمبر 2018)، سبقته تحذيرات أطلقها خبراء اقتصاديون دوليون ومحليون كان لهم نصيب من الاعتقال والمضايقات، ومنهم الاقتصادي السعودي عصام الزامل، والإعلامي صالح الشيحي.
تقارير اقتصادية متراكمة منذ نحو 3 أعوام في أرشيفات الصحف العالمية، تحدثت عن فشل مشاريع بن سلمان وخططه “الإصلاحية”، واعتبرها كثيرون أنها “غير منطقية” وبعيدة عن الواقع في ظل سياسة داخلية مبنية على القمع والاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان.
وذهبت شخصيات اقتصادية من خارج المملكة إلى أبعد من ذلك، حيث قالوا إنها تفتقر لأدنى مستوى من الدبلوماسية وبُعد النظر، وإن هذه السياسة قادت إلى حصار قطر، وشكلت أيضاً بيئة طاردة للاستثمار ورجال الأعمال.
– الحقيقة والصراع مع الواقع
بن سلمان الذي يظهر أمام شاشات التلفزة الغربية والأمريكية يتكلم بكل ثقة عن نجاح خططه الاقتصادية، ومنها “نيوم”، فاجأ رجال الأعمال بتناقض تصريحاته أمامهم، بأن المشروع الضخم، الذي تبلغ تكلفته 500 مليار دولار، ويهدف لتحويل الساحل السعودي إلى مركز تجاري مستقبلي؛ “لا أحد سيستثمر فيه لسنوات”.
وبحسب الصحيفة البريطانية، كانت تصريحات بن سلمان بمنزلة اعتراف بأن الأزمة الناجمة عن مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي “تهدد بتقويض خططه الجريئة لتحديث المملكة المحافظة بدعم من رأس المال والخبراء الأجانب”.
“نيوم” الذي أعلن عنه ولي العهد السعودي، يعد أكبر المشاريع وأكثرها تكلفة تقريباً، ويهدف إلى تأسيس مدينة ناشئة وفق أحدث التقنيات من الروبوتات إلى الذكاء الاصطناعي، لكن مؤشرات الفشل رافقت المشروع منذ إعلانه في أكتوبر 2017، حتى إقراره الأخير بالفشل.
ومؤشرات الفشل الكثيرة تحدثت معظمها عن الواقع السيئ الذي يعيشه الاقتصاد السعودي بكافة أركانه؛ بسبب الفجوة الواسعة بين سياسات ولي العهد الاقتصادية، وما ورد في رؤيته، التي طالما وصفتها تقارير اقتصادية دولية بأنها “غير واقعية، ولا تتماشى مع القدرات الاقتصادية والبيئة الاجتماعية للمملكة”، كما حذّرت من تداعيات الفشل في تطبيقها.
– مؤشرات الفشل
ومن خلال الرصد المعمق لواقع وحقيقة مؤشرات الاقتصاد السعودي- قبل استعراض التوقّعات والتحليلات الدولية التي تتحدّث عن فشل رؤية 2030- يتبيَّن أن الاقتصاد الأقوى عربياً يواجه تحدّيات قاسية؛ بدأت بتراجع أسعار النفط عالمياً عام 2014.
إضافة إلى ذلك فإن تكلفة النفط بدت باهظة؛ وذلك بسبب مشاركة الرياض في التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش”، علاوة على قيادتها للتحالف الذي يخوض حرباً على مليشيا الحوثيين في اليمن، المتّهمة بتلقّي دعم من إيران.
وكذلك، التكلفة المالية للحروب والعمليات العسكرية، وتهديدات صواريخ مليشيا الحوثيين على الأراضي السعودية، ومنها العاصمة الرياض، وأيضاً حصار دولة قطر، ومقتل خاشقجي مطلع أكتوبر الماضي، ولاحقاً تداعيات مقاطعة الحكومات والشركات لمؤتمر “دافوس الصحراء”، الذي أخذ حيزاً كبيراً في الترويج الإعلامي.
هذا المؤتمر بنى عليه ولي العهد آمالاً كبيرة لجذب الاستثمار ورجال الأعمال، لكن مقاطعته شكلت ضربة قاضية لآخر ما تبقى من طموحاته في تطبيق رؤية 2030، ورسمت صورة أكثر وضوحاً عن المملكة وحقيقة التراجع الاقتصادي في البلاد؛ وعلى رأسها الاستثمارات الأجنبية وهروب المستثمرين.
وبحسب الصحيفة البريطانية، فقد عرَّض قتل خاشقجي قدرة المملكة على اجتذاب التمويل والمهارات التكنولوجية العالية للخطر، إذ يقول شتيفن هيرتوغ، من كلية لندن للاقتصاد، وأحد الاستشاريين في القطاع الخاص: “إن الجريمة ستعود بالمملكة إلى الوراء”.
وأضاف: “منذ يوم الحدث الذي هز الرأي العام العالمي، نَأَى مستشارو نيوم، ومن بينهم المهندس المعماري نورمان فوستر، بأنفسهم عن المشروع، وهذا كله متعلق بالخطر السياسي والسمعة المرتبطة بولي العهد؛ لذا يبقى نيوم موضع شك”.
– صراع من أجل البقاء
ووعد بن سلمان رجال الأعمال الذين التقى بهم، بحسب “فاينانشال تايمز”، بأن المملكة التي تعتمد على النفط سوف تستثمر بشكل أكبر في الاقتصاد التقليدي وفق ما يعرف بـ”رؤية 2030” التي تهدف إلى تحديث المملكة، والنهوض بها اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.
لكن ستيفن هيرتوغ، الخبير أيضاً في الشؤون الخليجية بكلية لندن للاقتصاد، يقول إن “السعودية تعود إلى الخلف وتجرب ما جربته سابقاً.. إنهم يعودون إلى اللحوم والبطاطس”.
وكان الاقتصاد السعودي يكافح بالفعل من أجل البقاء قبل أن يؤدي مقتل خاشقجي إلى نشوب أكبر أزمة دبلوماسية بين السعودية والغرب منذ هجمات سبتمبر عام 2001 في الولايات المتحدة، في وقت خرج بن سلمان بنتيجة أجبرته على التخلي عن آماله بالشركات العالمية والتوجه إلى الشركات المحلية المتعثرة، في ظل تلاشي شهية المستثمرين من الخارج.
ومنذ إعلانها في أبريل 2016، توقّعت تقارير صادرة عن مؤسسات اقتصادية دولية فشل السعودية في تطبيق رؤية 2030. وأبرز هذه التوقّعات نشرتها وكالة “بلومبيرغ” الاقتصادية الأمريكية وموقع “ميدل إيست آي” البريطاني، وأجمعت على “فشل خطط المملكة في تنويع المصادر الاقتصادية”.
وأشار الموقع البريطاني إلى أن “اقتصاد السعودية أحاديّ المصدر منذ اكتشاف النفط عام 1938، وقد أدخلت الحكومات المتعاقبة 10 خطط إنمائية على الاقتصاد، أوّلها عام 1970 وآخرها عام 2015، جميعها حملت هدفاً استراتيجياً واحداً؛ وهو تحقيق اقتصاد متنوّع لا يعتمد كلياً على النفط”.
– تراكمات وواقع معقد
“ميدل إيست آي” قال أيضاً: “لقد فشلت الخطط التسع الأولى فشلاً ذريعاً في تحقيق هذا الهدف؛ إذ لم تتمكّن السعودية من إحراز أي تقدّم واضح يتعلّق بالبنية التحتيّة الصناعية التي لم تتجاوز وجود بعض مصانع البلاستيك والبتروكيماويات والأغذية الأساسية”.
وبحسب رؤية 2030، من المفترض أن تحقّق الحكومة هدفها من خلال بيع الأصول العامة وإعادة استثمار الأموال، وزيادة الإيرادات من خلال قنوات جديدة بخلاف النفط، ولكن هذا ليس صحيحاً، بحسب الموقع البريطاني؛ لأن قيمة تلك الأصول لا تزال مستمدّة من الاقتصاد الذي يعتمد على عائدات البترول.
وأرجع الموقع توقّعه بفشل رؤية 2030 إلى أن “الحكومة السعودية تفتقر لمقوّمات القيادة في عصر ما بعد النفط؛ بسبب اعتمادها على المال السهل والسريع من مبيعات البترول”.
ويرى أن “الاستثمار الحقيقي الذي لا يعتمد على النفط يحتاج إلى وقتٍ لكسب المال، والسعودية لديها سجلّ حافل بعدم الانضباط في مجال الاستثمار، ففي أوقات ازدهار الأسعار تستثمر فوائضها النقدية، وعند انهيار الأسعار تسارع بتصفية أصولها”.
ما جاء في الموقع البريطاني، تطابق مع تقرير بـ”بلومبيرغ” الأمريكية الذي أكدت فيه أن “الرؤية القائمة على تنوّع الاقتصاد السعودي لا تزال بعيدةً عن التجاوب؛ بفعل تباطؤ نمو الاقتصاد غير النفطي في المملكة”، معتبرةً أن “جهودها قد فشلت حتى الآن؛ لأن التغيير الذي يقوم به ولي العهد لن يتماشى مع القدرات الاقتصادية والبيئة الاجتماعية في البلاد، وطموحاته لا يمكن أن تنجح”.
وحذرت من أن “الخطط الاقتصادية ستصطدم بلا شكّ بواقع معقّد تراكمت معالمه على مدار السنوات الماضية، ولا يمكن من خلاله تنفيذ هذه الطموحات”، مشيرة إلى أن “غياب التوازن والدقة” في إطلاق المملكة للمشاريع العملاقة يقود إلى فشلها”.
ويقول الكاتب الاقتصادي في مجلة “فوربس”، دومينيك دادلي: إن “كل أفكار بن سلمان؛ من إنشاء مدن جديدة، وفتح أسواق للسياحة والترفيه، وتخفيف قيود الملكية الأجنبية للشركات المدرجة بالبورصة السعودية، تعتمد على إقناع المستثمرين الأجانب بجلب أموالهم إلى المملكة، لكن النزعة الاستبدادية للنظام السعودي قوَّضت ثقة المستثمرين الحاليين والمحتملين”.
الخليج أونلاين