قال الكاتب الأمريكي ديفيد إغناتيوس إن الصحفي السعودي جمال خاشقجي، الذي قُتل في قنصلية بلاده بإسطنبول في الثاني من أكتوبر الماضي، دفع حياته ثمناً لصراع أقوى عائلتين داخل الأسرة السعودية الحاكمة، في طريق محاولة كل منهما التسلط والتحكم بمواقع القرار في السعودية.
وتابع الكاتب في مقال مطول له بصحيفة واشنطن بوست الأمريكية، أن جذور الصراع بين عائلة سلمان بن عبد العزيز وأخيه عبد الله بن العزيز تعود إلى يناير من العام 2015، عندما كان الملك الراحل عبد الله على فراش الموت في المستشفى، وقتها سعى أبناؤه إلى التأخر في إبلاغ خليفته وولي عهده سلمان بحالة أخيه، في محاولة منهم للاستحواذ على المال والسلطة.
وبعد أن استتب الأمر للمك سلمان، بدأ نجله محمد قصة الصعود التي ستمتد تفاصيلها إلى العديد من دول العالم، حتى وصلت لمحاولة خطف أحد أفراد حاشية ابن الملك الراحل عبد الله في أغسطس من العام 2016 في العاصمة الصينية بكين، التي تبدو كأنها فصل من فصول أفلام التجسس.
ويقول الكاتب إن ولي العهد الحالي محمد بن سلمان صار أكثر عدوانية منذ ربيع 2017، حينما كلف فريقاً من عملاء الاستخبارات السعودية تنظيم عمليات لخطف المنشقين في الخارج والداخل، بحسب خبراء أمريكيين وسعوديين، حيث قام بن سلمان باحتجاز العديد منهم في معتقلات سرية، ولجأ السعوديون لاستجوابات قاسية بحق المعتقلين، وهو على ما يبدو تعبير ملطف عن عمليات التعذيب لإجبارهم من أجل التوقيع على اعترافات.
وبحسب خبراء أمريكيين وسعوديين تحدث إليهم الكاتب، فإنهم راجعوا النتائج الاستخباراتية لجريمة قتل خاشقجي، وأكدوا أنه قُتل من قبل فريق في البلاط الملكي السعودي، تم تشكيله قبل 18 شهراً، وكان خاشقجي على علاقة جيدة مع قطر وتركيا ويكتب في صحيفة واشنطن بوست عن بن سلمان.
ويشير الكاتب إلى اعتراض المخابرات الأمريكية قبل ثلاثة أشهر من مقتل خاشقجي، مكالمة فيها أمر من بن سلمان بضرورة إعادة خاشقجي، وهي المكالمة التي رُصدت في يوليو 2018 ولم تفهم المخابرات الأمريكية مغزاها الإ بعد ثلاثة أشهر، أي بعد مقتل خاشقجي.
عين أمريكية على البلاط السعودي
كانت المخابرات الأمريكية ترصد هذه العلاقات الشائكة داخل العائلة السعودية الحاكمة، ويشير الكاتب هنا إلى السفر المفاجئ لصهر الرئيس دونالد ترامب ومستشاره جاريد كوشنر إلى الرياض في أواخر أكتوبر من العام 2017، الذي كان على علاقة جيدة مع بن سلمان، حيث أبلغه بوجود “مؤامرة انقلابية” عليه من قبل أعضاء في الأسرة الحاكمة، وبعد مرور أسبوع على تلك الزيارة قام بن سلمان بحملة اعتقالات شملت نحو 200 أمير ورجل أعمال تم احتجازهم في فندق الريتز كارلتون بالرياض.
الأمير الطموح تركي بن عبد الله، ابن الملك الراحل، تصدر قائمة الاعتقالات التي نفذها بن سلمان، وهو لايزال في السجن حتى الآن، في حين قتل أحد أكبر مساعديه، اللواء علي القحطاني داخل المعتقل.
من هنا بدأ الصراع
يعود جذر الخلاف بين أطراف العائلة الحاكمة إلى يناير من العام 2015 عندما أصيب الملك الراحل عبد الله بسرطان الرئة وتدهورت حالته الصحية، حيث نقل بواسطة طائرة مروحية من “روضة خريم” حيث معسكره الصحراوي إلى المستشفى العسكري التابع للحرس الوطني في الرياض، وكان وقتها محاطاً بأبنائه ومساعديه في القصر، وعنما دخل في غيبوبة، حاول الديوان الملكي التكتم على مرضه القاتل لفسح المجال أمام دراسة تكهنات آلية التعاقب على الحكم في إطار سعي أبناء الملك عبد الله لتنصيب أخيهم متعب، الذي كان رئيساً للحرس الوطني.
في 23 يناير وصل الأمير سلمان إلى المستشفى، سأل عن أخيه، بحسب خالد التويجري، الذي كان حينها رئيساً للديوان الملكي، الذي تم اعتقاله لاحقاً عام 2017.
ويتابع: “غضب سلمان حينما عرف بحالة أخيه دون أن يبلغه أحد، وقام بضرب رئيس الديوان الملكي آنذاك، وسُمعت أصداء حالة الغضب التي انتابت الملك الحالي في أرجاء المستشفى، علماً أن عبد الله كان قد مات فعلياً وقتها”.
وينقل الكاتب عن طارق عبيد، مسؤول تنفيذي في مجال الأعمال في السعودية وكان يقدم مشورة لعائلة الملك عبد الله قوله: “كان خالد التويجري مدمراً جداً لأبناء الملك عبد الله”.
كان أفراد العائلة المالكة يتجسس بعضهم على بعض في إطار صراعهم على خلافة عبد الله التي كانت تلوح بالأفق بسبب مرضه، فلقد قامت عائلة عبد الله بشراء جهاز تنصت صيني يمكنه الكشف سرياً عن أرقام الهواتف في نطاق 100 ياردة دون الوصول إلى الهواتف المباشرة، وكانت أجهزة المراقبة مخبأة في منافض السجائر وغيرها من المواد المتناثرة حول القصور الملكية في الرياض من أجل معرفة أي مؤامرة سياسية.
يبرز هنا اسم سعود القحطاني، بحسب الكاتب، الذي يقول عنه، إنه كان عضواً سابقاً في القوات الجوية ولديه ميل نحو عمليات القرصنة ومتعطشاً للمال، ليبدأ بعد ذلك مساعدة محمد بن سلمان في تعزيز سلطته وخاصة في الأشهر الأولى.
كانت عائلة سلمان تشك في البداية في القحطاني لأنه عمل كأحد مساعدي خالد التويجري في البلاط الملكي منذ أوائل العقد الأول من القرن الحالي، وقد تم استجواب القحطاني وتعرض للضرب في الأيام الأولى لصعود نجم محمد بن سلمان، بحسب أحد المصادر في القصر، لكن سرعان ما ثبت ولاؤه لبن سلمان مع رغبة جامحة لديه من أجل الانتقام.
تولى القحطاني منصب مدير مركز الدراسات والشؤون الإعلامية في الديوان الملكي، وكان يعمل على تغذية شكوك بن سلمان حول المنافسين المحتملين والمخططين للانقلاب، كما بدأ بتجميع أسلحة سيبرانية لاستخدامها نيابة عن بن سلمان.
وفي يونيو 2015 اتصل القحطاني بمجموعة إعلامية غامضة وتعرف على آليات الإنترنت السرية، وفي 29 يونيو 2015 بعث القحطاني رئيس فريق القراصنة الذي شكله لمقابلة رئيس تلك المجموعة، وأبلغه بأنه يود أن يكون هناك تعاون مثمر بين الديوان الملكي والشركة وعقد شراكة طويلة ومثمرة.
سياسة الإقصاء وصعود بن سلمان
بدأت عائلة الملك سلمان في ممارسة السياسة الأسرية المتشددة منذ الأسبوع الأول لتولي السلطة، ففي أواخر يناير 2015 أصدر سلسلة مراسيم نحى بموجبها اثنين من أبناء الملك عبد الله، وهما تركي ومشعل اللذان كانا حاكمين على الرياض ومكة على التوالي.
كما تم تنصيب ابنه محمد وزيراً للدفاع وهو لم يبلغ بعد التاسعة والعشرين من عمره، في حين عين محمد بن نايف الشخصية القوية والمفضلة لدى الأمريكيين ولياً لولي العهد الأمير مقرن، رئيس الاستخبارات السابق.
عزز سلمان وابنه سيطرتهما على السلطة من خلال إغراء الأمير مقرن لتنحيته من الحكم، حيث تم إغراؤه بالمال، ومنحه الملك يختاً فاخراً يبلغ طوله 280 قدماً بالإضافة إلى امتيازات مالية أخرى، بحسب مصدر سعودي كان مطلعاً على تلك التفاصيل، بعد ذلك تم تعيين محمد نائباً لرئيس مجلس الوزراء.
ويصف الكاتب محمد بن سلمان بأنه رغم عدم بلوغه سن الثلاثين عاماً، فإنه كان “ميكافيلياً”، وشجعه في ذلك محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي، وأيضاً “طحنون” كبير مسؤولي المخابرات الإماراتية، الذي كان يزور بن سلمان في يخته بشكل متكرر خلال السنة الأولى.
اكتسب بن سلمان سمعة جيدة في السعودية بصفته شخصية متحدثة ولبقة، وأيضاً قوية، وذكرت مصادر أنه قام بإرسال رصاصة عبر رسالة إلى مسؤول تسجيل الأراضي الذي كان يعيق عملية نقل ملكية أراض باسمه.
هذه الحادثة كان يفترض أن تكون علامة تحذير، كما يقول الكاتب، لقد تمادى بن سلمان، وبدأ يخطط بشكل فعلي للصعود إلى السلطة، ففي العام 2016 سافر مبعوث أمريكي للرياض من أجل لقاء ولي العهد آنذاك محمد بن نايف، غير أنه في المطار بعد وصوله أبلغوه أنه سيلتقي بمحمد بن سلمان، وتم منعه من مقابلة بن نايف.
في العام نفسه، سافر مسؤول استخبارات سعودي يدعى سعد الجابري للقاء جون برينان مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية آنذاك، وكان الجابري من المحسوبين على بن نايف، وفور عودته إلى الرياض تم طرده من منصبه لأنه لم يبلغ بن سلمان، ويعيش الجابري حالياً في المنفى.
كان أفراد عائلة عبد الله يراقبون ما يجري في حين كان بن سلمان يزحف إلى السلطة التي كانت ذات يوم بيدهم، وكان أعضاء في إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما غير مرتاحين لبن سلمان وتحركاته.
حاول أبناء الملك الراحل عبد الله أن يلتقوا بمسؤولين أمريكيين، كان من بينهم الأمير تركي الذي التقى بعدد من مسؤولي الاستخبارات الأمريكية ووزارة الخارجية، يرافقه اللواء القحطاني، الذي مات في المعتقل لاحقاً.
كانت تلك اللقاءات تهدف لجمع معلومات عن محمد بن سلمان وتاريخه، وتشير بعض التفاصيل في تلك اللقاءات التي جرت أن تركي حذر الأمريكيين من بن سلمان، معرباً عن قلقه من إمكانية تدهور العلاقات الأمريكية السعودية، لكن دون أن يقترح أي تغييرات في الحكم.
يقول طارق عبيد الذي كان مقرباً من الأمير تركي وقتها، إن تلك اللقاءات التي جرت في واشنطن كانت محاولة لتقديم تقييم استراتيجي حول وجهة نظر الولايات المتحدة بشأن السعودية ومكانتها.
لكن في يونيو 2016 وصل بن سلمان إلى واشنطن وعقد اجتماعاً مع الرئيس باراك أوباما ومسؤولين آخرين، وحتى ذلك الحين كانت إدارة أوباما محايدة بشأن التوتر الحاصل في العائلة الحاكمة بالسعودية، لكن أوباما أعجب بالطاقة والرسالة التي حملها بن سلمان، ومنذ ذلك التاريخ بدأت الولايات المتحدة تميل نحو الأمير الصغير، بحسب ما تشير إليه الصحيفة.
سافر عبيد إلى الصين عام 2016 لمشاركة الأمير تركي في اجتماع المنتدى المالي الدولي الذي عقد في سبتمبر، تمهيداً لقمة العشرين التي سيحضرها بن سلمان، ولكن وصول تركي قبله ومشاركته بقوة، حملا رسالة حول التنافس الجاري بين العائلتين.
كان عبيد ممثل تركي في مناقشة مشروع تجاري ومهم مع الصين، حيث سافر إلى هناك في أوائل أغسطس للتفاوض وكان مقرراً أن يعقد اجتماعاً في فندق بارك حياة الفخم، وخلال الاجتماع الذي ضم عدة شخصيات تجارية هامة حول العالم، حذر عبيد من مخاطر الاكتتاب على شركة أرامكو السعودية مؤكداً أن ذلك سيكون له تأثير على الركائز الرئيسية للحكم.
تحذيرات عبيد فهمت بأنها محاولة لحث الصينيين على دعم النظام السعودي التقليدي الذي كان تحت حكم الملك الراحل عبد الله.
بعد أسبوع من هذا التحذير تلقى عبيد مكالمات هاتفية من أرقام سعودية مجهولة لم يرد عليها، وفي النهاية اتصل به خالد حميدان رئيس المخابرات العامة، وأبلغه برغبة الديوان الملكي بعودته على الفور، حينها أبلغه عبيد بأنه سيرجع في هذا الأمر للأمير تركي.
تركي من جهته اتصل بحميدان وسأله إن كان الملك سلمان هو من أمر بذلك شخصياً، غير أن حميدان قال إنه طلب الديوان الملكي، حينها أبلغ تركي عبيد بالبقاء وعدم العودة.
وفي أغسطس 2016، تم استدعاء عبيد لمكتب شركة طريق الحرير في بكين، حيث طار بطائرة خاصة من شنغهاي إلى العاصمة وبمجرد وصوله إلى هناك قامت مجموعة كامنة بطائرة بمنطقة نائية من المطار بالانقضاض عليه ونقله إلى تلك الطائرة وكانت تقل نحو 40 عنصراً أمنياً صينياً ومعهم قائد المجموعة وكان يتكلم العربية، وأبلغه أنهم من وزارة أمن الدولة، وأن عليه أن يتعاون معهم، ونقل إلى مكان ما في بكين مكبل اليدين.
مصدر في المخابرات الصينية قال إن عبيد كان “ممولاً إرهابياً” لمجموعة باكستانية متشددة لعرقلة قمة العشرين التي كان مقرراً إجراؤها في الشهر المقبل من ذلك العام.
لحسن الحظ كان الفنيون يتفحصون هاتفه المحمول وجهاز الآي باد الخاص به، حيث خلص الصينيون بسرعة إلى خطأهم وأن السعوديين أعطوهم معلومات كاذبة من أجل إلقاء القبض على عبيد وتسليمه للرياض.
وقتها أبلغه ضابط صيني بأن “هناك عشرات الاتصالات من السعودية وردتهم تؤكد لهم أنك إرهابي، وأنك تمول تنظيماً لتفجيرات تتزامن مع قمة العشرين، يبدو أنك متورط بين قوتين تتصارعان في بلادك”، بحسب ما قاله المسؤول الصيني لعبيد.
بن سلمان غضب من فشل تلك العملية وقام بإقالة نائب رئيس الاستخبارات ويدعى الإدريسي واستبدله بأحمد عسيري.
ثم يتطرق الكاتب إلى الانقلاب الداخلي الذي كان يعد له على بن سلمان، مشيراً إلى أن ولي العهد الحالي لم يتعلم من درس عبيد الذي سبب حرجاً كبيراً للسعودية، حيث قام فريق النمور التابع لبن سلمان وأعضاء بينهم سعود القحطاني وتركي آل الشيخ، بعمليات واسعة لخطف شخصيات قيل إنها متآمرة.
جنون العظمة المتوحش
يقول الكاتب إن أكثر شيء إزعاجاً هو أن هذا التنافس العائلي ساعد على “إثارة جنون العظمة” الذي دفع ثمنه خاشقجي، فمن محاولة خطف طارق عبيد في الصين إلى قضية اعتقال واختفاء العشرات من الأمراء ورجال الأعمال والنشطاء، سلسلة أخطاء ما زالت ترتكب لتتوج بعملية قتل خاشقجي التي نفذت من قبل فريق الاغتيال التابع لمحمد بن سلمان.
ويضيف أنه يبدو أن عملية خطف عبيد وقتل خاشقجي نظمتا من قبل خلية خاصة في البلاط الملكي، حيث كان القحطاني مشرفاً رئيسياً، ولم تنفذ من قبل المخابرات السعودية، وهو أمر يعتقده الأمريكيون الذين يرون في جهاز المخابرات السعودي عامل استقرار وليس زعزعة.
ويقول الكاتب إن بن سلمان والقحطاني تبادلا الرسائل قبل يومين من اغتيال خاشقجي، وما لم يتم الكشف عن فحوى تلك الرسائل فربما سيكون المستحيل وجود دليل مادي على تورط بن سلمان في تلك القضية.