وصف الناشط الحقوقي “محمد سلطان” الأحكام الابتدائية في قضية مقتل الكاتب الصحفي السعودي “جمال خاشقجي” بأنها “أوقح من الجريمة” وتفتح الباب أمام مزيد من الاغتيالات بحق المعارضين العرب.

وأكد “سلطان”  في مقال نشره بصحيفة واشنطن بوست الأمريكية الثلاثاء، أن الأحكام جاءت في إطار المحاولات السعودية لجعل حفنة من الأفراد كبش فداء للجريمة وصرف الانتباه عن تورط قيادة المملكة بها.

وأشار إلى أن “توقيت” صدور هذه الأحكام اختير بعناية كي يتواكب مع بلوغ القدرات في الحكومة والإعلام أدنى مستوياتها السنوية تزامنا مع موسم العطلات الغربي وسائل الإعلام الأمريكية على قضية عزل الرئيس “دونالد ترامب” ومحاكمته في مجلس الشيوخ.

وكشف “سلطان” عن تفاصيل مكالمة هاتفية جرت بين “خاشقجي” والمستشار السابق بالديوان الملكي السعودي “سعود القحطاني”، المقرب من ولي العهد “محمد بن سلمان”، تؤكد الموقف غير الودي تجاه الكاتب الصحفي السعودي من قبل سلطات المملكة.

 

وفيما يلي نص المقال:

كانت نتائج محاكمة السعودية السرية في مقتل “جمال خاشقجي” إجهاضًا مقيتًا للعدالة توج محنة مضطربة ومزعجة.

فأي مراقب للوضع كان يتوقع أن تتصرف الملكية السعودية كما فعلت في الماضي، دون أدنى مظهر من الإجراءات القانونية أو سيادة القانون. وكانت محاولات جعل حفنة من الأفراد كبش فداء لهذه الجريمة الشنيعة لصرف الانتباه عن تورط قيادة المملكة أمرًا متوقعًا أيضًا.

لكن المحاولة الوقحة لدفن أشهر قضية قتل بالعقد الماضي في نهاية العام هي أكثر جرأة تقريبًا من الجريمة نفسها، التي وقعت منتصف النهار على أرض أجنبية، وداخل بعثة دبلوماسية.

لم يكن التوقيت من قبيل المصادفة، فقد أنهى السعوديون بشكل مريح هذه المحاكمة السرية خلال موسم العطلات، في وقت بلوغ القدرات في الحكومة والإعلام أدنى مستوياتها السنوية.

يتزامن هذا أيضًا مع تركيز وسائل الإعلام الأمريكية على عزل الرئيس ومحاكمته في مجلس الشيوخ.

وفي الوقت نفسه، يبدو أن وسائل الإعلام الناطقة باللغة العربية خففت من تغطيتها للسعودية لاستيعاب التقارب الذي تم التكهن به على نطاق واسع بين قطر والمملكة.

هذه كلها شروط أساسية تسهل المحاولة السعودية لدفن مقتل خاشقجي بينما تتجه إلى عام 2020.

ويوضح الحكم مدى التجرؤ الذي أصبح عليه ولي العهد السعودي الأمير “محمد بن سلمان”، فقد حكمت المحكمة الجزئية بالمملكة تاريخياً على خمسة مسؤولين من الرتب الدنيا بالإعدام وعلى ثلاثة آخرين بالسجن لمدة 24 سنة، بينما تمت تبرئة جميع العقول المدبرة في سلسلة القيادة – وهم القنصل السعودي العام السابق في إسطنبول “محمد العتيبي”، ونائب رئيس المخابرات السابق اللواء “أحمد عسيري” وأقرب مستشار لـ “بن سلمان”، “سعود القحطاني”  بسبب “عدم كفاية الأدلة”.

وقد تم فصل الثلاثة من مناصبهم بسبب جريمة القتل المذكورة في تقرير المقررة الخاصة للأمم المتحدة، كما تمت معاقبة “العتيبي” و”القحطاني” من قبل الولايات المتحدة بعد أن وجدت وكالة الاستخبارات المركزية ووزارة الخزانة أنهما متورطان في الجريمة.

ويعكس الحكم أيضا إحساس “بن سلمان” بالحصانة بعد أن نجا من أسوأ موجة من الانتقادات في تاريخ المملكة الحديث.

إنه لا يشعر فقط بالحصانة من أي محاسبة على جريمة القتل، بل إنه يحاول الآن أيضًا مد هذه الحصانة إلى معاونيه.

ليس سراً أن “القحطاني” هو المنفذ الفعلي لأوامر “بن سلمان”، فبعد حوالي شهرين من دخول “خاشقجي” إلى منفاه الاختياري في سبتمبر / أيلول 2017، كنت حاضراً لأجل مكالمة بين “خاشقجي” و”القحطاني” طلب مني “جمال” تسجيلها.

كانت مكالمة قصيرة، مدتها دقيقة واحدة و 42 ثانية، وبدأها “القحطاني” بتوضيح مكانته، مشيرًا إلى أنه يتصل نيابة عن “بن سلمان”، الذي طلب منه أن يشكر “خاشقجي” على تغريداته لدعم الحكومة السعودية حين أعلنت أنها سترفع الحظر المفروض على قيادة النساء للسيارات.

وأخبر “القحطاني” جمال أن الأمير تابع أعماله عن كثب وكان مسروراً برؤية التغريدة.

أجاب جمال بسرعة: “الرجاء إرسال تحياتي إلى صاحب السمو وأخبره أن واجبي فقط كوطني أن أشيد بالإصلاحات الإيجابية التي اتخذتها الحكومة”.

كان من الممكن أن يتوقف جمال عند هذا الحد بسهولة، ويستفيد من العلاقة التي بناها للتو مع أقوى رجل في المملكة ويطلب رفع حظر سفر ابنه، لكنه لم يفعل. فقد تابع بينما اهتزت يده بشكل لا يمكن السيطرة عليه وارتجف صوته، قائلا: “وعندما تكون هناك تجاوزات، سننتقد”.

وعلى الرغم من الخوف الغامر الذي كان يشعر به، فقد استخدم “خاشقجي” بقية المكالمة ليدعو إلى إطلاق سراح السجناء السياسيين والمثقفين والكتاب والدعاة.. سماهم على عجل ودعا إلى إطلاق سراحهم.

وهنا سرعان ما تحول صوت “القحطاني” إلى العدوانية، ليقاطع “خاشقجي” قائلًا: “هؤلاء خونة، وتهديد للأمن القومي”، لكن “جمال” أجاب متحديا: “يمكنني أن أشهد على وطنيتهم ​​وحبهم للبلاد”، لينهي “القحطاني” المكالمة بإحباط قائلا: “سيتم الكشف عن الأدلة في الوقت المناسب”.

يقول علم النفس الاجتماعي إن النجاة من تهديد مُهلِك وشيك يزيد من الرغبة في المخاطرة لدى الناجي وإحساسه بأنه منيع لا يقهر.

هذا يعني أن “القحطاني” و”بن سلمان” ومعاونيهم سيواصلون ن رفع حدود ما يمكنهم الإفلات منه، ويشجعهم على ذلك إفلاتهم من عواقب ما بدا أنه فعل وحشي لا يمكن الإفلات منه.

وفد نشر “القحطاني” بالفعل قصيدة عودة طويلة تحتفل “بالنصر الموعود”، وحشد حملة على وسائل التواصل الاجتماعي تتغنى بالثناء عليه، فيما بث التلفزيون الوطني تحقيقا يحتفل بتبرئته.

مقتل جمال لم يحدث من فراغ. لقد كان تجليًا قبيحًا لجميع الجرائم التي ارتُكبت بحق سكان المنطقة العربية منذ الربيع العربي والافتقار المطلق إلى المساءلة.

والآن، ومع مثل هذه الجريمة الصارخة التي تبعها إفلات مطلق من العقاب، نتساءل: ما المزيد الذي يجب أن يتوقعه المعارضون من ولي العهد ومعاونيه؟

لا يتعلق الأمر بالعدالة التي يستحقها جمال، أو حتى بإرضاء أصدقائه وعائلته، بل بالردع، حتى لا يُقتل معارض آخر في هايد بارك بلندن، أو يُختطف من إحدى ضواحي تورونتو أو يُعتدَى عليه في حانة بواشنطن.

عندما نسعى لتحقيق العدالة والمساءلة، فإننا لا نسعى للانتقام لمقتل “جمال”، بل نحاول تأمين مستقبل قريب يمكن أن نعيش فيه دون خوف دائم من الاغتيال وتقطيع الأوصال.

إذا أغلقنا ملف مقتل “خاشقجي” دون مساءلة مناسبة، فلن يعود هذا استثناء بعد الآن، بل سيصبح قاعدة جديدة.