لم يأت الجدل الصاخب المصاحب لأول قداس للمسيحيين في المملكة العربية السعودية من فراغ، فالحدث هو الأول من نوعه في تاريخ المملكة، وسط خطط عن بناء أول كنيسة قريبا، غربي البلاد.
ومن المتوقع تكرار القداس، وتسريع وتيرة الانفتاح أمام نحو 1.4 مليون مسيحي يعيشون في المملكة، أي ما يزيد قليلا على 4% من مجمل السكان، ومعظم هؤلاء المسيحيين من العمال الوافدين، بحسب منظمة “أبواب مفتوحة”، المعنية بشؤون المسيحيين.
وتتجه المملكة إلى الموافقة على افتتاح كنائس للمسيحيين بالمملكة، وتبرز مدينة “نيوم”، كأحد الأماكن المحتملة لبناء أول كنيسة في السعودية.
القداس “وخاشقجي”
يبرز اسم الكاتب الصحفي الراحل “جمال خاشقجي” في المقام الأول، عند تفسير الخطوة السعودية، وأسباب التعجيل بها، وهو ما أقر به المتحدث الإعلامي باسم منظمة اتحاد أقباط المهجر، “مدحت قلادة”، مؤكدا أن تنظيم القداس القبطي “بلا شك محاولة لتبييض وجه النظام السعودي خاصة بعد حادث مقتل خاشقجي”.
ولم يكتف “قلادة” بذلك، بل انتقد في تصريح صحفي ما اعتبره تمييزا دينيا ضد الأقباط المتواجدين بالسعودية، قائلا إنه “لا يمكن لمسيحي أن يدخل إلى بعض المناطق مثل مدينتي مكة والمدينة”.
نفس الاتجاه ذهب إليه حساب “العهد الجديد”، على “تويتر”، مؤكدا أن “القداس المسيحي المثير للجدل الذي أقيم في العاصمة السعودية الرياض لأول مرة بتاريخ المملكة، جاء بطلب شخصي من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان”.
وأضاف: “صحيح أن التخطيط لهكذا زيارة كانت ضمن الأجندة المطروحة أثناء زيارته إلى مصر في مارس/آذار الماضي، لكن توقيتها جاء ضمن حملة الاسترضاء الغربي التي يقودها بن سلمان عقب تورطه في اغتيال خاشقجي”.
وترأس مطران الكنيسة الأرثوذكسية المصرية بمنطقة شبرا الخيمة وتوابعها والمشرف على الأقباط في السعودية، الأنبا “مرقس”، لأول مرة قداسي صلاة بالسعودية، قبل أيام، في أثناء زيارته للمملكة.
وجه إصلاحي
خطوة القداس تعزز كذلك من توجهات “بن سلمان” في إظهار نفسه كوجه إصلاحي، يرغب في الانفتاح نحو الآخر، ويؤمن بحوار الأديان والثقافات، وهي الصورة التي تستهوي الغرب، وتحاول الرياض تسويقها كواجهة للملك المقبل.
المفكر القبطي المصري “كمال زاخر”، فسر إقامة القداس بأنه “خطوة في سياق أعم وأشمل تعيشه السعودية، نحو الانفتاح مع الديانات الأخرى، وكذلك المرأة”.
وأضاف في تصريح لقناة “الحرة”، أن إقامة القداس “خطوة مهمة”، جاءت بعد فترة من التضييق مثل حظر الكتب الدينية المسيحية في المملكة.
في السياق ذاته، اعتبر الباحث الحقوقي “إسحق إبراهيم”، أن إقامة القداس تعد أولى ثمار زيارة “بن سلمان” للبابا “تواضروس الثاني” في المقر الباباوي، وسط القاهرة، مارس/آذار الماضي.
وفسر الخطوة، بأنها محاولة من النظام السعودي لإعادة تسويق نفسه من خلال بعض الإصلاحات التي يقول إنها في سبيل الانتفاح على الثقافات الأخرى.
(إسرائيل) حاضرة
ولم تغب (إسرائيل) عن المشهد، بل ربما تكون مفتاح الخطوة، من بوابة الوفد الإنجيلي الأمريكي الذي زار الرياض، والتقى “بن سلمان” في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
وضم الوفد رؤساء منظمات أمريكية إنجيلية، بعضها لها علاقات مع (إسرائيل)، ومن بين هؤلاء “مايك إيفانز” مؤسس جماعة “فريق الصلاة بالقدس”، الذي يصف نفسه بأنه “زعيم صهيوني أمريكي مسيحي ورع”.
وعقب الزيارة، أكد رئيس الوفد “جويل روزنبرغ” أن “بن سلمان وعده بفتح كنائس في بلاد الحرمين”.
وجاء زيارة الوفد الإنجيلي الأمريكي، في وقت كان “بن سلمان” يواجه ضغوطا شديدة على خلفية مقتل “خاشقجي”، ويريد إيصال رسائل للإدارة الأمريكية، بقدرته على تقديم تنازلات باتجاه التطبيع مع تل أبيب.
ولذلك كان لافتا حديث “روزنبرغ” مع ولي العهد السعودي عن (إسرائيل)، قائلا: “من الحق القول إن هناك 60 مليون إنجيلي أمريكي يحبون (إسرائيل) والفلسطينيين ويتطلعون للزعيم العربي الذي يريد صناعة السلام”.
“بن سلمان” من خلال شراء لوحة “مخلص العالم” -التي تشير إلى المسيح عليه السلام- بقيمة 450 مليون دولار، إلى لقاء وفد الإنجيليين الأمريكيين، إلى زيارة بابا الأقباط الأرثوذكس في مصر، وليس أخيرا السماح بإقامة أول قداس في المملكة، يريد إيصال رسالة للخارج وليس للداخل، أنه الملك القادر مستقبلا على فتح أبواب التطبيع على مصراعيه، وفتح بلاد الحرمين أمام أصحاب الديانات الأخرى.
وفي مقابل التغاضي عن دماء “خاشقجي”، الذي قتل في قنصلية المملكة بإسطنبول، أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فإن ولي العهد السعودي يبرق رسالة صاخبة عبر القداس، مفادها أن التنازلات ممكنة إلى حد كبير، وأنه لا سقف أمام ما يراه انفتاحا مقابل ضمان العرش.
الخليج الجديد