استجابة لقرارات قضائية ووعودها بانتهاج الشفافية، توشك إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” على الإفراج عن تقرير استخباراتي طال انتظاره، ويخلص إلى أن ولي العهد السعودي الأمير “محمد بن سلمان” أمر بقتل الصحفي “جمال خاشقجي” عام 2018.

التقرير، الذي أعده مكتب مدير المخابرات الوطنية (ODNI)، وهو مصنف “غير سري” في أوساط مجتمع الاستخبارات، سيتم نشره في وقت مبكر من الأسبوع المقبل، وفقا لأشخاص مطلعين على الأمر.

وتأتي خطط الإفراج عن التقرير في الوقت الذي تراجعت فيه العلاقات الأمريكية – السعودية إلى مستوى منخفض جديد خلال الأسابيع الأخيرة، مع إلغاء إدارة “بايدن” لمبيعات أسلحة كانت مخصصة للمملكة، وانتقاد انتهاكات حقوق الإنسان ومضايقة المعارضين فيها، والتعهد بـ”إعادة ضبط” العلاقات معها.

وقالت الإدارة إنها ستواصل تزويد السعودية -أكبر مشتر في العالم للأسلحة الأمريكية- بوسائل الدفاع عن نفسها ضد الخصوم الإقليميين، بما في ذلك إيران والمتمردون الحوثيون المدعومون من إيران في اليمن المجاور، وأكدت أنها تريد الاستمرار في شراكة قوية معها لمكافحة الإرهاب.

لكنها أوضحت أنها، على عكس سابقتها، ستضغط على السعوديين من أجل وضع نهاية دبلوماسية لحربهم في اليمن، وتخفيف تطرفهم، ولن تسمح للرياض بالتدخل في خططها لاعادة الانضمام للاتفاق النووي مع إيران، الذي تم التوصل إليه في عهد إدارة الرئيس الأسبق “باراك أوباما”.

وفي خطوة اُعتبرت على نطاق واسع ازدراءً، قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض “جينيفر ساكي”، الثلاثاء، إن الرئيس “بايدن”، الذي لم يتواصل مباشرة حتى الآن مع حكام السعودية، لن يتحدث مع ولي العهد “محمد بن سلمان”، الزعيم الفعلي للبلاد.

وأوضحت: “نظير الرئيس هو الملك سلمان، وأتوقع أن يُجري (بايدن) محادثة معه في الوقت المناسب”.

 

أجواء مشحونة

ويمكن لنشر تقرير “خاشقجي” أن يجعل الأجواء بين البلدين مشحونة. وعن ذلك، قال “ديفيد أوتاوي”، الخبير في الشأن السعودي بمركز ويلسون: “أعتقد أن ذلك سيضع بايدن على المحك فورا؛ حيث سيتعين عليه تحديد علاقته بالقيادة (السعودية)، والخطوات التي سيتخذها ردا على ذلك”.

وأضاف “أوتاوي”: “هناك الكثير من الأشياء التي تلقي بثقلها على العلاقة (مع السعودية)، وأشعر أنها تتجه للمزيد من السوء”.

وكان الرئيس “دونالد ترامب” جعل السعودية ركيزة أساسية لسياسة إدارته بمنطقة الشرق الأوسط، مختارا الرياض وجهة لأول رحلة رئاسية له في الخارج عام 2017، فضلا عن إشادته بالمملكة باعتبارها زعيمة العالم الإسلامي، وكزبون رئيسي مربح لصناعة الدفاع الأمريكية.

و”خاشقجي” هو صحفي سعودي اختار العيش بالمنفى، وكتب انتقادات لقيادة المملكة من منزله في فرجينيا، بما في ذلك عبر عموده في صحيفة “واشنطن بوست”.

وقتل بوحشية في أكتوبر/تشرين الأول 2018، عندما ذهب إلى قنصلية بلاده في إسطنبول للحصول على ورقة تتطلبها إجراءات إتمام زواجه من مواطنة تركية؛ حيث تم تخديره، وتقطيع جسده من قبل عملاء سعوديين، وفقا لتحقيقات الحكومة التركية والأمم المتحدة.

وعلى الفور بعد جريمة الاغتيال، توجهت الشكوك إلى الوريث الطامح في العرش (بن سلمان)، والذي كان يواصل مساعي تعزيز سلطته داخل العائلة المالكة.

وعلى الرغم من مزاعم الحكومة السعودية بأن ولي العهد لم يكن متورطا، خلصت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية “سي آي أيه”، في تقييم تم تسريبه في وقت لاحق من ذلك العام، إلى أن “بن سلمان” هو من أمر بالاغتيال.

لكن “ترامب” أصر على استبعاد صحة استنتاجات جهاز مخابراته، واصفا الجريمة بأنها “عملية مارقة”، واستمر في حماية ولي العهد.

وفي حديثه عن “بن سلمان” خلال مقابلة مع الصحفي “بوب وودوارد”، تفاخر “ترامب” بأنه “أنقذ مؤخرته” من محاولات الكونجرس تحميله مسؤولية جريمة قتل “خاشقجي”.

 

ضغوط الكونجرس

وفي أوائل 2019، أقر الكونجرس قانونا يمهل إدارة “ترامب” 30 يوما للإفراج عن تقرير مكتب مدير الاستخبارات الوطنية، وتضمن ذلك تقديم أدلة حول معرفة أو دور أي مسؤول حكومي سعودي حالي أو سابق أو شخصيات سياسية سعودية في “توجيه الأدلة أو الأمر بها أو التلاعب بها” في مقتل “خاشقجي”، وأمر محدد بالإفراج عن الأسماء.

لكن “ترامب” تجاهل ذلك. ففي فبراير/شباط 2020، أبلغ مكتب مدير المخابرات الوطنية قادة الكونجرس أنه “غير قادر على تقديم معلومات إضافية”، وأرسل لهم نسخة من تقييم “سي آي أيه” السري حول اغتيال “خاشقجي”.

وفي يوليو/تموز من العام ذاته، وردا على طلبات إضافية من المشرعين، جدد مدير المخابرات الوطنية “جون راتكليف”، التأكيد على أنه “لن يتم تقديم أي شيء”. وقال، بعد مراجعة إضافية، إن “الكشف عن التفاصيل الإضافية المحيطة بقتل خاشقجي من شأنه أن يقوض مصادر وأساليب الاستخبارات الأمريكية في جمع المعلومات”.

لكن في جلسة الاستماع التي انعقدت لتولي المحامية “أفريل دانيكا هاينز” منصب مدير المخابرات الوطنية في إدارة “بايدن”، سألها السيناتور “رون وايدن” (ديمقراطي) عما إذا كانت ستفرج عن تقرير “خاشقجي”. فأجابت: “نعم ، سنلتزم بالقانون”.

وفي بيان عبر مكتبه، قال “وايدن” هذا الأسبوع إنه “بعد 4 سنوات من تجاهل ترامب وتمكين السعودييين من انتهاك القانون، اتخذ الرئيس بايدن بالفعل خطوات لاستعادة المساءلة، من خلال إنهاء الدعم للحرب المروعة التي تقودها السعودية في اليمن، وإيقاف مبيعات الأسلحة إلى المملكة، واعدا بالإلتزام بالقانون الذي كتبته، ونشر تقرير خاشقجي. إنني أحث الإدارة على البناء على هذه الخطوات من خلال فرض عواقب حقيقية على المسؤولين السعوديين عن هذه الانتهاكات وغيرها”.

 

3 قضايا

وحتى بدون إعلان “هاينز” وضغوط الكونجرس، كانت الجهود نحو فرض الإفراج عن تقرير “خاشقجي” تتحرك بسرعة من خلال المحكمة الفيدرالية في المنطقة الجنوبية من نيويورك.

إذ رفعت “مبادرة عدالة المجتمع المفتوح” (جماعة حقوقية) قضيتين بالخصوص: الأولى تم رفعها بموجب قانون حرية المعلومات عام 2019، وتطالب بتقديم “جميع السجلات” المتعلقة بقتل “خاشقجي” ومن المسؤول عنه، بما في ذلك تقرير “سي آي أيه” السري.

وردا على أمر قضائي بتقديم أي شيء يفيد بالخصوص، طلبت إدارة “ترامب” في ديسمبر/كانون الأول 2020، تمديد الموعد النهائي لتلبية الأمر، وطلبت إدارة “بايدن” الآن تمديدا إضافيا حتى الشهر المقبل.

وفي قضية منفصلة الصيف الماضي، طلبت مبادرة عدالة بالإفراج عن خلاصة من ورقتين لتقرير مكتب مدير المخابرات الوطنية، وفي وقت متأخر من يوم الأربعاء، طلبت وزارة العدل تمديدا لمدة أسبوعين، حتى 3 مارس/آذار المقبل، للرد على على هذا الطلب.

وقالت الإدارة إنها بحاجة إلى مزيد من الوقت “لتقييم المسائل التي قد تؤثر على موقف الحكومة في هذا الخصوص”.

وتجاوبت مبادرة عدالة باتفاق على تمديد لمدة أسبوع، قائلة إنه “بحلول 24 فبراير/شباط، يجب على الحكومة تقديم جواب موضوعي للمحكمة فيما يتعلق بالخطوات التالية بالخصوص، بما في ذلك، على وجه التحديد، ما إذا كانت الحكومة تنوي من عدمه الاستمرار في حجب تقرير مكتب مدير المخابرت الوطنية حول “خاشقجي”.

بحلول ذلك الوقت، إذا التزمت “هاينز” بالإفراج عن خلاصة التقرير، فينتج عن ذلك نقاش واسع.

وعن ذلك، قالت “أمريت سينج”، محامية مبادرة عدالة، إن خلاصة التقرير من المتوقع أن تذكر أسماء، وقالت في مقابلة: “إذا قاموا بالإفراج عن أسماء الأفراد المسؤولين (عن جريمة قتل خاشقجي)، فسيؤدي ذلك إلى إلغاء الغرض من إصدار التقرير. تشير جميع الدلائل إلى أنه يمكن الإفصاح عن الأسماء دون المساس بالمصادر أو أساليب المخابرات في جمع المعلومات”.

والعام الماضي، رفعت “لجنة حماية الصحفيين” و”معهد نايت للتعديل الأول” (جماعة حقوقية) قضية ثالثة للمطالبة بسجلات تتعلق بواجب الحكومة في تحذير “خاشقجي” من أي تهديدات كانت تعرفها ضده.

ولا تزال هذه القضية في انتظار قرار محكمة الاستئناف في العاصمة بعد المرافعات الشفوية التي جرت في الأسبوع السابق لتنصيب “بايدن”.

وتشير التطورات الأخيرة، إلى أنه، حتى في الوقت الذي يستكشف فيه السعوديون شركاء بديلين للولايات المتحدة، بما في ذلك روسيا والصين، لشراء الأسلحة وقدرات الطاقة النووية، فقد اتخذوا بعض الخطوات استجابة لمخاوف إدارة “بايدن”، بما في ذلك إطلاق سراح بعض السجناء المعارضين مؤخرا.

 

لا يزال هناك أمل

ويعتقد بعض الخبراء أنه إذا كان كلا الجانبين السعودي والأمريكي راغبا، وتم اتباع دبلوماسية دقيقة، فلا يزال بإمكانهم إيجاد طريقة للعمل معا بشكل مثمر.

وعن ذلك، قالت “كارين يونج” من “معهد أمريكان إنتربرايز” في مقابلة: “بمجرد صدور هذا التقرير (تقرير مكتب مدير المخابرات الوطنية حول اغتيال خاشقجي)، وهو أمر مروع للغاية لولي العهد، سيكون الأمر متوترا”.

واستدركت: “لكنني أعتقد أن الجميع قد أخذ ذلك في الحسبان (…) فالكل يفهم أن هذا كان قرارا اضطراريا ولديهم ما يقومون بفعله للتعامل معه”.

ورأت أن أول عمل الآن يتوجب على الجانبين القيام به هو إعادة إنشاء “قنوات الاتصال المناسبة” التي تخلى عنها “ترامب”، والذي ترك معظم قنوات التواصل لعلاقة شخصية بين ولي العهد و”جاريد كوشنر”، صهره ومستشار البيت الأبيض.

وقالت “يونج” إن النظراء على مختلف المستويات الحكومية في الولايات المتحدة والسعودية “يحتاجون إلى التحدث مع بعضهم البعض عبر القنوات الروتينية والرسمية”.

ولكون “بن سلمان” يشغل أيضا منصب وزير الدفاع في بلاده، فمن المرجح أن تركز الإدارة على التواصل معه عبر المستوى الذي يناسب ذلك.

لكن “يونج” أجابت على سؤال بشأن ما إذا كانت ستكون هناك زيارات سعودية إلى المكتب البيضاوي؟ بالقول: “لا بالتأكيد”.